(خطبة) العمل التطوعي في حياة الأنبياء عليهم السلام
الشيخ السيد مراد سلامة
أما بعد:
إخوة الإيمان: نعيش في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر مع العمل التطوعي في حياة الأنبياء والصالحين وكيف أنهم كانوا يسارعون إلى فعل الخيرات ........فهو من أعظم الأبواب التي تجلب المودة والمحبة بين قلوب الأمة الواحدة، وهو باب من أبواب الحسنات والقرب من رب الأرض والسماوات، وهو باب من أبواب التكافل الاجتماعي في أمة الجسد الواحد
تعريف العمل التطوعي:
التطوع لغة: تَنَفَّلَ، أي تَكَلَّفَ الطاعة. يقال: قام بالعبادة طائعًا مختارًا دون أن تكون فرضًا لله وفى التنزيل الحكيم: ﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ﴾ [سورة البقرة: آية 184].
اصطلاحًا: العمل التطوعي هو عمل يقوم به فرد أو مجموعات سواء كان ذلك العمل بدني أو فكري أو اجتماعي أو مادي أو ديني الباعث له هو احتساب الأجر والثواب من الكريم الوهاب
أولاً: دعوة القران للعمل التطوعي العمل التطوعي في القرآن:
إخوة الإسلام: جاءت آيات كثيرة تدعونا إلى العمل الخيري و التطوعي و يحث الله تعالى فيها عليه المؤمنين و المؤمنات فقال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 114]
ففي هذه الآية دعوة كريمة إلى الصدقة وقول المعروف والإصلاح بين الناس وكلها من الأمور التطوعية التي دعا إليها رب البرية
عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ». قَالُوا بَلَى. قَالَ « إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ ». ([1])
وقال الله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } [البقرة: 282]
فهذه دعوة من الله تعالى لمن مَنَّ عليه بالقراءة والكتابة ألا يبخل على إخوانه بالكتابة لهم كما علمه الله تعالى يقول الشيخ الشعراوي – رحمه الله -
إن الحق يأمره بأن يتطوع، وفي ذلك يأتي الأمر الواضح «فليكتب»؛ لأن الإنسان إذا ما كان هناك أمر يقتضي منه أن يعمل، والظرف لا يحتمل تجربة، فالشرع يلزمه أن يندب نفسه للعمل.
هب أنكم في زورق وبعد ذلك جاءت عاصفة، وأغرقت الذي يمسك بدفة الزورق، أو هو غير قادر على إدارة الدفة، هنا يجب أن يتقدم من يعرف ليدير الدفة، إنه يندب نفسه للعمل، فلا مجال للتجربة. ([2])
و يقول سبحانه وتعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } [الإنسان: 8، 9] ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا أي ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له المحتاج الفقير العاجز عن الكسب واليتيم الحزين الذي فقد أباه وعائله والأسير المقيد المحبوس أو المملوك سواء من أهل الإيمان أو من المشركين. وخص الطعام بالذكر لكونه إنقاذا للحياة وإصلاحا للإنسان وإحسانا لا ينسى.
وفي قوله على حبه تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كل عامل من إخلاص عمله لله.
ونظير الآية قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11 -16] وقوله {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92] .
ثانياً: العمل التطوعي في السنة النبوية:
جاءت السنة النبوية تحث المؤمنين و المؤمنات على المسارعة إلى كل عمل تكون ثمرته الإحسان إلى الغير و رتبت على ذلك الأجر و الثواب عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَو يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ )([3])
والسُّلامى: بضم المهملة وتخفيف اللام مع القصر أي مفصل، أصله عظام الأصابع وسائر الكف ثم استعمل في جميع عظام البدن
والمعنى: أن على كل مسلم مكلف بعدد كل مفصل صدقة لله تعالى على سبيل الشكر له بأن جعل عظامه مفاصل يتمكن بها من القبض والبسط وخصت بالذكر لما في التصرف بها من دقائق الصنائع التي اختص الآدمي بها.
عليه صدقة: أي صدقة ندب وترغيب لا إيجاب وإلزام.
العمل التطوعي في حياة الأنبياء
أولا: العمل التطوعي في حياة نبي الله موسى والخضر عليهما السلام
ومن أمثلة العمل التطوعي الذي قصه علينا الرب العلي – جل جلاله –ما قام به نبي الله موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين يصور الله تعالى لنا ذلك المشهد الذي يفيض بالمروءة والشفقة فيقول
قال تعالي: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 23، 24]
يقول سيد قطب – رحمه الله-لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهود مكدود. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى عليه السلام وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء؛ ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولاً، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما.
ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود، ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف. بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب:
{قال: ما خطبكما؟} . .{قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير } . .
فأَطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال! وثارت نخوة موسى عليه السلام وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه.
تقدم ليسقي للمرأتين أولاً، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة.
وهو غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير. وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد. وهو مطارد، من خلفه أعداء لا يرحمون. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس: {فسقى لهما} . . مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله. ..كما يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل. ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه. فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب.
للعمل التطوعي قصة الخضر وموسى عليهما السلام و بناء الجدار
ومن مشاهد العمل التطوعي الذي يقوم به المسلم وهو يرجو به وجه الله ما قام به الخضر وموسى عليهما السلام – عندما دخلا القرية وطلب الضيافة ولكن القوم كانوا بخلاء لم يقدموا لهم واجب الضيافة وبينما هما يسيران إذ بجدار أوشك إلا الانهدام فقام الخضر ليصلحه يعاونه في ذلك موسى الكليم –عليهما السلام يقول الله تعالى
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]
فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته، ولم يطلب عليه أجراً من أهل القرية وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما كان يخبئ تحته كنزاً، ويغيب وراءه مالاً لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة . ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه. . ولما كان أبوهما صالحاً فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما ، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته .
تطوع نبي الله زكريا بكفالة مريم بنت عمران عليهما السلام
و لقد أشار القرآن الكريم إلى تطوع نبي الله زكريا –عليه السلام-لكفالة مريم بنت عمران عليها السلام قال تعالى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]. والكفالة تعني أن يقوم شخص برعاية شؤون أحد الأطفال، والعمل على تربية وتوفير احتياجاته حتى يكبر، وهذا ما فعله نبي الله زكريا، حيث تكفل برعاية مريم بنت عمران، وقام بكفالتها خير قيام، فهو نبي وزوج خالة مريم، وما كان أحد غيره جدير بهذه المهمة في كفالة مريم.
وكفالة الأيتام هي من أفضل الأعمال التطوعية، التي حثنا رسول الله –على كفالة الأيتام عَنْ سَهْلٍ أَنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ ». وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِى الإِبْهَامَ.([4])
نبي الله يوسف عليه السلام يتطوع ليكون مسؤول المالية
لما قضى نبي الله تعالى يوسف عليه السلام في السجن بضع سنين و رأى الملك تلك الرؤيا و فسرها له يوسف عليه السلام هنا انتدب يوسف عليه السلام نفسه لإدارة وزارة المالية في تلك الفترة العصيبة التي ستمر بها الدولة كما في قوله تعالى {قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 54 - 56] وتحمل مسؤولية المالية يدل على طموح نبي الله يوسف، كما يشير إلى أنه كان يرى نفسه مؤهلاً لتحمل هذه المسؤولية العظيمة والمهمة، لذلك تطوع من تلقاء نفسه للقيام بها.
العمل التطوعي في حياة الحبيب النبي –صلى الله عليه وسلم
أحباب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-لقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم محبا للخير منذ نعومة أظفاره يسارع إليه ويشارك فيها فحياته –صلى الله عليه وسلم كلها بذل وسخاء وعطاء، يوضح ذلك شهادة السيدة خديجة رضي الله عنها حيث قالت له –صلى الله عليه وسلم- {كَلَّا وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ "} ([5])، ولنضرب على ذلك أمثلة:
المثال الأول: مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة:
إخوة الإيمان :قد تربى النبي – صلى الله عليه وسلم- على المساهمة في عمل الخير و عدم التخلف عنه فها هو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم يشارك أهل مكة في بناء الكعبة عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، وَذَكَرَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: فَهَدَمَتْهَا قُرَيْشٌ وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي تَحْمِلُهَا قُرَيْشٌ عَلَى رِقَابِهَا، فَرَفَعُوهَا فِي السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، " فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ حِجَارَةً مِنْ أَجْيَادٍ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ، فَذَهَبَ يَضَعُ النَّمِرَةَ عَلَى عَاتِقِهِ فَتُرَى عَوْرَتُهُ مِنْ صِغَرِ النَّمِرَةِ، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ، خَمِّرْ عَوْرَتَكَ فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدَ ذَلِكَ " ([6]).
المثال الثاني: مشاركته في حلف ْمُطَيَّبِينَ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ " ([7])
وحلف الفضول كما قال محمد بن إسحاق: أن قبائل من قريش تداعت إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه.
وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبدالمطلب وبنو أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة .
فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه، وكانوا على من ظلمه حتى يردوا عليه مظلمته فسمت قريشاً ذلك الحلف حلف الفضول .
المثال الثالث: مشاركته صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد النبوي:
وقد اشترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم، وكانوا يروحون عن أنفسهم عناء الحمل والنقل والبناء فيرددون هذا الغناء: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة([8])
وقد ضاعف من حماس الصحابة في العمل أنهم رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يعمل بنفسه كواحد منهم ويكره أن يتميز عليهم فارتجز بعضهم هذا البيت:
لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل([9])
المثال الرابع: نزول النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في قبر ذي البجادين ومشاركة في دفنه:
وها هو الحبيب صلى الله عليه و سلم – إمام المتواضعين يباشر الدفن و حمل المتوفى ومعه ثلة و كوكبة من أصحابه الكرام إلا أنه يأبى إلا أن يقوم بذلك العمل ، و إذا نظر إلى أحوال بعض المسلمين نراه يأنف أن يغسل ميتا ا وأن يحمل جنازة ا وأن يتولى دفنه، و ربما يستنقصه و يقول هذا عمل الحانوتي ،فأين هؤلاء من تواضع سيد الأصفياء صلى الله عليه وسلم- من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يحدث قال : (( قمت من جوف الليل ، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر ، فاتبعتها أنظر قال : فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وإذا عبدالله ذو البجادين قد مات ، وإذا هم قد حفروا له ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته ، وأبو بكر وعمر يدليانه وإذا هو يقول : (( أدنيا إليَ أخاكما )) فدلياه إليه ، فلما هيأه لشقه ، قال : (( اللهم إني قد أمسيت راضياً عنه فأرضى عنه )) قال : يقول ابن مسعود : ((يا ليتنِي كنت صاحب الحفرة))..([10])
أقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه أن يمنّ علينا بالاستجابة له ولرسوله، وبالثبات على ما يرضيه إلى أن نلقاه تعالى، وأن يغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلوات الله وسلامه على خاتم المرسلين أحمده سبحانه وأتوب إليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحابته إلى يوم الدين.
صور مشرقة من العمل التطوعي في حياة الخلفاء
إخوة الإسلام على درب الأنبياء والأصفياء سار الخلفاء رضون الله عليهم أجمعين فلم يكونا بمعزل عن العمل التطوعي والمسارعة إلى نفع الغير، لم يشغلهم المنصب ولا المكانة عن ذلك العمل الجليل فهيا لنشاهد ذلك عن كثب
الخليفة الراشد أبي بكر الصديق يحلب لجواري الحي منائحهم :
لقد سار أبو بكر-رضي الله عنه – على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل التطوعي رغم ما ألقى عليه من أعباء الخلافة والأمة إلا أنه لم يمنعه ذلك عن عمل الخير (لما استُخلف -أبو بكر الصديق رضي الله عنه -أصبح غادياً إلى السوق وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة فلما بويع قالت جارية من الحي الآن لا يحلب لنا فقال بلى لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه) ([11]).
الفارق رضي الله عنه
أما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه – فإنه لم يتوانى في المسارعة إلى فعل الخيرات والإسهام في العمل التطوعي
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (بينا عمر رضوان الله عليه يَعِسُّ بالمدينة، إذ مر بِرَحَبةٍ من رِحَابِها، فإذا هو ببيت من شَعْرٍ لم يكن بالأمس، فدنا منه، فسمع أنين امرأة، ورأى رجلاً قاعداً، فدنا منه فسلّم عليه، ثم قال: من الرجل؟ قال: من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله، فقال: وما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت؟ فقال: انطلق رحمك الله لحاجتك، قال: عليّ ذلك ما هو؟ قال: امرأة تَمخَّضُ، قال: هل عندها أحد؟ قال: لا. قال: فانطلق حتى أتى منزله، فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ قالت: ما هو؟ قال: امرأة غريبة تَمخَّض، ليس عندها أحد، قالت: نعم إن شئتَ، قال: فخذي معك ما يصلح المرأة لولادتها من الخِرَقِ والدُّهْنِ، وجيئيني بَبُرْمَةٍ وشَحْمٍ وحُبُوب. قال: فجاءت به فقال لها: ادخلي إلى المرأة، وجاء حتى قعد إلى الرجل فقال له: أوقد لي ناراً. فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها، وولدت المرأة، فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين! بشر صاحبك بغلام، فلما سمع: (يا أمير المؤمنين) هابه، فجعل يتنحى عنه، فقال له: مكانك كما أنت، فحمل البرمة فوضعها على الباب، ثم قال: أشبعيها، ففعلت، ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب، فقام عمر رضي الله عنه فأخذها فوضعها بين يدي الرجل فقال: كُلْ ويحك! فإنك قد سهرت الليل، ففعل، ثم قال لامرأته: اخرجي. وقال للرجل: إذا كان غداً فأتنا نأمر لك بما يصلحك. ففعل الرجل، فأجازه وأعطاه).([12]).
اللهم تقبلنا وتقبلهم عندك في الصادقين المهديين ورثة جنة النعيم واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء وخير من مشى تحت أديم السماء نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] - أخرجه أحمد (6/444 ، رقم 27548) ، وأبو داود (4/280 ، رقم 4919) ، والترمذي (4/663 ، رقم 2509) ، وقال : صحيح
[2] - تفسير الشعراوي (ص: 780)
[3] - أخرجه البخاري في: 56 كتاب الجهاد: 128 باب من أخذ بالركاب ونحوه
[4] - أخرجه البخاري (5304) والترمذي (1918).
[5] - أخرجه أحمد (6/153) والبخاري (1/3و6/214 و215و9/37)
[6] - مسند أحمد ط الرسالة (39/ 218)إسناده قوي، وهو في "مصنف" عبد الرزاق بطوله برقم (9106) .وانظر (23794)
[7] - مسند أحمد ط الرسالة (3/ 193)وأخرجه ابن عدي في "الكامل" 4/1610، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (495).
[8] - خرجه البخاري في صحيحه 3932 ومسلم 2/311، وغيرهما،
[9] - ذكر ذلك ابن إسحاق في السيرة، ونقله عنه ابن كثير في "البداية" 3/ 216.
[10] - أخرجه ابن مندة من طريق سعيد بن الصلت عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود كما قال الحافظ في الإصابة: 2/ 330، ترجمه رقم: 480،
[11] - ((التبصرة)) لابن الجوزي (ص 408).
[12] - ابن الجوزي: مناقب ص 85، والتبصرة 1/427، 428. الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه (ص: 6)
المرفقات
التطوعي-في-حياة-الأنبياء-عليهم-السلام
التطوعي-في-حياة-الأنبياء-عليهم-السلام