خطبة المسجد الأقصى 29 صفر 1442هـ

المساجد الثلاثة
1442/03/05 - 2020/10/22 14:52PM
خطبة الجمعة 29 صفر 1442هـ - 16 أكتوبر 2020م
المسجد الأقصى
فضيلة الشيخ محمد أحمد حسين (مفتي القدس)
بعنوان: حقوق الأسرى في الإسلام

نص الخطبة

الخطبة الأولى:

الحمد لله، تباركت أسماؤه، وتقدّست صفاته، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحقّ المبين، العدل اللطيف الخبير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفعينا وقدوتنا خير البرية أجمعين سيد الأولين والأخرين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وصحابته الغرّ الميامين، وأهل بيته الطاهرين المكرّمين، ومن سار على نهجم، وأقتفى أثرهم، واتبع سنتهم إلى يوم الدين، والصلاة والسلام على المرابطين في بيت المقدس في مسجدها الأقصى المبارك، وعلى الرّاكعين السّاجدين في كل مكان من ديار المسلمين، والصلاة والسلام على الشهداء والأسرى والمكلومين، وعلينا وعلى من آمن بالله واتخذه ربًّا، وآمن بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وبجميع أنبياء الله ورسله أجمعين.

وبعد:

أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: في هذه الأيام يخوض أسرانا البواسل إضرابًا وامتناعًا عن الطعام؛ تضامنًا وتكاتفًا مع الأسرى المضربين عن الطعام، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم: الأسير البطل ماهر الأخرس الذي قضى على امتناعه عن الطعام ما يزيد عن اثنين وثمانين يومًا، ولا زال يرفض الظلم، ويرفض الطغيان، ويرفض الانصياع بأمر اعتقاله الإداري الذي يكون على أحكام الانتداب البريطاني بما يسمى قوانين الطوارئ.

أيها المسلمون، يا أبناء بلاد الإسراء والمعراج: وليس غريبًا على أسيرنا البطل وسائر الأسرار الأبطال البواسل أن يلجأ لهذه الإضرابات حينما يستنفدوا كل الوسائل الممكنة للحصول على حريتهم أو على حقوقهم، وحقّ لهم أن يفعلوا ذلك، وهم نواة هذا الشعب الكريم الكبير، هذا الشعب الصابر المرابط المناضل، هذا الشعب الذي ما عرفت عزيمته التراجع ولا الإذلال، هذا الشعب الذي آمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن منهجًا وسبيلًا، هذا الشعب الذي تكسرت على صخرة صموده وإيمانه كل المحاولات الرامية والمؤامرات التي تستهدف تصفيته، والمرور على حقوقه مرور الظالمين، مرور المعتدين. مرور المتكبرين.

أيها المسلمون، يا أبناء بلاد الإسراء والمعراج: ومع الأسف الشديد تقف المنظمات الدوليّة وذات الشأن في الاهتمام بحقوق الأسرى والمعتقلين تقف مع الأسف الشديد حائرة مترددة، وإذا صدر عنها بيانٌ أو كلمة جاءت على استحياء، أما آن لهذه المنظمات العالمية وكافّة المؤسسات العاملة في المحافظة على حقوق الإنسان وعلى حياة الإنسان وكرامة الإنسان أن تأخذ درسًا من إسلامنا العظيم الّذي أعطى الأسير كلّ اهتمامٍ وعناية، فلم يفرّق بين أسير وأسير؛ لأنه يدرك بأن الله سبحانه وتعالى قد كرّم الإنسان: (وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ) [الإسراء: 70]، فحافظ الإسلام على جوانب الإنسانية للأسير بغض النظر عن دينه وعرقه وجنسه؛ لأنه دينٌ ربانيّ صلح ويصلح لإصلاح البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

نعم، أيها المسلمون: لقد سبق دينكم الحنيف كل الأحكام والأنظمة التي وضعتها عصبة الأمم  أو هيئة الأمم أو المنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان، كاتفاقيات جنيف ولاهاي وغيرها من الاتفاقات الدولية.

نعم، أيها المسلمون: هذا كتاب ربنا الكريم، يقول في حقّ الأسرى: (وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان: 8]، ويقول سيد البشرية -عليه الصلاة والسلام: "فكّوا العاني -والعاني هو الأسير-، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض" [صحيح البخاري].

نعم، إنّها الأخلاق الإسلامية الرفيعة، إنها الأخلاق التي ترعاها وتضمها إرادة الله وتشريعه الحكيم في كتاب يتلى صباح ومساء، وفي حديث الحبيب الأكرم -صلى الله عليه وسلم-.

أيها المسلمون، يا أبناء بلاد الإسراء والمعراج: هؤلاء الأسرى وفي مقدمتهم المضربون عن الطعام، وفي المقدمة منهم هذا الأسير: ماهر الأخرس، إنه ماهر الناطق بالحرية، والناطق بمكارم الخلاق، والناطق بكل ما يمكن من إنسانية يعامل بها الإنسان من قبل أخيه الإنسان، يوم خرست مجتمعات كثيرة، ويوم فلست منظّمات كثيرة من أن ترفع صوتها في وجه الظلم والظالمين في وجه السجّان المجرم الذي لا يرعى في مسلم أو إنسان إلًّا ولا ذمة.

أيها المسلمون، يا أبناء بلاد الإسراء والمعراج: لقد كفل ديننا الحنيف حقوقًا ثابتةً للأسير، يعامل بها كل أسير، فيوفّر له الطعام والشراب والكساء والمكان الذي يحميه حرارة الصيف وقرارة الشتاء وبرده القارص.

نعم، بل ذهب الإسلام إلى أبعد من هذا، فضمن للأسرى قضية الفداء والتبادل بين أسرى المسلمين وأسرى غير المسلمين، ومَنّ عليهم في أحيان كثيرة، مصداقًا لقول الله تعالى: (فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً) [محمد: 4]، ولولي الأمر في الإسلام أن يطلق سراح الأسرى دون مقابل؛ تبعًا لما تقتضيه مصلحة الدين ومصلحة المسلمين.

أبها المسلمون، يا أبناء بلاد الإسراء والمعراج: وإنها لوقفات طيبة وكريمة في مؤازرة أسرانا البواسل، فمزيدًا من الاعتصامات والوقفات، ومطالبة كل المنظمات والمؤسسات الإقليمية والدولية بإطلاق سراح أسرانا، وفي مقدمتهم المضربون عن الطعام والمحكومون إداريًّا، والنساء والأطفال والمرضى.

نعم أيها الأسرى الأكامل: ومن عليا منبر الأقصى الشريف منبر الحقّ، ومنبر العدل، ومنبر رفع الصوت علانية بالحق وكلماته نحيّيكم ونشد على أيديكم، فأنتم بحق رواد الحرية، ورواد الكرامة، ولا نقول لكم اصبروا؛ فأنتم تعلمون البشرية جمعاء تعلمونها الصبر، وكيف يكوون الصبر في مواطن الشدة؟ أنتم أساتذة في الصبر والبطولة والحكمة والتعاضد والتكافل، لا بل أنتم طليعة الحرية المنتظرة لهذه الأرض المباركة، وعسى أن يكون ذلك قريبًا، يحسبونه بعيدًا، ونحن نراه قريبًا؛ لأن الفرج دائمًا يأتي بعد الشدائد، وأن النصر دائمًا يكون بعد الصبر، وأن اليسر يكون بعد العسر، ولن يغلب عسر يسرين.

جاء في الحديث الشريف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتكافلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تدعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [متفق عليه]، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.

فيا فوز المستغفرين استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

         

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ لا نبيّ بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله أحب العباد مَن يعملون لدينهم ودنياهم حتى يفوزوا بنعم الله ورضوانه، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله واصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهم إلى يوم الدين.

وبعد:

أيها المسلمون: في هذه الأيام يغدو أبناء شعبنا الصابر المرابط لقطاف ثمرة الزيتون المباركة في هذا الزرع الطاهر من أرض فلسطين الحبيبة.

نعم، هذه الشجرة التي يتقصدها المستوطنون وغلاتهم بالقطع والحرق وسرقة ثمارها، ومحاولة حرمان أهلها منها، وفي هذا الوقت الذي يهُبُّ فيه المزارعون لقطف هذا المحصول المبارك، وقد سمعنا ورأينا الانشراك من كل فئات شعبنا الصابر المرابط في إعانة المزارعين في جمع وقطف محصولهم من الزيتون، وهذه همّة المباركة أوجبها ديننا الحنيف بالتعاون على البرّ والتقوى، وبالتعاون مع أبناء هذه الأرض المباركة، فما من شك أن هذه الهبات المباركة بمسمياتٍ مختلفة كالعون والفزعة والهبّة وغيرها من النشاطات السليمة المحمودة التي يقوم بها أبناء المجتمع بكل فئاته بعون المزارعين وحماية مزارعهم. ولكي نبقى منزرعين في هذه الأرض الطاهرة، نحافظ على زيتونها الذي يرمز إلى الطهر والبركة والإيمان، والذي يرمز إلى التاريخ العريق لهذه الديار المباركة يوم كان أهلها العرب قبل آلاف السنين يعمرونها ويعيشون فيها ولا يغادرونها مهما تعاونت عليها قوى الظلم والاحتلال والبغي والعدوان.

أيها المسلمون، يا أبناء بلاد الإسراء والمعارج: بارك الله فيكم وفي كل هذه الهمم العالية التي تلتف حول أبنائها الأسرى، وتطالب بالإفراج عنهم، كما تلتف حول زيتونتها المباركة ليبقى شعبنا الفلسطيني متجذِّرًا في هذه الديار تجذُّر زيتونها ونور زيتها.

أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: كما نذكر دائماً ودائمًا نذكر بأنّ المسجد الأقصى المبارك هو مسجدٌ للمسلمين وحدهم، لا يشاركهم فيه أحد، وأنتم يا من تشدّون الرحال إليه من أبناء هذه الديار المباركة، تعمرونه بالإيمان وبالصلاة وبتلاوة القرآن وبسائر الطاعات. وهو مفتوحٌ لكلّ مسلمٍ في هذا العالم أن يأتي زائرًا له، لكن ليس تحت حرام الاحتلال، وليس كدخول المستوطنين الذين يطمعون بهذا المسجد المبارك، بل المطلوب من المسلمين أن يأتوا إليه بعزة الإيمان، وأن يأتوا إليه غير مطبّعين ولا خزايا، بل يأتوا إليه برفع رؤوس الإيمان وعزة الإسلام التي تطالبهم بأن ينهضوا بمسؤولياتهم تجاه المسجد الأقصى وسائر المقدسات وتجاه القدس الشريف، هكذا فعل الأوائل من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا فعل السلف الصالح، وهكذا يفعل الأحرار من أبناء المسلمين في هذه الديار وسائر ديار المسلمين.

أيها المسلمون، يا أبناء بلاد الإسراء والمعراج: ولا يظنّنَّ ظانٌّ ولا يخطر ببال أحد العدو أو الصديق أو الاحتلال أو مَن يناصر الاحتلال بأنّ أهل بيت المقدس وأنّ أبناء هذا الشعب الفلسطيني سيتركون مسجدهم نهبًا للطامعين والمعتدين والمتخاذلين، لا وألف لا، سيبقى أبناء بلاد الإسراء والمعراج الذين ردّوا كل الغوائل وكل الاعتداءات عن مسجدهم ومصلاه بكلّ مال، وبكلّ التحدي، وبكلّ التصدي، وبكلّ العزة والكرامة، وهم يقولون: فداك الروح يا أقصى.

اللهم ردّنا إليك ردًّا جميلًا، وهيء لنا وللمسلمين فرجًا آتيًا قريبًا، وقائدًا مؤمنًا رحيمًا يوحّد صفنا ويجمع شملنا وينتصر لنا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، واختم أعمالنا بالصالحات، وأنت يا مقيم الصلاة، أقم الصلاة.

المشاهدات 684 | التعليقات 1

للاستماع إلى الخطبة
https://youtu.be/oG4spSG3xpA

مرفق ملف الخطبة

المرفقات

https://khutabaa.com/forums/رد/366282/attachment/%d8%ad%d9%82%d9%88%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%b1%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85

https://khutabaa.com/forums/رد/366282/attachment/%d8%ad%d9%82%d9%88%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%b1%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85

https://khutabaa.com/forums/رد/366282/attachment/%d8%ad%d9%82%d9%88%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%b1%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85-2

https://khutabaa.com/forums/رد/366282/attachment/%d8%ad%d9%82%d9%88%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%b1%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85-2