خطبة : النفقة على الزوجة الموظفة

عدنان الدريويش
1445/01/25 - 2023/08/12 22:37PM

  1.  

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك))؛ [رواه مسلم]؛ أما بعد:

فالمال من الشهوات التي ترغب فيها النفوس، وتحرص عليها، وهو عصب الحياة، ولا تقوم مصالح الدنيا إلا به؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا المال حُلْوَة خَضِرَة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع))، وهنا شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أخذ المال بطريق الحلال، واستعان به على أمر نفسه وأهله، وصرفه في وجوه الخير بنية حفظ نفسه، وعلى زوجته وأولاده ووالديه، وعلى أقربائه والفقراء، فهو نعمة عظيمة من الله على عبده المسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)).

 

يا عباد الله، من رزقه الله مالًا، سواء كان بوظيفة أو ورِثه من والديه، عليه أن يتقي الله فيه وينفقه على نفسه بالمعروف، وعلى من تجب عليه النفقة، وأن يكون كريمَ النفس مع غيره، مع استحضار الأجر من الله في ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله، إلا أُجِرْتَ بها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها، فهي له صدقة)).

 

والسؤال هنا: هل كل واحد منا استحضر النية الصالحة حينما يعطي أسرته نفقتهم، أو حين يدفع قيمة مشتريات الأسرة أو أجرة المنزل، أو فاتورة الكهرباء والجوال وغيرها، هل استحضرنا النية الصالحة عند الخروج للنزهة، وشراء حاجات المدرسة والبيت؟

 

وهل استحضرت الزوجة النية الصالحة عندما ساعدت زوجها، وأعطت أولادها، واشترت للبيت وللعيد ولنفسها دون مَنٍّ ولا أذًى؟

 

عباد الله، تقول امرأة: زوجي يملك أموالًا طائلة يحسُدنا عليها الناس، إلا أن حالنا مليء بالأسى، فأولادنا يعانون من الجوع والبخل الفظيع، فهو يحسب علينا كل شيء من طعام ولباس وكهرباء، حتى إنه أزال معظم الأنوار من البيت؛ حفاظًا على فاتورة الكهرباء.

 

وآخر يقول: أعمل ليلَ نهارَ من أجل زوجتي وأولادي، وتحملت ديونًا كثيرة من أجلهم، وزوجتي تملك من المال الكثير، لكنها تبخل عليَّ وعلى أولادي، دائمًا تكرر: أجمعها من أجل المستقبل، ولا أدري متى يأتي المستقبل؟

 

فإلى كل رجل من أب وأخ وزوج، لتعلم أن رأي العلماء في النفقة أنها واجبة على الزوج على زوجته وأولاده بالمعروف، وليس ذلك مقدرًا، لكنه معتبرٌ بحال الزوجين؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله الجليل الكريم لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وصلى الله وسلم على نبي الرحمة والهدى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى؛ أما بعد:

فقد قال تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]، ففي هذه الآية الكريمة دلالة على أن ينفق الرجل مما أعطاه الله عز وجل، ووسَّع عليه من المال، وأن ينفق إذا كان غنيًّا على قدر غِناه، وإن كان فقيرًا على قدر فقره؛ قال العلماء: في هذه الآية أمران؛ الأول: وجوب النفقة على الرجل، والثانية: أن النفقة تتقيد بحال الرجل إن كان غنيًّا فينفق نفقة الغني.

 

يا عباد الله، أقول لكل زوج يملك المال؛ عليه:

أولًا: أن يحتسب الأجر عند الله عند نفقته على زوجته وأولاده، فهو مأجور على كل ريال ينفقه عليهم.

 

ثانيًا: أن يعلم أن النفقة واجبة عليه، فإذا ترك أو فرط فيها، فإنه يأثم وقد ضيَّع الأمانة.

 

ثالثًا: أن يعلم أن النفقة على الزوجة والأولاد من أفضل النفقات وأحسنها، وهي مقدمة على الصدقات؛ قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215]، وهنا قدم الأقرباء على الفقراء والمساكين.

 

رابعًا: أن يعلم أن هذا المال إن لم ينفقه في طاعة الله ومرضاته على نفسه وعلى أهله، وفي وجوه الخير والصدقات، فسيكون عليه حسرة في الدنيا والآخرة، وبعدها سينتقل إلى الوَرَثَة بعد أن حرم نفسه وأهله من نعيم الدنيا فيما أحله الله.

 

وأقول لكل زوجة موظفة أو من تملك مالًا؛ عليها:

أولًا: أن تعلم أنها ليست مجبورة على الإنفاق سواء على نفسها أو أولادها، لكن عليها ألَّا تخلق لنفسها مشاكل مع زوجها، هي في غِنًى عن ذلك من حرمان وقهر، وحبس وضرب، أو هجر، أو منع من نزهة أو سفر، أو زيارة لوالد أو صديق.

 

ثانيًا: أن تتفاهم مع زوجها في إدارة شؤون المنزل والأولاد؛ حتى تنجح في حياتها الزوجية.

 

ثالثًا: أن تعلم أنها مطالبة بخدمة زوجها وأولادها وبيتها، فإذا سمح لها بالوظيفة، وتنازل عن حقه في الخدمة أن تراعيَ ذلك، وأن ما تقوم به من مساعدة بمالها، سواء كان بخادمة لتقوم مقامها في المنزل، أو بشراء ما تحتاجه من أدوات وملابس لعملها هو نظير لسماحه، وتنازله عن خدمتها له.

 

رابعًا: أن تجعل المال طريقًا لسعادتها ولتحقيق طموحاتها ورغباتها، وليس عذابًا وقهرًا ومذلة، وحرمانًا من نعيم الدنيا، فيما أحله الله، ثم يذهب للورثة بعد أن حرمت نفسها منه.

 

هذا، وصلوا وسلموا - عباد الله - على نبيكم؛ استجابة لأمر ربكم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمِّرْ أعداءك أعداء الدين، اللهم واحفظ بلاد الحرمين، من شر الأشرار، وأذية الفجار، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، ومن كل متربص وحاسد وحاقد، وعدو للإسلام والمسلمين.

 

اللهم واجعلها آمنةً مطمئنةً، رخاءً وسعةً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم أبْرِمْ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.

 

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والأدواء، والربا والزنا والزلازل، والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصةً، وعن سائر بلاد المسلمين.

 

اللهم كُنْ لإخواننا المستضعفين والمجاهدين في سبيلك، والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيدًا وظهيرًا، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا وولي عهده لِما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، اللهم أحْيِنا مسلمين، وتوفَّنا مسلمين، غير مبدِّلين ولا مغيِّرين، وغير خزايا ولا مفتونين.

 

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182]

المشاهدات 239 | التعليقات 0