خطبة العيد 1431هـ

د. منصور الصقعوب
1432/09/17 - 2011/08/17 10:45AM
الحمد لله الولي الحميد ذي العرش المجيد, الحمد لله الذي عز فامتنع وذل كل شيء لعظمته وخضع, الحمد لله الذي سهل لعباده عبادته ويسر، ووفاهم أجورهم من خزائن جوده فأوفر، ومنَّ عليهم بأعيادٍ تعود عليهم بالخيرات وتتكرر
الحمد لله ذي الجود والعطاء والفضل والنعماء, لك الحمد إلهنا على إنعامك المتوالي وإحسانك المتتابع, هديتنا للإسلام ووفقنا لبلوغ رمضان وأعنتنا على الصيام والقيام أصححت أبداننا وسلمت جوارحنا, وأكملت لنا ديننا, فالحمد لك حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا
أما بعد فاتقوا الله ربكم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا ولا تبطلوا أعمالكم)
يا أهل العيد: المسلم اليوم يفرح حين أمد الله في عمره فبلغه ختام الشهر مع الصائمين, حين أبقى له قواه فأعانه على الطاعة مع الطائعين, وحق للمرء أن يفرح إن كان قد أرضى ربه, وإذا كانت اليوم فرحةٌ, فإن الفرحة الأخرى تكون للطائع عند موته حين يرى نتائج أعماله, وتزف إليه البشرى من الملائكة ( أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة..)
يا أهل العيد: قدا انتهى رمضان بما فيه, مضى بطاعته وأعماله وطويت صحائفه وقوضت خيامه, فهنيئاً لعبد عبد ربه وادّكر وتاب من ذنبه واستغفر وأعتق الله من النار رقبته وله غفر, ويا خسارة من مضّى الأيام بالتفريط والآثام, أن ذهبت زينة الأيام وغرر المواسم وما كتب فيه من الفائزين, ومع هذا؛ فالرب رحيم رحمن تواب منان وما دام النفس يتردد فالباب مفتوح للعبد, فهل من مستعتب يتوب, ونادم إلى ربه يؤوب؟ الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً
معشر الكرام: كم تبتهج النفوس ويسرّ الفؤاد بمشاهد الناس في رمضان, المساجد ممتلئة بالمصلين, جنباتها تعج بالتالين, وتكتظ بالعاكفين, مشهد الحرمين في قيام رمضان مشهد يشعرك بروعة الإسلام وبذرة الخير في نفوس الأنام, الناس في بيوت الله من كل لون وعرق, دامعةٌ عيونهم, منتصبة أقدامهم لا يرجوا هؤلاء إلا ما عند الله, وبرغم كيد الكائدين, وإفساد المفسدين, وتسلط المغرضين لصد المسلمين عن الدين إلا أن رمضان يشعرك بانتشار الدين, وعودة الناس لرب العالمين, فكم من ضال في رمضان اهتدى وكافر أسلم ومقصر ارعوى ومطيع في الخير سابق, وعبدٍ من النار أعتق, ولئن كان هذا في رمضان فبشائر الإسلام في كل العام عظام, والخير قادم والإسلام بإذن الله إلى عز, ومهما حاول أعداء الدين الوقوف في طريقه فإنه مؤيد من رب الأرض والسماء (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم..)
عباد الله: آية لطالما رددناها في رمضان, ووعظ بها الواعظون فيه (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام...لعلكم تتقون) ونحن نخرج من موسم التقوى, جديرٌ أن نعرض أنفسنا على صفات المتقين لننظر أنحن منهم, أتصفنا بصفاتهم, أحققنا المقصد القرآني من الصوم المتمثل في ختم الآية (لعلكم تتقون) هل حققنا التقوى لنكون أهلاً لنيل جنة المأوى فلعمري إنها للمتقين أعدت ولهم أزلفت (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة ..للمتقين)
إن المتقين يا أمة التقوى هم قوم يخافون ربهم, يخشون يوم القيامة, يراقبون الله في أحوالهم, فهم من خشية ربهم مشفقون, يصبرون في البأساء والبلاء, ويشكرون الله على النعماء, وينفقون في السراء والضراء, يوفون بالوعود, ولا ينقضون العهود, أخلاقهم حسنة وألسنتهم عفيفة.
والمتقون يتحرون لقمة الحلال, ويحاذرون أن يدخل أجوافهم لقمة شبهةٍ بله الحرام, وكم تساهل البعض في مكاسبه وكم دخل الدخَل عليه في مطعمه ومشربه فاستهان بكسب الحرام ففقد البركة والسعادة وإجابة الدعاء, وتعرض لعقوبة رب الأرض والسماء.
والمتقون يأمرون بالمعروف وينهمون عن المنكر, ولا يردهم إرجاف الشيطان وصدود بعض بني الإنسان عن النصح والأمر, وبمثل هؤلاء حفظ المجتمع, وبترك الأمر والنهي يشيع العصيان ويحيق الفساد, ويتعرض الناس لسخط رب العباد, فما هو نصيبك من الأمر بالمعروف في بيتك وعائلتك ومجتمعك؟.
وأهل التقوى يراقبون عالم السر والنجوى, فأينما توجهوا وفي أي زمان ومكان وجدوا يراقبون الذي لا يخفى عليه في الليل والنهار والديار والقفار خافية, فله يعملوا, ومنه يحذروا, وإياه يراقبوا, وأين يغيب العبد عن ربه, وهو من وسع سمعه الأصوات, ومن يرى كل كائن في الجلوات والخلوات.
وأهل التقوى يقون أنفسهم وأهليهم نار الآخرة, فيمنعون أولادهم ونسائهم مما حرم الله, وكم هي عظيمة تبعة الولي, فهو قوّام على النساء والذرية, وسيحاسب عند ربه على كل تقصير منهم تساهل فيه, فاعمل أيها الولي لنجاتك غداً, وكن عوناً لهم أن لا يفعلوا حراماً في قول أو فعل أو لباس أو خلق, لتنجوا يوم الحساب, وتكون من المتقين لرب الأرباب
معشر المسلمين: والمتقون يعفون عن غيرهم, والعيد فرصة لهم ليتناسوا خلافاتهم ويغفروا هفواتِ إخوانهم ويصفوا قلوبهم ويزيلوا عداواتهم, فإن رمت أن تلحق بهم فاسلك دروبهم وألزم نفسك اليوم العفوَ عن كل من هفا, والتجاوزَ عن كل مخطئ في حقك أساء, رغبة في عفو الله وكرامته, والعيد فرصة لتنظيف القلوب قبل الأبدان, وتصافي القلوب عند تصافح الأيدي, وتجديد وصال الأحباب قبل جديد الثياب, فمن لم يعف اليوم فمتى, ومن لم يصالح اليوم إخوانه رجاء ثواب ربه فمتى؟!.
والعيد مناسبة للمتقين لتجديد أواصر الرحم للأقرباء، والود مع الأصدقاء، حين تتقارب القلوب على المحبة وتجتمع على الألفة,
معشر الكرام: وليس المتقون بالذين تنسيهم مناسبات الأفراح والأعياد إخوانَهم من الضعفة بين أيديهم, فاليتيم اليوم ابنٌ لهم, والمسكين يشاركهم فرحهم, الخدم والضعفة, المساكين وذوو المسغبة لهم في قلوب المتقين اهتمام ومكان لا سيما في الأعياد, يمسحون دمعة يرسمون فرحة, فما هو نصيب الضعفة حولك من هذا ؟
والمتقون يستشعرون معنى الأمة الواحدة, فالمسلمون أينما كانوا فهم إخوانٌ لهم, لا يتعالون على أحد, ولا يتكبرون على مسلم, وإذا جرح من المسلمين جرح تداعى له المسلمون في بقاع الأرض, لا ينسى المسلمون المتقون مصاباتِ أخوانهم ولا في الأعياد, وكيف ينسون جراح أمتهم التي يكيد لها الأعداء, ويتربصون بها الدوائر, فهم مع إخوانهم بالدعاء والمؤازرة والهمّ, فأين قدر إخوانك من قلبك ودعائك يا أيها المبارك؟
والمتقون بشر من البشر قد يخطئون ويزلون ولكنهم لا يدومون بل إلى الله يرجعون, التوبة على ألسنتهم والاستغفار حدائهم, (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم..) فسل نفسك كم تستغفر وهل صدقت التوبة لربك؟
ولا ينسى أهل التقوى نهايتهم, بل يعلمون أن كلَ ساعة تمرّ ويومٍ ينقضي فهو يقرب ساعة رحيلهم وأوان تحويلهم, فالدنيا قد آذنت بوداع والآخرة قد أشرفت باطلاع, ومهما فرح العباد وحزنوا وفي الدنيا تقلبوا فالموت نهايتهم والقبر مسكنهم وفي النار أو الجنة مقرهم, والموفق المتقي, والذكي الأحوذي من قدّم لآخرته, وعمل لنجاته, وقدّم ثمن الجنة قبل موته
ويوم أن ترى من يكون عهده بالطاعة موسم رمضان, فإن المتقين على الخير يدومون, لأن الذي له تعبدوا وركعوا وسجدوا باقٍ وميدان العمل ليس شهر بل كل العمر, ومن ذاق لذة الطاعة في رمضان, وأنس فيه بالقرب من الرحمن قمن أن لا ينقطع عن الطاعة والإحسان, وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان, وبئس المرء من عزم على الرجوع لما كان من التقصير والعصيان, قال كعب: "من صام رمضان وهو يحدِّث نفسَه أنه إذا خرج رمضانُ عصى ربَّه فصيامُه عليه مردود، وباب التوفيق في وجهه مسدود"
تلك أيها الكرام بعض سمات المتقين, فبشرى لمن اتصف بها, ويا غنيمة من كان من أهلها, وما أعظم ربح امرئٍ خرج من رمضان وقد حقق التقوى في الجَنان, جعلنا الله من أهل التقوى ومن ورثة الجِنان, وأقول ما سمعتم.

الخطبة الثانية
الحمد لله معيد الجمع والأعياد ومبيد الأمم والأجناد وراد الناس إلى معاد, إن الله لا يخلف الميعاد, والصلاة والسلام على صفوة العباد, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم التناد أما بعد:
معاشر المسلمين: ونحن نطوي صفحة الشهر فإن من أهم ما يشغل بالَ كل مطيع أن يدوم على الطاعة بعد رحيل الشهر, ولئن انتهت رحلة رمضان فإن أبواب الحسنات وطرق الخيرات ومواسم الطاعات تترى وباقية
فيا من تعبد لربه في موسم التقوى يا من صام وقام وأطاع المولى, دُم على العهد, ولتكن طاعاتك مغيرةً لحياتك
إن امرءاً تردد للمساجد قمن به أن لا يفوت صلاة ولا يتخلف عن جماعة, وإن عبداً زكت نفسه بقراءة القرآن وقلب ناظريه في كلام المنان جدير بأن لا يلطخ عينه بعد ذلك بالنظر للحرام, وإن إنساناً ترطب لسانه بالذكر, عارٌ أن يعود بعد الطهر للغيبة وساقط الكلام, وإن امرأة دمعت عينها من خشية الله عيب أن تبديها ولربما انفتن بها الأنام, يا من أعتقت رقابهم من النار, وتعرضوا لنفحات الغفار, لا يراكم الله في مواطن المعصية بعد أن حطت عنكم الأوزار, لقد حزتم كنزاً فلا تطفئوه بالمعاصي, يا من ذقتم في رمضان لذة الطاعة وخشوع القلب إن ذلك النور قد يذهبه معصية فتطلبون اللذة والخشوع فلا تجدونه.
قيام الليل مشروع كل العام والقرآن ينتظر منكم الاستمرار والدوام, مجالات الإنفاق تنتظر منكم الإقدام, جنة الصيام نجاة ولذة وقربة للملك العلام, ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر, وستة أيام من شوال ندب إليها رسول الله بعد إتمام رمضان فأتبع بها شهرك" من صام رمضان ثم أتبعه ستاَ من شوال كان كصيام الدهر"
أيتها المرأة المسلمة: يا من صلت وصامت وتعبدت لله وقامت وعمرت المساجد وتقربت للواحد, لقد سرنا في رمضان حرصَك على الخير, ويجمل بك اليوم أن تسألي نفسك ما ذا عسى الشهر سيغير منكِ, إن من حازت التقوى وسمت همتها لنيل جنة المأوى يكون لطاعاتها أثر على قلبها وخلقها ولباسها ولسانها, أن يكون ذلك على مراد ربها ولو خالف هواها, وأعيذك بالله أن تكوني ممن تبدد خيراً جمعته وأنساً في رمضان ذاقته بعصيان الله.
أختنا الفاضلة: كرامة الله لك أن ميزكي بالإسلام وقمن بك أن تعتزي بشعائره.
الحجاب ليس عادة فما الذي يجعل البعض من النساء تتساهل فيه فتبدي بعض بدنها وتبدي من الزينة أكثر مما تخفي
اللباس عنوان الإنسان فما الذي يجعل البعض من النساء تلبس ما لا يرضاه أهل المروءات وقبل ذلك رب البريات
أيتها المباركة: الجيل بين يديك فلا ينهل الأولاد ذكوراً وإناثاً من أحدٍ كنهلهم من أمهم فهلا تقربتي لله بإصلاح النشء, بغرس خلق فاضل وهدم خلة ذميمة وتنشئة على الخير فذاك مما يبقى لك أجره ولهم أثره
أختنا الكريمة: وأنتِ ترين تنادي الأعداء في القريب والبعيد على إفساد المجتمع, فاعلمي أن أمنع حصن يحول بينهم وفي ذات الوقت أسرعَ طريق يسلكونه لنيل مرادهم هو طريق المرأة ومتى ما تمسكتِ بدينك واستقمتي على رضا ربك والتزمتي عفافك وحجابك, وأصلحت قلبك فإن المكر سيهوي والكيد سيرد, وإن غيرّت المرأة اليوم فإنها قد تبوء بذنبها وذنب من جاء بعدها مقتدياً بها, ويوم أن يلقى العباد ربهم فإن حُسن الثياب يذهب وجمال الظاهر يتغير ويبقى لها رحمة ربها والتزامها شرع مولاها وقرباتٍ قدمتها.
وبعد معاشر المسلمين: فقد اجتمع لكم في يومكم عيدان الفطر والجمعة, وقد أخبر نبينا  حين وقع لهم ذلك أن من حضر العيد سقط عنه وجوب الجمعة وبقي له الاستحباب فيستحب له أن يحضر الجمعة, فإن لم يحضرها صلى ظهراً, وهذا يكون في بيته لا في مساجد الجماعات, وأما من لم يحضر العيد فإن وجوب الجمعة حتمٌ عليه ولا خيار له في ذلك
وقد كان من سنة المصطفى  أنه إذا أتى من طريق رجع من طريق آخر فليتحر المرء تطبيقها, ويقرر أكثر العلماء أن من لم يخرج زكاة الفطر قبل الصلاة تعين عليه إخراجها وهو آثم إن كان التأخير بلا عذر, فامضوا اليوم لعيدكم وافرحوا بيومكم, وحق لكم أن تفرحوا وقد اصطفاكم ربكم من بين الناس فجعلكم مسلمين, وأمد في أعماركم فبلغكم تمام الشهر وأنتم سالمين, أسأل الله أن يفرحكم بمرضاته وأن يكرمكم بجناته وأن يسعدكم بلقائه , اللهم صل وسلم على نبينا محمد
المشاهدات 1910 | التعليقات 0