خطبة الصحبة والرفقاء الجدد

راكان المغربي
1442/02/22 - 2020/10/09 06:12AM

أما بعد:

ها هو على فراشِ الموتِ يَلفِظُ أنفاسَه الأخيرة..

كانت حياتُه نضالاً وتضحيةً ودفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..

فليهنأ بالنعيم إذا..

ولكن!

بقي شرطٌ لم يكتمل، ومفتاحٌ لم يحصل عليه حتى تلك اللحظة..

يقدم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لينقذَ الموقف، ويسلمَه المفتاح، فتتحققَ له النجاة..

(يا عَمِّ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أحاج لكَ بهَا عِنْدَ اللهِ)

كلمات حق وصدق من صادق أمين لا ينطق عن الهوى..

ولكن التشويشَ كان حاضرا، فكان عند أبي طالب رفقاءُ السوء، أولئك الذين ما فتئوا يصدونه عن تلك الكلمةِ حتى آخرَ لحظةٍ في حياته..

تقول الراوية: (لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بنَ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: يا عَمِّ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أحاج لكَ بهَا عِنْدَ اللهِ، فَقالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عليه، ويُعيدانِه بتلك المقالةِ)

حتى صدرَ القرارُ الأخيرُ من أبي طالبٍ فقال: (لَوْلا أنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يقولونَ: إنَّما حَمَلَهُ علَى ذلكَ الجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بها عَيْنَكَ) فكان (آخِرَ شيء كلَّمَهم به: على مِلَّةِ عبدِ المُطَّلبِ، وأبَى أنْ يقولَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ)

ثم فاضت الروح، وترجلَ أبو طالب، وارتحلَ من الدنيا بطلا! ولكن إلى النار..

(وَیَوۡمَ یَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ یَدَیۡهِ یَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِیلࣰا ۝٢٧ یَـٰوَیۡلَتَىٰ لَیۡتَنِی لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِیلࣰا ۝٢٨ لَّقَدۡ أَضَلَّنِی عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَاۤءَنِیۗ وَكَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِلۡإِنسَـٰنِ خَذُولࣰا)

إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خَيَارَهُمْ ... وَلَا تَصْحَبِ الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي

عَنِ المَرءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلّ قَرِينٍ بالمُقَارِنِ يَقْتَدِي

عباد الله

الأصحابُ والأخلاءُ لهم الأثرُ البالغُ في حياة المرء، فهم الذين ينصتُ لكلامهم، ويرى أفعالَهم، ويشاركُهم اهتماماتِهم..

فإن كانت الكلماتُ طيبة، والأفعالُ حسنة، والاهتماماتُ عالية، فلا شك أنها ستحدثُ الأثرَ على الإنسان، صغيراً كان ذلك الأثرَ أم كبيراً.. والعكس بالعكس.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، والْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ -أي يعطيك من طيبه- ، وإمَّا أنْ تَبْتاعَ منه -أي تشتري منه-، وإمَّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)

فتأثيرُ الصحبةِ على الإنسانِ حتمٌ لازمٌ..

فهو في الصحبةِ الطبيةِ على درجاتٍ كما جاء في الحديث: (فَحامِلُ المِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمَّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمَّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً)، فلا بد أن تنتفعَ منه صغيرا كان ذلك النفعَ أم كبيرا..

وهو في الصحبة السيئة على دركات (ونافِخُ الكِيرِ: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)، فلا بد أن تتضررَ منه ضررا بينا أو خفيا..

 وانظر إلى واقعِ الناسِ حولَك..

كم من رجلٍ صاحبَ الصالحين، فتغيرت حياتُه، وسمت أفعالُه، وارتقت أخلاقُه.. فهذا شابٌ التحق بحلقةِ تحفيظٍ فتزينت حياتُه بكتاب الله، وهذا رجلٌ تزوجَ بامرأةٍ صالحةٍ فكانت له خير الناصحِ والمعينِ على طاعة الله، وهذا شيخٌ ارتبط بإخوانِ صدقٍ يجتمعون في الله ويتفرقون عليه، على أيديهم تقومُ مشاريعُ خيرية، أو مبادراتٌ اجتماعية، أو مجالسُ ذكر وإيمان..

وكم من رجلٍ صاحب الطالحين، فتدمرت حياتُه، وفسدت أفعالُه، وانحطت أخلاقُه.. فهذا ابنٌ ذو خلقِ وحسنِ تربية ارتبط بشلةٍ فاسدةٍ فأوقعَته في رذائلِ الشهوات، وهذا متفوقٌ خالط البطالين فصار مثلهم، وهذا تعرف على غلاةٍ ومتنطعين فدمروا دينَه ودنياه، والنماذجُ على تأثير الأصحابِ كثيرةٌ في كلا الجانبين، وكما قيل :"الصاحب ساحب"..

ولذلك كان موضوعُ الصحبةِ من المواضيعِ المركزيةِ في دينِ الإنسان ودنياه..

يحتاجُ أن يعتنيَ به كلُّ مسلم، صغيراً كان أو كبيراً، شاباً أو شيخاً، ذكراً أو أنثى، قويَّ الإيمان أو ضعيفاً..

ألم تسمعْ وصيةَ الله لخيرِ من مشى على الأرض، لمن يتنزلُ عليه الوحيُ صباحا ومساء، لمن هو خليلُ الرحمن وصفيه؟!

اسمع بارك الله فيك وأنصت إلى كلامِ ربِّك وهو يأمرُ نبيَّه بملازمةِ الصحبةِ الصالحةِ وينهاه عن الصحبةِ السيئة: (وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَیۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِیدُ زِینَةَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ – أي ولَا تُجَاوِزْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، تَطْلُبُ بَدَلَهُمْ أَصْحَابَ الشَّرَفِ وَالثَّرْوَةِ- وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطࣰا)

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرءُ على دينِ خليلِهِ، فلينظُر أحدُكم من يخالِلُ)

عباد الله..

طريق الصحبة الصالحة طريقٌ غناءٌ مثمرٌ مستمرٌ لا ينقطع..

فهو في الدنيا زينة ونعيم وزاد للطريق..

روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: " لولا ثلاثٌ ما أحببتُ البقاءَ ساعة: ظمأُ الهواجر – أي الصيام في النهار الحار- والسجودُ في الليل، ومجالسةُ أقوامٍ ينتقون أطايبَ الكلام، كما ينتقى أطايبُ الثَّمَر"

وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "لولا القيامُ بالأسحار وصحبةُ الأخيار ما اخترتُ البقاءَ في هذه الدار"

والصحبة الصالحة في الآخرةِ نجاةٌ ورفعةٌ درجاتٍ وممحقةٌ للسيئات، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الطويلِ الذي يتكلم فيه عن مجالس الذكر وأن الملائكةَ تتنزلُ عليهم وتحفًّهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره: (فيقول -الله للملائكة-: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قدْ غَفَرْتُ لهم، فيقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فيهم فُلانٌ ليسَ منهمْ، إنَّما جاءَ لِحاجَةٍ. قالَ: هُمُ الجُلَساءُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ)

 (ٱلۡأَخِلَّاۤءُ یَوۡمَىِٕذِۭ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِینَ ۝٦٧ یَـٰعِبَادِ لَا خَوۡفٌ عَلَیۡكُمُ ٱلۡیَوۡمَ وَلَاۤ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ ۝٦٨ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَكَانُوا۟ مُسۡلِمِینَ ۝٦٩ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ أَنتُمۡ وَأَزۡوَ ٰ⁠جُكُمۡ تُحۡبَرُونَ ۝٧٠ یُطَافُ عَلَیۡهِم بِصِحَافࣲ مِّن ذَهَبࣲ وَأَكۡوَابࣲۖ وَفِیهَا مَا تَشۡتَهِیهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡیُنُۖ وَأَنتُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ ۝٧١ وَتِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِیۤ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ۝٧٢ لَكُمۡ فِیهَا فَـٰكِهَةࣱ كَثِیرَةࣱ مِّنۡهَا تَأۡكُلُونَ)

 

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فقد يدلسُ الشيطانُ على المسلم بأن المجتمعَ فاسد، وأن الصالحين لا وجودَ لهم..

وما ذاك إلا ليصعبَ عليه الطريق، ويضعَ دونَه العوائق..

وليعلمِ المسلمُ أن الخيرَ في هذه الأمةِ لا ينقطع، وأن الصالحين كُثُر، ومن أراد الصحبةَ الصالحةَ، فليصدقْ مع الله، وسييسرُ الله له الطريق، وليبذلِ الأسبابَ في تحصيلِ ذلك من الدعاءِ والتحري وتتبعِ مواطنِ الخير وغير ذلك..

ومما نحبُّ التنويهُ عليه أن ثمةَ نوعٌ من الرفقاءِ الجدد، لا ينتبهُ له كثيرٌ من الناس، وتأثيرُه قد يكون أحيانا أكبرُ من تأثيرِ الأنواعِ التي تخطرُ على بالنا..

ألا وهم رفقاءُ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي، ممن تتابُعهم، وتشاهدُ حالاتِهم، وتقرأُ منشوراتِهم، فهم مجتمعُكَ الذي تنامُ عليه وتستيقظ، فاخترْ لنفسك وتابعْ من ينفعُك ويرفعُك ويرقيك في دينك ودنياك، وحذارِ حذارِ ممن يجرُّك ويضرُّك، فكم سمعتُ وسمعتُم عن حالاتٍ يندى لها الجبين، من وقوعٍ في الشهواتِ أو الشبهاتِ أو التفرقةِ والتشرذمِ بين الزوجين أو بين المسلمين، وكلُّ ذلك كان بسببِ المجتمعِ الافتراضي الذي نعايشُه، وبسببِ من نتابعُهم ويتابعوننا..

وفي الطرفِ الآخر، كم من الناسِ من كان ذلك المجتمعُ الافتراضيُّ سبباً له في اكتسابِ أخلاقٍ حميدة، وتعلمِ مهاراتٍ مفيدة، ورقيٍّ وزيادةٍّ في الإيمان والتقوى..

قال صلى الله عليه وسلم: (كما لا يُجتَني مِنَ الشَّوْكِ العِنَبُ، كذلكَ لا يَنْزِلُ الأَبْرَارُ مَنازِلَ الفُجَّارِ ، فَاسْلُكُوا أَيَّ طَرِيقٍ شِئْتُمْ ، فَأيُّ طَرِيقٍ سَلَكْتُمْ ورَدْتُمْ على أهلِهِ)

اللهمَّ إنّا نعوذُ بك من يومِ السوءِ ، و من ليلةِ السُّوءِ ، و من ساعةِ السُّوءِ ، و من صاحبِ السُّوءِ، و من جارِ السُّوءِ في دارِ المُقامةِ.

المشاهدات 851 | التعليقات 0