خطبة: الموازين يوم القيامة
عبدالرحمن السحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا مزيدا. أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ –عباد الله- حَقَّ التَّقْوَى، فَأَعْمَارُكُمْ تَمْضِي، وَآجَالُكُمْ تَدْنُو (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) . (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
عباد الله: دلَّت الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة على شيء من مواقف يوم القيامة، ومن ذلك: أنَّ المؤمنين يُقرون بأعمالهم وتُعرض عليهم، ويُناقَش الكافرون ويقرعون ويُبكَّتون على ظُلمهم وإجرامهم فيتحقَّق الحساب، وبعد ذلك تُنشَر الدواوين وتُبسط، قال تعالى: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) ؛ فآخِذٌ كتابَه بيمينه، وآخِذٌ كتابَه بشِماله من وَراء ظهره: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) ، ويقول فرحًا مسرورًا: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ). (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا) ، ويقول خاسئًا حسيرًا: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ) ، وقال تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) ؛ فكلٌّ قد رأى ما جنت يداه، وقرأ كتاب أعماله، وتحدَّد مصيرُه ومآله.
عباد الله: بعد الحساب الأول والموقف العصيب يأتي مشهد رهيب، وموطن عجيب؛ فتنصب الموازين لوزن هذه الأعمال والصحف التي أُخذت ونشرت؛ فمن راجحٍ عمله في الميزان، ومن مرجوح في الميزان -نسأل الله الإعانة والنجاة-، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ)
وهذا ميزان حقيقي له كِـَـفتان، وقد دلت الأدلة على أن العباد وأعمالهم وصحائف الأعمال توزن يوم القيامة، كلهم يُوضعون على الميزان ويوزنون، وفيه إظهار لعدل الله ومحجته عليهم؛ فمَن ثقُلتْ موازينُ حَسناته على سيِّئاته دخَل الجنَّة، ومَن تَساوَتْ حَسناتُه مع سيِّئاته كان من أهل الأعراف بين الجنَّة والنار، يُؤجَّل أمرُه حتى يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ ، ثم قد تُدرِكُه الشفاعة فيدخُل الجنَّة، ومَن رجحت سيِّئاته على حسَناته من المسلمين استحقَّ النار، إلا أنْ يشفع فيه الشفعاء، أو يعفو الله عنه، أما مَن خفَّتْ موازينه لكُفره وشِركه وتَعاطِيه لما يحبط عمله فهم المستوجِبُون للنارِ خلودًا وعَذابًا ونَكالًا، قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)
عباد الله: إن العاقل الفطن هو الذي يأتي يوم القيامة وقد استكثر من الحسنات وأثقل موازينه بالأعمال الصالحة، وقلل ما استطاع من السيئات والأعمال الفاسدة. واعلموا عباد الله أن أعظم الأعمال الصالحة التي تثقّل الميزان وترجحه يوم القيامة هو: توحيد الله -تعالى-، وإفراده بالعبادة، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89] فتوحيد الله مما يرجح الموازين يوم القيامة كما جاء في حديث البطاقة المشهور.
وذكرُ الله -تعالى- مما يثقل كِفة الحسنات؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لله تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لله تَمْلآنِ -أَوْ تَمْلأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ"(رواه مسلم).
وأثقل الأعمال في الميزان حسنُ الخلق وطيب المعشر مع الأهل والصاحب والناس أجمعين؛ فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ"(رواه أحمد وأبو داود).
والمسلم حريٌ به ألا يحتقر أي عمل صالح ولو قل، وألا يستهين بمعصية واحدة ولو صغرت؛ فحسنة تثقل ميزان العبد وتدخله الجنة، وسيئة قد تُخف ميزانه، قال صلى الله عليه وسلم "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقَ أخاك بوجه طلق"(رواه مسلم). وفي الصحيح (اتقوا النار ولو بشق تمرة)
وكم من عمل صغير عظمته النية! وكم من عمل عظيم حقرته النية!؛ ففي الصحيحين: "أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطوف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغُفِر لها". فإذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا؛ فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟!
فاستكثروا -عباد الله- من الأعمال الصالحة، وحققوا التوحيد والتقوى؛ لأننا خطاؤون مذنبون؛ فلعل هذه الأعمال الصالحة أن تستغرق أعمالنا الطالحة وترجح موازيننا. يسر الله حسابنا ويمن كتابنا وثقِّل ميزاننا وثبت على الصراط أقدامنا. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأتباعه إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله حقَّ تقوَاه، وسَارِعوا دائمًا إلى مَغفرتِه ورِضاه، فقَد فَاز وسَعدَ من أقبَلَ على مولاَه، وخَابَ وخسِر مَن اتَّبَعَ هَواه وأعرَض عَن أُخراه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
عباد الله: إن من آثار الإيمان بالميزان يوم القيامة: ظهور آثار أسماء الله وصفاته، فالله -سبحانه وتعالى- العليم الخبير الحسيب المحصي، لا يخفى عليه شيء، وكذلك بيان عدله وقدرته تبارك وتعالى على حساب خلقه على مثاقيل الذر، والله قادر على أن يزن أعمال العباد كلهم، وينتهي كل شيء في لحظة: (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) فيُحاسب الناس كلهم كما يحاسب ويرزق الواحد؛ فالله -سبحانه- على كل شيء قدير، لا يتعاظمه ولا يعجزه شيء.
ومن فوائد الإيمان بالميزان: المحافظة على الحسنات مما يبطلها أو ينقصها؛ كالشرك بالله والعجب والرياء وترك الفرائض وانتهاك المحرمات والوقوع في ظلم العباد فهو ظلمات يوم القيامة, وهو من الديوان الذي لا يغفر.
ومن آثار الإيمان بالميزان يوم القيامة: أن يجتهد العبد في الطاعات ويسارع إلى الخيرات؛ فإن من زادت حسناته على سيئاته أفلح ونجح، (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ)[القارعة: 6-11].
وعلى المرء أن يجاهد نفسه في البعد عن المعصية، وألا يستهين بها، فإذا وقع فليسارع بالتوبة النصوح، والعمل الصالح، وليكرر التوبة الصادقة كلما عاد إلى المعصية.
يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف ** ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته ** (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،
اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..
عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1688658356_خطبة عن الميزان يوم القيامة.pdf
1688658361_خطبة عن الميزان يوم القيامة.doc