خطبة العناية بالفقراء والمساكـــين
محمد آل مداوي
1438/07/16 - 2017/04/13 07:47AM
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أما بعد:
﴿ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاْ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأنتُمْ مُسلِمُونَ﴾
﴿يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَولاً سَدِيداً * يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيِمَاً ﴾
أيها المسلمون: إن مِن أعظم الأعمال التي تُقرِّب إلى الله تعالى، وترفع الدرجات، وتحط الخطيئات، وتملأ القلب أنسًا وسرورًا، وتبعث في النفس راحةً وحبورًا ، هو حب المساكينِ والفقراء، والعنايةُ بهم، وسدُّ حاجتهم، ومُجالستُهم ومُحادثتُهم. فليس هذا العمل العظيم مُقتصرًا على إطعامهم فقط، بل هو أشمل وأكبر من ذلك.
وإن المساكين من المسلمين، لهم منزلةٌ عظيمةٌ عند الله رب العالمين؛ فقد ثبت في الصحيحين أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ". أي أصحاب الغنى والمال محبوسون، ليحاسبوا على هذه النعم.
ولذا، كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسأل الله أن يحييَه ويميته مسكينًا، بل ويحشره معهم.
فقد روى الترمذيُّ وصححه الألباني أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فعجبت عَائِشَةُ لهذا وقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فقَالَ: "إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَةُ: لاَ تَرُدِّي الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ: أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ القِيَامَةِ".
الله أكبر، يا له من عملٍ عظيم، ترفَّع وتنزه عنه كثيرٌ من المسلمين، والشاهدُ على هذا حالُهم لا مقالُهم.
وأما عنايةُ الصحابة والسلف الصالح بهم، فأمرٌ عجيب؛ فهذا الفاروقُ عمر -رضي الله عنه- حين وقف على امرأةٍ مسكينة جاءها المخاض، عاد يُهَرْوِلُ إلى بيته، فقال لامرأتِه أمِّ كلثومٍ بنتِ عليِّ بن أبي طالب: هل لك في أجرٍ ساقه الله إليكِ؟! وأخبرها الخبر، فقالت: نعم، فحمَل على ظهره دقيقًا وشحمًا، وحملت أمُّ كلثومٍ ما يَصْلُحُ للولادةِ وجاءا، فدخلَت أمُّ كلثومٍ على المرأةِ، وجلس عمرُ مع زوجها وهو لا يعرفُه، يتحدَّث معه ويؤانسه، ولم يذهبا حتى ولدت المرأةُ وحَسُن حالها.
فعمرُ على جلالة قدره، وكثرةِ شُغله، إلا أنه جعل للمساكينِ بعضًا من وقته، ومزيدًا من عمله وجُهده، بل بعضهم لا يأكل طعامًا إلا معهم.
فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- لا يأكل طعامًا إلا وعلى مائدته يتيم.
وهذا إمام هذا الزمان، ابنُ بازٍ -عليه الرحمةُ والرضوان-، لا يأكل في طعامه إلا مع الفقراء والمساكين، فدائمًا في سفرته لا يأكل إلا معهم!! حتى ضاق ذرعًا بعضُ الأغنياء والوجهاء، وقالوا لمن حول الشيخ: كلموا الشيخ، بأننا نريد الشيخ أن يجعل طعامًا للفقراء، وأن يجعل طعامًا للخاصة ونجلس معه، ونتحدث معه، فغضب الشيخ -رحمه الله تعالى- لذلك غضبًا شديدًا، ثم قال: الذي لا يعجبه، وتأبى نفسه أن يأكل مع الفقراء؛ ليس بمجبور، ما أجبرنا أحدًا، يخرج يأكل مع أهله، أما أنا فلن أغُيِّر من طريقتي شيئًا.
وكانوا يُجالسونهم ويقضون بعض أوقاتهم معهم.
كان بكر بن عبد الله المزنيُّ -رحمه الله- يجالس الفقراء والمساكين يحدثهم، ويقول: إنه يعجبهم ذلك.
وكان سفيان الثوري -رحمه الله- يعظّم المساكين، ويجفُو أهل الدنيا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء، والأغنياء هم الفقراء.
وعن المرُّوذي، قال: "لم أر الفقيرَ في مجلسٍ أعزَّ منه في مجلس أحمد بن حنبل -رحمه الله-؛ كان مائلاً إليهم، مُقصِّرًا عن أهل الدنيا".
وكانوا يرون الصدقةَ عليهم من أعظم الأعمال، وأحسنِ الخصال.
قال جابر بن زيد -رضي الله عنه-: "لأن أتصدق بدرهم على يتيم أو مسكين، أحب إليّ من حجة بعد حجة الإسلام".
كانوا يحبونهم محبةً عظيمة، ويجدون لذَّةً وسرورًا عند لقائهم.
فهذا علي بن الحسين -رحمه الله- إذا ناول السائل الصدقة، قبله ثم ناوله.
نعم -أيها المسلمون-، هكذا يُقدِّر الصالحون والعلماء المساكين والفقراء، ولا يحتقرونهم لأجل فقرهم، ولا يترفَّعون عنهم لأجل وَضاعةِ قدْرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤُه، يعدلون بين المسلمين، غنيهِم وفقيرِهم في أمورهم. ولَمَّا طلب بعض الأغنياء من النبي -صلى الله عليه وسلم- إبعادَ الفقراء، نهاه الله عن ذلك. وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغيرِ ذلك، وكان يجلس مع أهل الصُفة".
أيها المسلمون: إن مَن يرحمُ ويُحبُّ المساكين، ولا يجد حرجًا مِن مجالستهم ومُؤاكلتهم، لهو دليلٌ على صدقِ وقوةِ إيمانه؛ لأنه لا يرجو منهم شيئًا، بل يرجو ما عند الله تعالى.
واعلموا -أيها المسلمون- أن محبةَ المساكينِ لها فوائدُ كثيرة، ذكرها ابن رجب -رحمه الله- بقوله: "منها: أنها توجب إخلاص العمل لله -عز وجل-؛ لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله -عزّ وجل-؛ لأن نفعهم في الدنيا لا يُرجى غالبًا.
ومنها: أنها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين.
ومنها: أنها تُوجب صلاح القلب وخشوعه.
ومنها: أن مجالسة المساكين توجب رضا من يجالسهم برزق الله -عز وجل-، وتَعظمُ عنده نعمةُ الله -عز وجل-، بنظره في الدنيا إلى من دونه، ومجالسةُ الأغنياء توجب التسخط بالرزق، ومدَّ العين إلى زينتهم وما هم فيه. وقد نهى الله -عز وجل- نبيّه -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
أمة الإسلام : إنَّ الشفَقة والرأفة والرحمة على خلق الله - خصوصًا ضعفاءَ المسلمين؛ من يتيم، ومسكين، وأرملة - لها أثرٌ عند الله عظيم، ولها موقع في الحسنات ودفع السيئات، وتنزُّل الرحمة، ودفع النقمة، ولها أثر كبير في حُسن الخاتمة عند الموت، وتنزل الملائكة بالبشرى والأمن من المخاوف، ودفع الحزن عما خلف؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ ، وقال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾
ولقد حكى الله تعالى عن أهل النار في جوابهم لأهل الجنة عندما دار السؤال بينهم في الأسباب التي أوجبتْ لهم دخول النار قالوا: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ ، فإطعام المساكين والإحسان إليهم من الأسباب الموجبة لدُخُول الجنة
فلْنحرصْ -أيها المسلمون- ، على إحياء هذه العبادة العظيمة، التي تسابق إليها الأنبياءُ والمرسلون، والصحابةُ والتابعون، ولْنبادِرْ اخواننا الفقراء والمساكين بالسلام، ولْنَسْألْهم عن الأهل والعيال، وأننا نحب لهم ما نحب لأنفسنا، فهذا هو الإسلام الصحيح، فإن الدين المعاملة
عبادالله : صلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاةِ والسلامِ عليه فقال في مُحكَم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا﴾
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن تمن علينا وعلى المسلمين بعز الإسلام ونصر المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين .
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
وأقم الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أما بعد:
﴿يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَولاً سَدِيداً * يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيِمَاً ﴾
أيها المسلمون: إن مِن أعظم الأعمال التي تُقرِّب إلى الله تعالى، وترفع الدرجات، وتحط الخطيئات، وتملأ القلب أنسًا وسرورًا، وتبعث في النفس راحةً وحبورًا ، هو حب المساكينِ والفقراء، والعنايةُ بهم، وسدُّ حاجتهم، ومُجالستُهم ومُحادثتُهم. فليس هذا العمل العظيم مُقتصرًا على إطعامهم فقط، بل هو أشمل وأكبر من ذلك.
وإن المساكين من المسلمين، لهم منزلةٌ عظيمةٌ عند الله رب العالمين؛ فقد ثبت في الصحيحين أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ". أي أصحاب الغنى والمال محبوسون، ليحاسبوا على هذه النعم.
ولذا، كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسأل الله أن يحييَه ويميته مسكينًا، بل ويحشره معهم.
فقد روى الترمذيُّ وصححه الألباني أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فعجبت عَائِشَةُ لهذا وقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فقَالَ: "إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَةُ: لاَ تَرُدِّي الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ: أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ القِيَامَةِ".
الله أكبر، يا له من عملٍ عظيم، ترفَّع وتنزه عنه كثيرٌ من المسلمين، والشاهدُ على هذا حالُهم لا مقالُهم.
وأما عنايةُ الصحابة والسلف الصالح بهم، فأمرٌ عجيب؛ فهذا الفاروقُ عمر -رضي الله عنه- حين وقف على امرأةٍ مسكينة جاءها المخاض، عاد يُهَرْوِلُ إلى بيته، فقال لامرأتِه أمِّ كلثومٍ بنتِ عليِّ بن أبي طالب: هل لك في أجرٍ ساقه الله إليكِ؟! وأخبرها الخبر، فقالت: نعم، فحمَل على ظهره دقيقًا وشحمًا، وحملت أمُّ كلثومٍ ما يَصْلُحُ للولادةِ وجاءا، فدخلَت أمُّ كلثومٍ على المرأةِ، وجلس عمرُ مع زوجها وهو لا يعرفُه، يتحدَّث معه ويؤانسه، ولم يذهبا حتى ولدت المرأةُ وحَسُن حالها.
فعمرُ على جلالة قدره، وكثرةِ شُغله، إلا أنه جعل للمساكينِ بعضًا من وقته، ومزيدًا من عمله وجُهده، بل بعضهم لا يأكل طعامًا إلا معهم.
فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- لا يأكل طعامًا إلا وعلى مائدته يتيم.
وهذا إمام هذا الزمان، ابنُ بازٍ -عليه الرحمةُ والرضوان-، لا يأكل في طعامه إلا مع الفقراء والمساكين، فدائمًا في سفرته لا يأكل إلا معهم!! حتى ضاق ذرعًا بعضُ الأغنياء والوجهاء، وقالوا لمن حول الشيخ: كلموا الشيخ، بأننا نريد الشيخ أن يجعل طعامًا للفقراء، وأن يجعل طعامًا للخاصة ونجلس معه، ونتحدث معه، فغضب الشيخ -رحمه الله تعالى- لذلك غضبًا شديدًا، ثم قال: الذي لا يعجبه، وتأبى نفسه أن يأكل مع الفقراء؛ ليس بمجبور، ما أجبرنا أحدًا، يخرج يأكل مع أهله، أما أنا فلن أغُيِّر من طريقتي شيئًا.
وكانوا يُجالسونهم ويقضون بعض أوقاتهم معهم.
كان بكر بن عبد الله المزنيُّ -رحمه الله- يجالس الفقراء والمساكين يحدثهم، ويقول: إنه يعجبهم ذلك.
وكان سفيان الثوري -رحمه الله- يعظّم المساكين، ويجفُو أهل الدنيا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء، والأغنياء هم الفقراء.
وعن المرُّوذي، قال: "لم أر الفقيرَ في مجلسٍ أعزَّ منه في مجلس أحمد بن حنبل -رحمه الله-؛ كان مائلاً إليهم، مُقصِّرًا عن أهل الدنيا".
وكانوا يرون الصدقةَ عليهم من أعظم الأعمال، وأحسنِ الخصال.
قال جابر بن زيد -رضي الله عنه-: "لأن أتصدق بدرهم على يتيم أو مسكين، أحب إليّ من حجة بعد حجة الإسلام".
كانوا يحبونهم محبةً عظيمة، ويجدون لذَّةً وسرورًا عند لقائهم.
فهذا علي بن الحسين -رحمه الله- إذا ناول السائل الصدقة، قبله ثم ناوله.
نعم -أيها المسلمون-، هكذا يُقدِّر الصالحون والعلماء المساكين والفقراء، ولا يحتقرونهم لأجل فقرهم، ولا يترفَّعون عنهم لأجل وَضاعةِ قدْرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤُه، يعدلون بين المسلمين، غنيهِم وفقيرِهم في أمورهم. ولَمَّا طلب بعض الأغنياء من النبي -صلى الله عليه وسلم- إبعادَ الفقراء، نهاه الله عن ذلك. وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغيرِ ذلك، وكان يجلس مع أهل الصُفة".
أيها المسلمون: إن مَن يرحمُ ويُحبُّ المساكين، ولا يجد حرجًا مِن مجالستهم ومُؤاكلتهم، لهو دليلٌ على صدقِ وقوةِ إيمانه؛ لأنه لا يرجو منهم شيئًا، بل يرجو ما عند الله تعالى.
واعلموا -أيها المسلمون- أن محبةَ المساكينِ لها فوائدُ كثيرة، ذكرها ابن رجب -رحمه الله- بقوله: "منها: أنها توجب إخلاص العمل لله -عز وجل-؛ لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله -عزّ وجل-؛ لأن نفعهم في الدنيا لا يُرجى غالبًا.
ومنها: أنها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين.
ومنها: أنها تُوجب صلاح القلب وخشوعه.
ومنها: أن مجالسة المساكين توجب رضا من يجالسهم برزق الله -عز وجل-، وتَعظمُ عنده نعمةُ الله -عز وجل-، بنظره في الدنيا إلى من دونه، ومجالسةُ الأغنياء توجب التسخط بالرزق، ومدَّ العين إلى زينتهم وما هم فيه. وقد نهى الله -عز وجل- نبيّه -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
أمة الإسلام : إنَّ الشفَقة والرأفة والرحمة على خلق الله - خصوصًا ضعفاءَ المسلمين؛ من يتيم، ومسكين، وأرملة - لها أثرٌ عند الله عظيم، ولها موقع في الحسنات ودفع السيئات، وتنزُّل الرحمة، ودفع النقمة، ولها أثر كبير في حُسن الخاتمة عند الموت، وتنزل الملائكة بالبشرى والأمن من المخاوف، ودفع الحزن عما خلف؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ ، وقال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾
ولقد حكى الله تعالى عن أهل النار في جوابهم لأهل الجنة عندما دار السؤال بينهم في الأسباب التي أوجبتْ لهم دخول النار قالوا: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ ، فإطعام المساكين والإحسان إليهم من الأسباب الموجبة لدُخُول الجنة
فلْنحرصْ -أيها المسلمون- ، على إحياء هذه العبادة العظيمة، التي تسابق إليها الأنبياءُ والمرسلون، والصحابةُ والتابعون، ولْنبادِرْ اخواننا الفقراء والمساكين بالسلام، ولْنَسْألْهم عن الأهل والعيال، وأننا نحب لهم ما نحب لأنفسنا، فهذا هو الإسلام الصحيح، فإن الدين المعاملة
عبادالله : صلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاةِ والسلامِ عليه فقال في مُحكَم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا﴾
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن تمن علينا وعلى المسلمين بعز الإسلام ونصر المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين .
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
وأقم الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا