خطبة النصف من رمضان
محمد بن عبدالله التميمي
1444/09/16 - 2023/04/07 11:10AM
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اغتنموا شهر المتاب، وما وعدتم به من جزيل الثواب، ومن العفو عن الأوزار وعِتقِ الرقاب، فإن الفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب، أيام القدرة وإن طالت فهي قصيرة، ومن استوطن مَرْكَبَ العَجْزِ عَثَرَ به، انتبه لنفسك، قبل حلول رَمْسِك، اثبُت في صف الاجتهاد ثبوتَ عازمٍ ولازم، فما نال الغنائمَ نائم { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قال ابن القيم رحمه الله: (عَلَّقَ سبحانَه الهدايةَ بالجهادِ؛ فأكملُ الناسِ هدايةً أعظمُهم جهادًا، وأفرضُ الجهادِ جهادُ النفس وجهادُ الهوى وجهادُ الشيطان وجهادُ الدُّنيا؛ فمنْ جاهدَ هذه الأربعةَ في الله هداه الله سُبلَ رضاهُ الموصلة إلى جنَّتِهِ).
بادر الأجل، ولا يَغُرَّنَّك الأمل، فإن الشهرَ قد أخذّ في النقصِ فَزِدْ أنت في العمل، كم جاءَ الثوابُ يَسعَى إليك، فوقف بالبابِ، فردَّه بوَّابُ (سوفَ) و (لعلَّ) و (عسى).
عباد الله.. شهر رمضان لياليه أنورُ الأيام، وأيامُه مطهّرةٌ من دنس الآثام، شهرٌ جعله الله مصباح العام، والله تعالى نورُ السماواتِ والأرض {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وسمى كتابه نورا { قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}، وعقَّب ذكر النور بقوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}، فكونوا سُرج هداية ومصابيح هدى في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا، واعمُروا بالطاعة مساجدَكم ولا تتخذوها جسورًا، واحفظوا صيامكم مما يُذهب أجره، او يُنقِصُ ثوابه، تُضاعف لكم الحسنات وتُلَقَّونَ حُبورًا، فقد أثاب الله تعالى المؤمنين في الدنيا علمًا وهدًى ونورًا يمشون به في ظلمات الجهل على بصيرة {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنوا بِرَسولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَحمَتِهِ وَيَجعَل لَكُم نورًا تَمشونَ بِهِ وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ}، وفي الآخرة إذا صار الناس في الظلمة، ونُصِبَ الصراط على متن جهنم، فحينئذ ﴿تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ كلٌّ على قَدْرِ إيمانه، ويُبشَّرُون عند ذلك بأعظم بِشارة، فيقال: ﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ولما ذكر الله تعالى ظلمات الكافر قال: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}، قال ابن القيم رحمه الله: (يَمشون على الصراط بأنوارهم كما يمشون بها بين الناس في الدنيا، ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قَدَمًا عن قدم على الصراط، فلا يستطيع المشي أحوجَ ما يكون إليه).
عباد الله.. إنه لا عُذرَ لأحد، فهذا شهرٌ: السيئات فيه مغفورة، والأعمال الصالحة فيه موفورة، والتوبة فيه مقبولة، والرحمة من الله لِـمُلْتَمِسِيْهَا مبذولة، والمساجد بذكر الله معمورة، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}.
إنَّ لِشهر رمضانَ مزايا أحرزَ بها فضلًا، واكتسى بها ملاحة، فهو الشهر الذي نزل فيه الكتاب المؤثّر في إصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق، قال ﷺ: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ»، ولِرفيع منزلة الصيام، وعظيم آثاره تكفَّل الله بثوابه، ففي الحديث القدسي أن الله تعالى قال: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أمْثالِها إلى سَبْعمِئَة ضِعْفٍ، قالَ اللهُ عز وجل: إلّا الصَّوْمَ، فإنّه لي وأَنا أجْزِي به». فأخبر اللهُ تعالى أنه يتولى جزاءه بنفسه؛ وفي ذلك إشارة إلى عظيم ثوابه؛ فإنه عزّ شأنه أكرم الأكرمين، وأكد ذلك بأن جزاء الصوم فوق الجزاء المضعّف إلى سبع مئة ضعف.
وشهر رمضان هو الشهر الذي استحب الشارعُ للناسِ أن يُحْسِنُوا فيه إلى البائسين فوقَ ما كانوا يحسنون، فكذلك كان يفعل النبي ﷺ والمؤمنون الصادقون، في الصحيحين عن ابن عباس قال: كانَ النبيُّ ﷺ أجْوَدَ النّاسِ، وأَجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ، فَلَرَسولُ اللهِ ﷺ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ. وفضيلة التأسّي به ﷺ تدعو إلى بسط اليد بالمعروف في هذا الشهر أكثر من بسطها فيما عداه من الشهور.
أقُولُ قَوْلِي هَذا وأسْتَغْفِرُ الله لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ
الخطبة الثانية
الحمد للهِ البَرِّ الرحيم، أحمده سبحانه وأشكره وهو الجواد الكريم، وأصلي وأسلم على نبيِّنا المبعوثِ رحمةً للعالمين، ومَن تهجدَّ في القيام حتى تفطرت الأقدام فهو قدوة المتعبدين، أما بعد:
فهذا عبادَ الله شهرُ رمضانَ قد انتصف، فمن مِنَّا حاسب نفسه فيه لله وانتصف؟ من مِنَّا قام في هذا الشهر بحقِّهِ الذي عرف؟
ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا في العمل، فَكَأَنَّكُم به وقد انصرف، فكلُّ شهر فعسى أن يكون منه خلف، أما شهر رمضان، فمن أين لكم منه خلف؟
تنصف الشهرُ وانصرَم، واختصَّ بالفوزِ بالجناتِ مَن اجتهد في مقام العبودية وخَدَم، وأصبح الغافلُ المسكينُ مثلي منكسِرا، فيا عُظمَ ما حُرما، من فاتُه الزرعُ في وقت البذارِ فما تراهُ يحصُدُ إلاَّ الهمَّ والنَّدَم، طُوبى لمن كانت بِضاعتَه في شهرِه التَّقوى وبحبلِ اللهِ اعْتَصِم.