خطبة (اللهُ لطيفٌ بعبادِه) .. مختصرة من خطبة هلال الهاجري
سعيد الشهراني
الخطبة الأولى :
الحمدُ للهِ اللَّطيفِ الرؤوفِ المنانِ، الغنيِّ القويِّ السُّلطانِ، الحليمِ الكريمِ الرحيمِ الرحمنِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملكُ الديَّانُ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُه ورسولُه المبعوثَ إلى الإنسِ والجانِّ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ ما تَوالتِ الأزمانُ، وسلَّم تَسليماً .. أما بعد:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ( يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .
عباد الله : عندما تقرأُ سورةَ الشُّورى بتسلسلِ آياتِها العجيبِ، فتمرَّ على قولِه تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)، فأرجوكَ، قِفْ .. أعدْ الآيةَ، تأملها .. تدَّبرها .. هل لا حظتَ شيئاً؟.
( اللهُ لطيفٌ بعبادِه) .. فما معنى اسمِ اللهِ تعالى اللَّطيفِ؟، وكيفَ يكونُ سبحانَه لطيفاً بعبادِه؟.
)اللهُ لطيفٌ بعبادِه)، تعرفُ معناها عندما تتأملُ في قِصةِ يوسفَ عليه السَّلامُ من بُغضِ إخوانِه له بسببِ محبةِ أبيهم له، ثُمَّ إلقائه في البئرِ وحيداً، ثُمَّ عبوديتِه في بيتِ العزيزِ بعيداً، وكيدِ النِّساءِ ذواتِ المناصبِ الجميلاتِ، ثُمَّ لُبثِه في السِّجنِ بضعَ سنواتِ، وما أصابَ أباهُ من الحُزنِ والأسى، وفقدِ الولدِ والعَمى، وإذا باللَّطيفِ يُرسلُ إلى قصرِ المَلكِ رؤيا لطيفةً، تتجاوزُ الأسوارَ والجنودَ الكثيفةَ، فيخرجُ بعدها يوسفُ مُتمكِّنَّاً في الأرضِ يتبوَّأُ منها حيثُ يشاءُ، فيجتمعُ بوالديهِ وإخوانِه بعدَ طولِ غيابٍ في قَصرِه، بعدَ أن ردَّ اللهُ تعالى على أبيهِ ما فقدَ من بصرِه، فيقولُ في النِّهايةِ: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
)اللهُ لطيفٌ بعبادِه)، تؤمنُ بها عندما تنظرُ في أمٍّ ترمي ابنَها الرَّضيعَ في البحرِ، فيحملُه اللَّطيفُ على الأمواجِ ليعيشَ في القَصرِ، ويُلقي في قلبِ امرأةِ فرعونَ محبتَه، فيحميه الذي كانتْ تخافُ عليه من بطشِه، ثُمَّ يمنعُ عن الصَّغيرِ الرَّضاعةَ مع جوعِه وعَطشِه، ليرجعَ إلى قلبِ أمِّه الذي أصبحَ فارغاً، وعداً من اللَّطيفِ حقَّاً صادقاً، (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
) اللهُ لطيفٌ بعبادِه)، تعلمُ شيئاً من حقيقتِها عندما تتذَّكرُ نفسَكَ وأنتَ في بطنِ أمِّكَ .. من كانَ يوصلُ الطَّعامَ والشَّرابَ إليكَ؟، من كانَ يحفظُكَ من الأذى ويحميكَ؟، في وقتٍ كانتْ أمُّكَ التي تحملُكَ في بطنِها، لا تراكَ ولا تستطيعُ الوصولَ إليكَ، (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ).
)اللهُ لطيفٌ بعبادِه)، ومن لطفِه بعبدِه أنَّه يبتليه بمرضٍ عُضَالِ، الذي تَندَّكُ بسببِه قمم الجِبالِ، فيُثبتُّه تثبيتاً عظيماً عجيباً، فلا تراهُ إلا شاكراً صابراً مُنيباً، يفرحُ إذا تذكَّرَ قولَه صلى اللهُ عليه وسلمَ: (وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ)، ويشتاقُ إذا تذكَّرَ قولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ)، يأتيه النَّاسُ ليواسونَه على ما أصابَه من البلاءِ، فيخرجونَ من عِندِه وقد أخذوا دَرساً عملياً في الصَّبر على القضاءِ،
) اللهُ لطيفٌ بعبادِه)، فترى العبدَ يُسرفُ على نفسِه طُولَ عُمرِه، حتى لم يبقَ إلا شِبراً بينَه وبينَ قَبرِه، وإذا بِاللَّطيفِ يفتحُ عليه أبوابِ التَّوبةِ والاستغفارِ، فيتوبُ ويؤمنُ ويعملُ عملَ الصَّالحينَ الأبرارِ، (فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، فسبحانَ من كانَ بعبادِه لطيفاً كريماً حليماً.
بارَكَ اللهُ لي ولكم في الكتابِ والسنةِ، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ والمسلماتِ من جميعِ الذنوبِ والخطيئاتِ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي لغفورٌ رحيمٌ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على المصطفى أما بعد:
اتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى .
عباد الله : ( اللهُ لطيفٌ بعبادِه)، فعندما يموتُ لكَ حبيبٌ كانَ يملأُ حياتَك، كانَ هو ليلُك ونهارُك وسائرُ أوقاتِكَ، لم تكنْ يوماً تتصوَّرُ الدنيا دونَ لُقياهُ، ولا تتخيَّلُ أن تأتي إلى مكانِه فلا تراهُ، كانَ هو ملءُ العينِ والبصرِ والفؤادِ، كانَ هو بلسمُ الجروحِ ومصدرُ الإسعادِ، وفي لحظةٍ واحدةٍ أصبحَ في عِدادِ الأمواتِ، فإذا باللَّطيفُ يُلهمُكَ الصَّبرَ والتَّسليمَ والثَّباتَ، فتقولُ ما أوصاكَ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا)، وإذا بالأحزانِ والهمومِ تُستبدلُ بالأفراحِ، وإذا الصَّدرُ الضَّيقُ يحسُّ بالانشراحِ، فتعلمُ أن حبيبَك قد ذهبَ إلى الغفورِ الرَّحيمِ، الذي وعدَ عبادَه بجنَّاتِ النَّعيمِ.
)اللهُ لطيفٌ بعبادِه)، أحاطَ العُسرَ الشَّديدَ بيُسرينِ، وجعلَ بعدَ الكربِ الفرجَ المبينَ، يعصيهُ النَّاسُ فيمهلُهم إمهالاً، ويتوبونَ إليه فيكونُ لهم أشدَّ إقبالاً، لا يُعاجلُ بالعقوبةِ لأنَّه حليمٌ، ولا يمنعُ رزقَه لأنَّه كريمٌ، ولا يبتلي إلا بما يُطاقُ لأنَّه رحيمٌ، ويُقدِّرُ لعبادِه ما ينفعُهم لأنَّه حكيمٌ، ولا يخفى عليه شيءٌ أبداً لأنَّه عليمٌ.
سبحانَه قدَّرَ المقاديرَ فتلطَّفَ، وابتلى أحبابَه فخفَّفَ .. من ذا الذي هداكَ، ومن خلقَكَ فسوَّاكَ، ومن يستجيبُ دُعاكَ، ومن بالرحمةِ يرعاكَ، ومن ذا الذي يفرحُ بتقواكَ، ومن ذا الذي تنساهُ فلا يَنساكَ، ومن ذا الذي سخَّرَ الكونَ كلَّه لرضاكَ، ربٌّ عظيمٌ لطيفٌ بعبادِه وهو غيرُ محتاجٌ لهم، يُعطي كرماً وإن منعَ فرحمةً بهم .
فيا عبدَ اللهِ .. إن كانَ لكَ ربٌّ لطيفٌ عظيمٌ مُعينٌ، فاطمئن ونَمْ مُرتاحَ البالِ قريرَ العينِ، (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد ....
المشاهدات 1273 | التعليقات 2
وإياك شيخ هلال الهاجري
وكتب الله أجرك على اختيارك وتنوعك في مواضيع الخطب وإنتقاء المحتوى
هلال الهاجري
جزاك الله خيراً شيخ سعيد
كأنني أقرأها لأول مرة.
تعديل التعليق