خطبة : المؤمن القوي

عبدالإله بن سعود الجدوع
1435/04/20 - 2014/02/20 20:15PM
...نقف وإياكم مع حديث عظيم ، اشتمل على وصايا ومعاني نافعة ، مَن أخذ بها فسينال حظاً عظيماً في دينه ودنياه بإذن الله ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ،احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) رواه مسلم
أيها الأفاضل:حينما نتأمل هذا الحديث العظيم نجد فيه فوائدَ عدة ومنها:
- أن النبي قال المؤمن القوي ولم يقل الرجل القوي ، إشارة إلى أن الممدوح هنا قوة الإيمان وليس قوة الرجل الجسدية ، لأن كلمة القوي تعود إلى الوصف السابق وهو الإيمان ، وأشار لذلك الشيخ محمد ابن عثيمين "رحمه الله تعالى "

أما قوة البدن - ياكرام - ليست محمودة ولا مذمومة في ذاتها، فإن كان الإنسان قد استعمل هذه القوة الجسدية فيما ينفع في الدنيا والآخرة صارت محمودة ، وإن استعان بهذه القوةِ على معصية الله صارت مذمومة . ولو زاد مع قوة إيمانه قوة في بدنه ومهاراته وقدراته .. فذلك نور على نور .
والمؤمن القوي - أيها الفضلاء - هو الذي يُظهر للناس معتقده الصحيح وينافح عن سنة نبيه ويظهرها ويطبقها ، وينكر المنكر بالإحسان ، ولا يُفهم أن المؤمن القوي هو الذي يكون فظا غليظَ القلب متجهِّم الوجه ! بل المؤمن القوي هو القوي في إيمانه وعقيدته ، وهو المؤمن الذي يكون سهلاً لينًا متبسِّمًا ، كما جاء في كلام النبي: ((حُرِّم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس))صححه الألباني.
فالمؤمن رفيق بالخلق، والرفق لا يخالف القوة ، بل لايستطيع على الرفق والحلم والصبر إلا قوي القلب والإيمان .. ومن اشرأبت نفسه طاعة للرحمن .


- ثم قال بعد المؤمن القوي( خير وأحب إلى الله )ففيها إثبات صفة المحبة لله تعالى وأن هذه المحبة تتفاضل، وأن الله يحب قوي الإيمان . إضافة على الفوائد الكبيرة والكثيرة التي سيجنيها قوي الإيمان في حياته وبعد مماته .


- ثم قال بعد خير وأحب إلى الله( من المؤمن الضعيف )ذلك لأن ضعيف الإيمان لا يحمله ذلك على فعل الواجبات ، ولايحمله على الإزدياد في الطاعات ولا على ترك المحرمات فيقصر كثيراً في طاعة الله سبحانه وتعالى .


- ثم قال صلى الله عليه وسلم ( وفي كل خير ) فهذا الأسلوب يسميه البلاغيون : الاحتراز
وقاله النبي لكي لايتوهم أحد أن تفضيل المؤمن القوي على المؤمن الضعيف ، يعني ألا خير في المؤمن الضعيف ، بل فيه خير ، ومن هنا يُعلم خطأ اللفظ المنتشر في قول البعض
( الناس مافيهم خير ) وهذه عبارة خاطئة تخالف لفظ النبي ( وفي كل خير ) فقد يكون في هذا الشخص خيرٌ لاتعلمه ، أو أنك قد حكمت عليه من خلال تصرف واحد وغير ذلك .


- ثم قال النبي وصيةً جامعةً مانعةً وهي ( احرص على ما ينفعك ) يعني اجتهد في تحصيله ومباشرته ، ومن جميل الأدعية التي علمنا النبي أن نقولها بعد كل صلاة: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))
وإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا، فإنها تقدم منفعة الدين لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين ، فإنها تفسد وأيّما فساد .
ولعل كلاّ منّا يتأمل في حياته وفي جدول يومه ، ويسأل نفسه بصدق ، ماهي الأعمال التي أفعلها الآن ، ولاتعود علي لابنفع ديني ولابنفع دنيوي . وإذا علمت هذا الصنيع الغير مفيد ، فاحرص رعاك ربي على تركه ، وملئ وقتك الثمين بما هو أنفع لك في الدين والدنيا والأخرة .


- ثم انظر أيها المستمع الكريم روائع الكلم وقوله عليه الصلاة والسلام (واستعن بالله) بعد قوله احرص على ما ينفعك لأن الحرص وحده لايكفي ، والإستعانة وحدها لاتكفي ، فالإنسان إذا كان عاقلاً ذكياً فإنه يتتبع المنافع ويأخذ بالأنفع، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة بالله ، وهذا يقع لكثير من الناس، حيث يُعجب بنفسه ولا يستعين بالله سبحانه وتعالى ، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصاً على النافع وفِعلاً له ، أُعجب بنفسه ونسى الاستعانة بالله، ولهذا قال: احرص على ما ينفعك وأعقبها بقوله ( واستعن بالله ) أي لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير .
ألا وإن التوكل على الله والاستعانة به من أعظم مايقوي إيمان الإنسان ، المذكور فضله في بداية هذا الحديث . والاستعانة : هي طلب العون بلسان المقال والمحال ، فالمقال كقولك : (اللهم أعني، أو قول : لا حول ولا قوة إلا بالله) عند شروعك بالفعل .
وبلسان الحال، هي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربك - عز وجل - أن يعينك على هذا الفعل .
وإذا حرصت على ماينفعك ، مستعيناً بالله عز وجل ، فلا تعجز !
وكلمة ( ولا تعجز ) التي أعقبت طلب الحرص على المنفعة والاستعانة بالله جل وعلا ،
يعني الأمر بأن تستمر في العمل ولا تعجز وتتأخر ، وتقول إن المدى طويل والشغل كثير،
فما دمت قد صممت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك واستعنت بالله وشرعت فيه فلا تعجز .
وإنك إذا حرصت على ماينفعك مستعيناً بالله وغير عاجز ، فقد يحدث لك شيئاً من العوائق والمصائب صغرت أو كبرت . ولهذا قال النبي بعد هذه الوصايا :
( وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل )
فالذي يعمل ، يعتري طريقه غالباً شيء من النقص والخلل والذي هو من طبيعة البشر .
فإذا تبين له ذلك النقص والخلل ، ليسلم لله القضاء والقدر ، والذي هو أساس عظيم يقوم عليه إيمان العبد ، ويقوي إيمانه ، ولكي يكون ممن يحبهم الله جل في علاه . كما أشير ذلك في بداية الحديث .
وإن أكثر من يشتكي من الاكتئاب والقلق والتوتر هم أقوام نقص إيمانهم بِقَدَرِ الله ؛ لذا تراهم يتحسّرون على ما فات منهم ، فتسمع من يقول: لو أني فعلت كذا لما أفلست ولمَـَا صُدمت
ولَـما تضرر الولد ، ولمَـا خسرت الجائزة، وهذا فيه اعتراض على قدر الله ؛ والعياذ بالله .
ويجب أن نعلم أنه سبحانه وتعالى لا يفعل شيئاً إلا لحكمة خَفِيت علينا أو ظهرت لنا، والدليل على هذا قوله تعالى { وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً } .
فبيّن أن مشيئته مقرونة بالحكمة والعلم، وكم من شيء كره الإنسان وقوعه ، فصار في العاقبة خيراً له ، كما قال تعالى: { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لاتعلمون }
- ثم في نهاية الحديث أخبر رسول الله سبب منع قول ( لو ) وهي أنها تفتح عمل الشيطان .
أي تفتح عليك الوساوسَ والأحزان والندم والهموم .
ولكن كلمة ( لو ) ليست منهية على كل حال :
فإذا قلت ( لو ) على مافاتك من طاعات ، فهذا لايُمنع منه ودليل هذا قول النبي في الحج ( لو استقبلت أمري مااستدبرت ماسقت الهدي )
وإذا قلت ( لو ) من باب الخبر، فهذا لا بأس به ولا حرج فيها ، مثل أن تقول : لولا أني مشغول لزرتك . ودليل هذا قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وقول الرسول ( نعم الرجل عبدالله لو كان يقوم الليل ) .
وإذا قلت ( لو ) للتمني فهذا لايُمنع إذا كان المُتَمنى شيئاً خيّرا ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الفقير الذي قال: لو عندي ما لفلان لعملت به مثلما عمل، وكان فلان يعمل بماله في الخير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فهو بنيته فهما في الأجر سواء) .
والممنوع هو ( لو ) المتحسرة على الدنيا والمعترضة على قدر الله .





- الحمد رب العالمين والعاقبة للمتقين ولاعدوان إلا على الظالمين أمابعد عباد الله :
إن تعلم العلم ، والتدبر في القرآن، ومطالعة شروح الأحاديث مما يقوي الإيمان يقول الله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
ومن أسباب قوة الإيمان : معرفة أسماء الله وصفاته ، وعبادته بمقتضى تلك المعرفة
ومما يقويه : التأمل في سيرة النبي وفي محاسن الدين الإسلامي .
ومما يقويه كثرة عبادة الله سبحانه وتعالى وتنويع طرقها الصحيحة والثابتة .
ومما يقوي الإيمان نشر الخير وجعل المجالس مرتعاً للخير ، والبعد عن مايعكرها ويدنسها من الكذب والفحش والغيبة والنميمة وغيرها
ومما يحافظ عليه ويقويه : الإمساك عن فضول الطعام، والكلام، والمنام، ومخالطة الأنام
ومما يقوي الإيمان : اليقين بالله والاعتصام به ، قال الله تعالى:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }
ومما يقويه ويشد منه : النظر إلى من أعلى في أمور الدين ، وإلى من هو أسفل في أمور الدنيا ، فقد وجهنا لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله ) رواه مسلم
المرفقات

409.doc

المشاهدات 6949 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا