خطبة : ( الشكوى لله )

عبدالله البصري
1438/11/18 - 2017/08/10 20:06PM

الشكوى لله         19 / 11 / 1438

 

 

الخطبة الأولى :

 

أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَأَمَّلُوا حَالَ النَّاسِ في هَذِهِ الأَيَّامِ ، تَجِدُوا نُفُوسًا قَد بَلَغَ مِنهَا الضِّيقُ مَبلَغًا ، وَأُخرَى كَادَت تَقضِي جَزَعًا ، مَعَ قَدرٍ لَيسَ بِالقَلِيلِ مِن عَجَلَةٍ وَنَفَادِ صَبرٍ ، إِذْ يَعِيشُونَ بِقُلُوبِهِم مَا بَينَ أَحوَالٍ عَالَمِيَّةٍ خَارِجِيَّةٍ ، وَأُخرَى مَحَلِّيَّةٍ دَاخِلِيَّةٍ ، يُحِسُّونَ في الأُولَى بِمُعَانَاةِ إِخوَانِهِمُ المُسلِمِينَ المُستَضعَفِينَ ، وَيَغِيظُهُم مَا يَكِيدُهُ الأَعدَاءُ لَهُم وَمَا يَحِيكُونَهُ ضِدَّهُم ، وَتُثقِلُهُم في الأُخرَى هُمُومٌ مُجتَمَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ ، تَدُورُ في مُجمَلِهَا حَولَ الحَالَةِ الاقتِصَادِيَّةِ وَتَذَبذُبِهَا ، وَضِيقِ الأَرزَاقِ وَقِلَّةِ الفُرَصِ في الأَعمَالِ ، وَغَلاءِ الأَسعَارِ وَسُعَارِ التُّجَّارِ ، وَبَعضِ مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِن أَنظِمَةٍ جَدِيدَةٍ لم يَستَوعِبُوهَا وَلم يَتَعَوَّدُوا عَلَى مِثلِهَا .

أَمَّا المُؤمِنُونَ المُوقِنُونَ ، فَلَم يَزَلْ في قُلُوبِهِم مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَالثِّقَةِ بِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ ، مَا بِهِ يَعتَصِمُونَ وَيَتَمَسَّكُونَ ، وَعَلَيهِ يَتَّكِئُونَ وَيَقُومُونَ ، رِضًا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ ، وَتَسلِيمًا لأَمرِهِ وَإِيمَانًا بِبَالِغِ حِكمَتِهِ ، وَانقِيَادًا لِمَا يُجرِيهِ عَلَى عِبَادِهِ وَيُقَدِّرُهُ . وَأَمَّا المُشتَغِلُونَ بِالدُّنيَا ، المُنهَمِكُونَ في حُبِّهَا ، الَّذِينَ مَدُّوا العُيُونَ إِلى زَخَارِفِهَا ، وَتَعَمَّقُوا في طَلَبِهَا وَالاستِكثَارِ مِنهَا ، وَتَمَادَوا في بِحَارِهَا وَغَاصُوا في أَعمَاقِهَا ، فَقَد تَكُونُ غَابَت عَن قُلُوبِهِم مَعَانٍ إِيمَانِيَّةٌ عَظِيمَةٌ ، كَانَ مِنَ الأَحرَى بِهِم أَن يَتَمَسَّكُوا بها وَيَعَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ مَهمَا تَغَيَّرَتِ الأَحوَالُ أَوِ اشَتَدَّتِ الأَزَمَاتُ ، أَو عَظُمَ البَلاءُ وَتَوَالَتِ المَصَائِبُ .

أَجَل – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّهُ مَهمَا طَرَأَت عَلَى الحَيَاةِ مِن تَغَيُّرَاتٍ ، أَو وَاجَهَتِ النَّاسَ فِيهَا المُشكِلاتُ وَالمُعضِلاتُ  ، أَو تَنَوَّعَتِ الحَوَادِثُ وَالمُؤَثِّرَاتُ ، سَوَاءً عَلَى المُستَوَى العَالَمِيِّ العَامِّ ، أَوِ في الشَّأنِ الدَّاخِلِيِّ الخَاصِّ ، فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِ أَلاَّ يَشتَغِلَ كَثِيرًا بِتَفَاصِيلِ مَا يَجرِي مِن أَحدَاثٍ أَو يُغرِقَ في تَحلِيلاتِهَا وَمَا تَؤُولُ إِلَيهِ بَعدَ حِينٍ ، إِلى الحَدِّ الَّذِي يَغفَلُ فِيهِ عَن نَفسِهِ ، وَيَنسَى مَا يَنبَغِي أَن يَكُونَ عَلَيهِ في عِلاقَتِهِ بِرَبِّهِ ، إِذْ إِنَّ الانصِرَافَ كَثِيرًا إِلى مَا يَفعَلُهُ البَشَرُ وَيُدَبِّرُونَهُ ، وَالغَفلَةَ عَمَّا يُقَدِّرُهُ رَبُّ البَشَرِ وَمُدَبِّرُ الكَونِ ، لا يُنتِجُ إِلاَّ تَفَرُّقَ الهَمِّ وَتَشَتُّتَ القَلبِ وَضَيَاعَ الفِكرِ ، وَتَقَطُّعَ النُّفُوُسِ حَسَرَاتٍ عَلَى آلامٍ قَرِيبَةٍ حَصَلَت وَوَقَعَت ، أَو آمَالٍ بَعِيدَةٍ غَابَت وَعَزَبَت ، وَمِن ثَمَّ يُدَاخِلُ اليَأسُ القُلُوبَ ، وَيَحِلُّ القُنُوطُ بِالنُّفُوسِ ، وَكَفَى بِهَذَا ضَلالاً وَانحِرَافًا ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " قَالَ وَمَن يَقنَطُ مِن رَحمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ " وَقَالَ – تَعَالى - : " إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِن رَوحِ اللهِ إِلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد جَرَت حِكمَةُ اللهِ – تَعَالى - في عِبَادِهِ أَنْ خَلَقَهُم في كَبَدٍ ، وَقَضَى أَن يَعِيشُوا شَيئًا مِنَ المَشَقَّةِ وَالابتِلاءِ ، رِمَاحُ المَصَائِبِ عَلَيهِم مُشرَعَةٌ ، وَسِهَامُ البَلاءِ إِلَيهِم مُرسَلَةٌ ، وَلَولا أَنَّ الدُّنيَا دَارُ ابتِلاءٍ وَاختِبَارٍ ، مَا ضَاقَ العَيشُ فِيهَا عَلَى الأَنبِيَاءِ وَالأَخيَارِ ، وَلَو أَنَّهَا خُلِقَت لِلَذَّةٍ دَائِمَةٍ ، لَمَا كَانَ لِلمُؤمِنِ حَظٌّ مِنهَا ، غَيرَ أَنَّ الإِنسَانَ فيها لا يَخلُو مِن شِدَّةٍ وَضِيقٍ ، وَمُصِيبَةٍ تَحُلُّ وَبَلِيَّةٍ تَنزِلُ ، لَكِنَّ اللهَ قَضَى أَنَّ مَعَ الشِّدَّةِ فَرَجًا ، وَأَنَّ مَعَ البَلاءِ عَافِيَةً ، وَأَنَّ بَعدَ المَرَضِ شِفَاءً ، وَأَنَّ مَعَ الضِّيقِ سَعَةً وَعِندَ العُسرِ يُسرًا ، وَهُوَ القَائِلُ – سُبحَانَهُ - : " إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا . إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا " وَإِنَّ رَبًّا قَد رَعَى عَبدَهُ وَحَمَاهُ وَهُوَ جَنِينٌ في بَطنِ أُمِّهِ لا يَملِكُ مِن أَمرِ نَفسِهِ شَيئًا ، وَأَخرَجَهُ مِن ظُلُمَاتِ البَطنِ وَضِيقِهِ إِلى نُورِ الدُّنيَا وَسَعَتِهَا ، إِنَّهُ لَقَادِرٌ عَلَى أَن يَحفَظَهُ في مَسِيرَةٍ حَيَاتِهِ كُلِّهَا ، وَأَن يَجعَلَ لَهُ فَرَجًا مِن ظُلُمَاتِ المِحَنِ جَمِيعِهَا ؛ فَهُوَ - سُبحَانَهُ - الخَلاَّقُ العَلِيمُ ، المُدبِرُ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ، الَّذِي لا يَقَعُ في الكَونِ إِلاَّ مَا شَاءَ كَيفَمَا شَاءَ ، قَالَ - تَعَالى - : " إنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُدَبِّرُ الأَمرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعدِ إِذنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُم فَاعبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ " وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا - : " قُلْ مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَمَن يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ "

وَإِذَا كَانَ المُدَبِّرُ هُوَ الرَّحمَنَ الرَّحِيمَ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ ، فَإِنَّهُ لا يُقَدِّرُ عَلَى العِبَادِ شَرًّا مَحضًا ، بَل مَا مِن مُصِيبَةٍ إِلاَّ وَفِيهَا مِنَ الخَيرِ مَا لَو عَلِمُوا حَمِيدَ عَاقِبَتِهِ مَا جَزِعُوا أَبَدًا وَلا حَزِنُوا ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " عَجَبًا لأَمرِ المُؤمِنِ ، إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ ، وَلَيسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ ، إِن أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ ، وَإِن أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَمِن أَعظَمِ الخَيرِ الَّذِي تَشتَمِلُ عَلَيهِ المَصَائِبُ وَإِن كَانَ أَثَرُهُ لا يَظهَرُ في الدُّنيَا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الفَرَحُ العَظِيمُ بِهِ في الآخِرَةِ ، مُضَاعَفَةُ الأُجُورِ وَتَكفِيرُ السَّيِّئَاتِ وَرِفعَةُ الدَّرَجَاتِ ، فَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ : " مَا يُصِيبُ المُسلِمَ مِن نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ ، وَلا هَمٍّ وَلا حَزَنٍ ، وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ ، حَتَّى الشَّوكَةُ يُشَاكُهَا ، إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بها مِن خَطَايَاهُ "

وَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا لا يَرَى فِيمَا يَجرِي مِن أَحدَاثٍ إِلاَّ جَانِبَهَا المُظلِمَ ، فَإِنَّ هَذَا لا يَعنِي أَنَّ الخَيرَ قَدِ انقَطَعَ عَنهُ ، أَو أَنَّهُ غَيرُ مَوجُودٍ فِيمَا قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيهِ ، وَكَيفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَالعَلِيمُ الخَبِيرُ – سُبحَاَنُه – يَقُولُ وَقَولُهُ الحَقُّ : " وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم " وَيَقُولُ : " فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَيَجعَلَ اللهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا " وَيَقُولُ : " لا تَحسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم "

إِذَا عُلِمَ هَذَا – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ عَلَى المُسلِمِ فِيمَا يَكتبُهُ اللهُ عَلَيهِ وَيُقَدِّرُهُ ، أَن يَرضَى بِهِ وَيَستَسلِمَ لَهُ وَإِن كَانَ مُؤلِمًا ، وَلَيسَ مَعنَى هَذَا الخُضُوعَ وَالخُنُوعَ ، أَوِ الاكتِفَاءَ بِالبُكَاءِ وَالجَزَعِ ، أَوِ الوُقُوفَ وَالانكِفَاءَ عَلَى النَّفسِ بِلا تَدبِيرٍ وَمُحَاوَلَةٍ لِلخُرُوجِ مِنَ المَأزَقِ ، وَلَكِنَّ الوَاجِبَ أَن يَنظُرَ المَرءُ فِيمَا يُمكِنُ أَن يُخَفِّفَ بِهِ المُصِيبَةَ وَيُعَالِجَ آثَارَهَا ، وَأَن يَنظُرَ فِيمَا بَقِيَ لَدَيهِ مِن خَيرٍ وَلَو كَانَ قَلِيلاً ، فَيَستَثمِرَهُ وَيُدَبِّرَهُ ، حَتَّى يَشتَدَّ عُودُهُ وَيُثمِرَ مِن جَدِيدٍ .

وَأَمرٌ آخَرُ يَجِبُ عَلَى العَبدِ في حَالِ سَرَّائِهِ وَضَرَّائِهِ ، وَهُوَ في حَالِ الضَّرَّاءِ بِهِ أَولى وَعَلَيهِ أَوجَبُ ، أَلا وَهُوَ اللُّجُوءُ إِلى اللهِ وَدُعَاؤُهُ وَالتَّضَرُّعُ إِلَيهِ وَالاستِكَانَةُ إِلَيهِ ، وَبَثُّهُ الشَّكوَى وَالحِرصُ عَلَى مَا يَجلِبُ مَعِيَّتَهُ ، وَقَد ذَمَّ – تَعَالى - الَّذِينَ لا يَتَضَرَّعُونَ وَلا يَستَكِينُونَ وَقتَ البَلاءِ ، فَقَالَ - سُبحَانَهُ - : " وَلَقَد أَخَذنَاهُم بِالعَذَابِ فَمَا استَكَانُوا لِرَبِّهِم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ " وَفي الجَانِبِ الآخَرِ ذَكَرَ – تَعَالى – دَيدَنَ خَيرِ خَلقِهِ وَهُم أَنبِيَاؤُهُ وَرُسلُهُ ، وَكَيفَ كَانُوا إِذَا نَزَلَ بِهِمُ البَلاءُ وَاشتَدَّ بِهِمُ الكَربُ وَعَظُمَت عَلَيهِم المَصَائِبُ ، لَجَؤُوا إِلَيهِ وَتَضَرَّعُوا ، وَأَظهَرُوا افتِقَارَهُم بِالَّشكَوى إِلَيهِ ، فَهَذَا نُوحٌ - عَلَيهِ السَّلامُ - لَمَّا اشتَدَّ عَلَيهِ أَذَى قَومِهِ وَحَاصَرُوهُ وَهَدَّدُوهُ ، وَكَانُوا يَأخُذُونَ مَن يَتَّبِعُهُ فَيَفتِنُونَهُم عَن دِينِهِم " فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغلُوبٌ فَانتَصِرْ . فَفَتَحنَا أَبوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنهَمِرٍ " وَجَاءَهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالنَّصرِ المُبِينِ ، وَأَغرَقَ القَومَ بِالطُّوفَانِ الظَّالِمِينَ ، وَأَنقَذَهُ وَمَن مَعَهُ مِنَ المُؤمِنِينَ ، وَهَذَا أَيُّوبُ لَمَّا ابتُلِيَ بِالأَمرَاضِ ، فَلَبِثَ في بَلائِهِ ثَلاثَ عَشرَةَ سَنَةً ، حَتَّى رَفَضَهُ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ ، وَظَنُّوا مِن طُولِ البَلاءِ وَاشتِدَادِ المَرَضِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ أَنَّهُ لِذُنُوبٍ أَحدَثَهَا ، فَحَزِنَ لِذَلِكَ وَدَعَا وَ" نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ " قَالَ اللهُ – تَعَالى - :  فَاستَجَبنَا لَهُ فَكَشَفنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَينَاهُ أَهلَهُ وَمِثلَهُم مَعَهُم رَحمَةً مِن عِندِنَا وَذِكرَى لِلعَابِدِينَ " وَهَذَا يُونُسُ - عَلَيهِ السَّلامُ - لَمَّا حُبِسَ في بَطنِ الحُوتِ في قَاعِ البَحرِ في ظُلمَةِ اللَّيلِ " فَنَادَى في الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ " فَكَانَت العَاقِبَةُ " فَاستَجَبنَا لَهُ وَنَجَّينَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤمِنِينَ " وَهَذَا زَكَرِيَّا - عَلَيهِ السَّلامُ - يَتَقَدَّمُ بِهِ العُمُرُ وَيَكبُرُ وَيَشتَدُّ ضَعفُهُ ، وَتَهِنُ عِظَامُهُ وَيَشِيبُ رَأسَهُ " قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظمُ مِنِّي وَاشتَعَلَ الرَّأسُ شَيبًا وَلَم أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا . وَإِنِّي خِفتُ المَوَالِيَ مِن وَرَائي وَكَانَتِ امرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لي مِن لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ وَاجعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا " وَيَرفَعُ الشَّكوَى إِلى اللهِ وَيُكَرِّرُهَا " رَبِّ لا تَذَرْني فَردًا وَأَنتَ خَيرُ الوَارِثِينَ . فَاستَجَبنَا لَهُ وَوَهَبنَا لَهُ يَحيَى وَأَصلَحنَا لَهُ زَوجَهُ "

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – وَلْنَكُنْ مَعَ اللهِ بِطَاعَتِهِ يَكُنْ مَعَنَا بِحِفظِهِ وَتَوفِيقِهِ ، فَإِنَّهُ – تَعَالى - مَعَ الصَّابِرِينَ ، وَمَعَ المُؤمِنِينَ ، وَمَعَ المُتَّقِينَ ، وَمَعَ المُحسِنِينَ ، وَمَن كَانَ اللهُ مَعَهُ فَلا خَوفَ عَلَيهِ وَلا حَزَنَ . قَالَ – تَعَالى - : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ "

 

 

 

الخطبة الثانية :

 

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الفِتَنَ وَالأَزَمَاتِ وَالشَّدَائِدَ وَالمُلِمَّاتِ ، فُرصَةٌ لأَن يُرَاجِعَ المَرءُ نَفسَهُ وَيَختَبِرَ إِيمَانَهُ وَقُوَّةَ صَبرِهِ ، وَيَتَمَيَّزَ صِدقُهُ مِن كَذِبِهِ ،،،

لَولا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ * الجُودُ يُفقِرُ وَالإِقدَامُ قَتَّالُ

إِنَّ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يَستَشعِرُوا عِزَّتَهُم وَكَرَامَتَهُم وَإِن أَصَابَهُم مَا أَصَابَهُم ، امتِثَالاً لأَمرِ اللهِ القَائِلِ : " وَلا تَهِنُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنِين " وَإِنَّ مِن لَوَازِمِ ذَلِكَ عَدَمَ الاستِسلامِ وَالخُمُولِ ، وَمُوَاجَهَةَ الوَاقِعِ بِالعَمَلِ الجَادِّ وَبَذلِ الأَسبَابِ المَشرُوعَةِ ، وَالمُشَارَكَةِ في نَشرِ الأَمنِ وَدَرءِ الفِتَنِ ، وَصِنَاعَةِ النَّصرِ وَبِنَاءِ أُسُسِ التَّمكِينِ ، بِالتَّغيِيرِ مِن دَاخِلِ النُّفُوسِ أَوَّلاً ، وَالانتِصَارِ عَلَى شَهَوَاتِهَا وَلَذَائِذِهَا ، وَالعَودَةِ بها إِلى اللهِ، وَالتَّوبَةِ في كُلِّ وَقتٍ ، فَإِنَّ الأَمنَ لا يُسلَبُ ، وَالنَّصرَ لا يَتَأَخَّرُ ، وَالنِّعمَةَ لا تُفقَدُ ، إِلاَّ بِسَبَبٍ مِن أَنفُسِنَا ، " وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِير "

المرفقات

لله-4

لله-4

لله-5

لله-5

المشاهدات 1139 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا