خطبة الشجاعة ** الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد
أبو عبد الرحمن
1432/05/22 - 2011/04/26 10:46AM
الشجاعة
الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: أيها المسلمون: فإن المتتبع لأحوال العالم الإسلامي في العقود المتأخرة يرى عياناً أن الأمة مقبلة على ملاحم، بل ومعارك شرسة لا يعلم نهايتها إلا الله وحده، بل إن الناظر بعين متأملة للتاريخ المعاصر، ومستشرفة للمستقبل، مهتدية بهدي القرآن والسنة، ليبصر حقيقة مُرة، ألا وهي: أفول زمن الدعة والراحة، وأن ليس ثمت إلا نصال ونضال، وصهيل وعويل، وإراقة دماء، وتمزق أشلاء.
أيها المسلمون: في العقود الأخيرة كشّر الكفرة عن أنيابهم، وسنّوا سيوفهم لنحر الإسلام وأهله، فأكثر من نصف مليون قتيل في البوسنة والهرسك في أوائل العقد الثاني من القرن الخامس عشر، ثم بعد ذلك بثلاث سنوات، عشرات الآلاف من القتلى في كوسوفا، وبعدها بسنتين، آلاف في أندونيسيا، وأعداد مماثلة في كشمير المسلمة على مر تلك السنوات كلها، وقل مثل ذلك في أرض فلسطين، وما يحصل الآن في العراق، ولا زالت أنهار من دماء المسلمين تروي هذه الأرض.
أمة الإسلام: لقد فرض الصراع بين الحضارات نفسه على بني البشر، حتى ولو حاول المتخاذلون تفاديه، أو بذلوا كل ما في وسعهم لإغماض الأعين عن حقائقه، فإنه آت لا محالة، بل إن الصراع بين الحق والباطل هو سبب هذا الوجود، قال الله - جل وعلا -: {تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ* ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ} [(1 - 2) سورة الملك]. فالمستقبل ما هو إلا امتداد للماضي، والمستقبل يصنعه التاريخ، فلن يكون مستقبلنا القريب بأفضل من تاريخنا القريب، فالكل حقبة زمنية واحدة، وكل شيء بقضاء الله وقدره، والعلم عند الله تعالى.
إن هذه الحقائق توجب على الأمة المسلمة، أفراداً وجماعات، تكييف حياتها وفق هذه التحديات الضخام التي تواجهنا كلنا، ومن تكييف النفس استعداداً لتداعيات المستقبل، يجب أن يربي المسلمون أنفسهم بطريقة تتناسب مع ما ينتظرهم. وإن من أهم المعاني التي يجب على المسلمين الأخذ بها وتربية النفس عليها، تلك المعاني التي تبعث في النفس التضحية، والاستعلاء عن الشهوات، وحب الموت، والشهادة في سبيل الله، والتطلع إلى معالي الأمور، والتنـزه عن سفاسفها، والزهد في الدنيا.
ومن أهم الأخلاق التي ينبغي على الأمة المسلمة التحلي بها، خلق كريم، نبيل الطبع، لا يتصف به إلا السادة، ويرغب عنه العبيد، خلق يحمل النفس على الفضائل، ويحرسها من الاتصاف بالرذائل، هذا الخلق أيها الإخوة هو الشجاعة.
الشجاعة: هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافعة تحصيلاً، وعلى الأمور السيئة دفعاً، وتكون في الأقوال والأفعال، ولا بد فيها من التغلب على رهبة الموقف، قال بعضهم: "الشجاعة صبر ساعة".
الشجاعة يا عباد الله: من أعز أخلاق الإسلام، ساعدت المسلمين على الفتوح والسيادة في الأرض.
الشجاعة: ينبوع مكارم الأخلاق والخصال الحميدة.
واعلم أن كل كريهة تُرفع، أو مكرمة تُكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة، قال ابن القيم - رحمه الله -: "الشجاعة من أسباب السعادة، فإن الله يشرح صدر الشجاع بشجاعته وإقدامه، وهذا معلوم؛ لأن الهم والقلة والذلة وحقارة الحال تأتي من الجبن والهلع والفزع، وإن السعادة والانشراح والضحك والبسطة تأتي مع الشجاعة والإقدام وفرض الرأي وقول كلمة الحق التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه" انتهى...
يقال: الشجاع محبب حتى إلى عدوه، والجبان مبغض حتى إلى أمه.
أيها المسلمون: ولا تتصل الشجاعة بحجم البدن، ولا بشكل الإنسان، وليس لها علاقة بقوة البدن وضعفه، يقول الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير إذا تراه *** فيخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لبّ *** فلا عُرفٌ لديه ولا نكير
عباد الله: لا يظن ظان أن الشجاعة تقتصر على القتال والنـزال، بل إنها تمتد لتشمل قول كلمة الحق، والتحدث في المجامع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الرأي قال الله تعالى: ِإِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَـٰتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ، إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ) [(159 - 160) سورة البقرة]، فهذا تربية لشجاعة الرأي، وقد أخرج ابن ماجه والإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)). كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)).
وقف موسى - عليه السلام - أمام فرعون طاغية مصر، الذي قال لأهلها: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [(38) سورة القصص]، فقال له بعد أن وعظه، وتمرد موسى على ذلك، قال له: {وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً}[(102) سورة].
أنكر الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فيما قتل من المسلمين في دمشق وما فعل بهم، واشتد عليه في الإنكار، وسيوف حجاب الأمير حول الأوزاعي تقطر حوله دماً، حتى قال بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفاً من دم الأوزاعي، فما هاب وما خاف - رحمه الله -.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا *** ولكن على أقدامنا تقطر الدما
الشجاعة يا عباد الله: سر بقاء البشر واستمرار الحياة وعمران الأرض. قال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد: "احرص على الموت تُوهب لك الحياة". والعرب تقول: "إن الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة".
أمة القرآن: وكمال الشجاعة وزينتها أن تكون بإرشاد العقل، متزنة ومتوافقة مع الحكمة، وأن تعتمد على رأي حصيف وتبصر، مع حسن حيلة وحذر وتيقظ، وإلا كانت انتحاراً. فإن الشيء إذا زاد عن حد الحكمة، خشي أن يكون تهوراً وسفهاً وإلقاءً باليد للتهلكة، وذلك مذموم كما يذم الجبن، فالشجاعة خلق فاضل متوسط بين خلقين رذيلين هما الجبن والتهور.
قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المحل الثاني
فإذا اجتمعا لنفس مرة *** بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طَعن الفتى أقرانه *** بالرأي قبل تطاعن الأقران
وأعلى مراتب الشجاعة هو التقدم للتضحية بالنفس في سبيل الله تعالى.
أيها المسلمون: وحتى نميز حقيقة الشجاعة، لا بد من معرفة ضدها، وقد قيل وبضدها تتميز الأشياء، فالشجاعة ضدها الجبن، الذي يكون نتيجة تغلب المخاوف المرتقبة أو الحاصلة أمام الناظرين فيحجم الإنسان ولا يعود شجاعاً.
الجبن: مرض خسيس، يورث المهالك، ويقعد بصحابه عن معالي الأمور، ويرضيه بالأدنى، ويجعله قرين الذل، ورفيق الهوان.
الجبن: دليل على ضعف القلب، وانطوائه على أمر يخاف الإنسان من إظهاره ولذا حكى الله عن المنافقين فقال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [(4) سورة المنافقون].
والجبن والخور والعجز، من أسوء ما يوصف به الرجال، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَال)).
وعَنْ سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبر)).
وعدت العرب الجبن جريمة كبرى وسيئة في الرجل، الجبان يموت في اليوم مائة مرة، والشجاع يموت مرة واحدة، الجبان يتوهم كل شيء ضده.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "اللهم إني أشكو إليك عجز الثقة وجلَد المنافق". ولذلك كله فالأنبياء هم أشجع الناس؛ لأنهم أعلى الناس إيماناً؛ ولأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، فإن الله يقول: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[(111) سورة التوبة].
إن عمل الأنبياء ومن سار على طريقهم، ومن حمل لواءهم إلى يوم الدين، من دعوة الخلق، ونشر الإسلام، والجهاد في سبيل الله بجميع أنواع الجهاد، بالسنان، واللسان، لا يقوم به إلا من أوتي أوفر الحظ من الشجاعة والإقدام؛ لأن هذه الأعمال لا تتم إلا بمواجهة حاسمة بين النبي أو الداعية إلى الله، وبين أمته لا سيما منهم من رفض الخضوع لرب العالمين، ولذلك كان الأنبياء أشجع الناس، كما أنهم أعلى الناس إيماناً {ٱلَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً} [(39) سورة الأحزاب].
انظر إلى نوح - عليه السلام - وهو يواجه كل قومه قائلاً: {يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} [(71) سورة يونس]، وتأمل فيما قاله هود - عليه السلام - لقومه: {قَالَ إِنِي أُشْهِدُ ٱللَّهِ وَٱشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ، مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}[(54 - 55) سورة هود].
أما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو أكمل الخلق خلقاً، وعلماً، وعملاً، وهو أشجعهم.
ففي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - "أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس". وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - - وهو من أبطال الأمة وشجعانها – قال: "إنا كنا إذا اشتد بنا البأس، واحمرت الحدق اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أقربنا إلى العدو" [رواه أحمد والطبراني والنسائي].
ينام - صلى الله عليه وسلم - في بيت ويُطوَقُ بخمسين مقاتل ويخرج عليهم حاثياً عليهم التراب، وينام في الغار ويقول لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [(40) سورة التوبة].
ومرة فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: ((لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا)) [رواه البخاري ومسلم].
وفي غزوة ذات الرقاع، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نائماً، وإذا بمشرك ينسل ويحمل سيف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقتله، ويستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا بالسيف مصلت على رأسه فيقول له المشرك: ما يمنعك مني، فيجيبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل ثبات، ورباطة جأش، قال: ((الله)). فيسقط السيف من يد المشرك، وأصل القصة في الصحيحين.
وفي غزوة حنين حينما انكشف المسلمون، وولى كثير من الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحاط به المشركون، إذا به يقف موقف الأسد الهزبر، ينادي بكل ثبات: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب))، حتى عاد إليه أصحابه، والتفوا حوله، فتحولت الهزيمة إلى نصر مؤزر.
قيل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كيف تصرع الأبطال؟ قال: "إذا لقيت كنتُ أُقدّر أني أقتله، ويُقدّرُ هو أني قاتله، فاجتمع أنا ونفسه عليه فنهزمه". وقيل له: إذا جالت الخيل فأين نطلبك؟ قال: حيث تركتموني. وكان يقول - رضي الله عنه -: والذي نفس أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من موتة على فراش.
ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب قال: "إن يقتل فقد قُتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قصعاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف".
وذكر الذهبي في ترجمة البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه من فرط شجاعته، ألقى بنفسه مقتحماً حديقة المرتدين، عند حرب مسيلمة الكذاب، واشتهر عنه أنه قتل 100 من الشجعان مبارزة.
وذكروا في ترجمة حبيب بن زيد الأنصاري لما أمسكه مسيلمة الكذاب، قطع مسيلمة أعضاء جسده قطعة قطعة، وهو صامد حتى آخر قطرة من دمه، بل قال لمسيلمة حينما قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً مما تقول.
ومعاذ بن عمرو بن الجموح: قاتل أبي جهل، روى ابن إسحق في السيرة، ونقل القصة الذهبي في السير، عن معاذ نفسه قال: عن معاذ بن عمرو قال: "جعلت أبا جهل يوم بدر من شأني، فلما أمكنني حملت عليه فضربته فقطعت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة بن أبي جهل على عاتقي فطرح يدي وبَقِيَت معلقةً بجلدةٍ بجنبي، وأجهضني عنها القتال فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها".
ومن أعجب ما ذكر في قصص الشجاعة أن شبيب بن يزيد الخارجي كان من أشجع الناس، فقد قاتل الحجاج وهزمه بستين رجلاً، وكان جيش الحجاج ثلاثة آلاف، ثم تتبع الحجاج في كل غزوة، كان من شجاعته ينام على البغلة في المعركة، قال ابن كثير: وذلك من قوة قلبه.
وقفت وما في الموت شك لواقف *** كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال سلمى هزيمة *** ووجهك وضّاح وثغرك باسم
قيل لعنترة: كيف تنتصر على الناس؟ قال: بالصبر.
نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد: أيها المسلمون: إن الإسلام دين ودولة، وعبادة وقيادة، ومصحف وسيف، واعلموا أن الدين بغير قوة نظرية محضة، والدين بغير قوة مجرد فكرة مضيئة قلّ ما يعطيها الناس اهتماماً، كالحصن من غير جنود يكون عرضة للنهب والسلب والاحتلال.
عباد الله: لا يظن ظان أن الشجاعة أمر فطري، لا سبيل إلى اكتسابه، بل إن الأخلاق كلها يمكن أن تكتسب، وإلا لما رتب الله عليها ثواباً ولا عقاباً، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه)).
وهاهنا نذكر بعض الأسباب التي تعين على اكتساب الشجاعة وتنميتها:
أولاً: ترسيخ عقيدة القضاء والقدر، وإدراك أن الإنسان لا يصيبه إلا ما كتب الله له، ((وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))، ومن علم ما قاله الله - جل وعلا -: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـٰباً مُّؤَجَّلاً} [(145) سورة آل عمران]، {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [(157) سورة آل عمران]، {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [(34) سورة الأعراف]. اعلم أن ليس ثمة إلا الشجاعة والإقدام، وإلا ذل.
ثانياً: التوكل الصادق على الله - جل وعلا -، وانظر إلى حال هود - عليه السلام - حينما واجه قومه كلهم، بدعوتهم إلى عباد الله - سبحانه وتعالى -، ومعرفته أنهم سيكذبوه، إذا به يقول: {إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [(56) سورة هود].
ثالثاً: الاقتناع بأن معظم مثيرات الجبن والخوف لا تعدو كونها أوهاماً لا حقيقة لها، فمن عرف حقيقة الخلق لم يخش إلا الله، وما تخافه من دون الله إنما هم أولياء الشيطان كما قال تعالى: {إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}[(175) سورة آل عمران].
رابعاً: استصغار شأن العدو، وأنه يخاف منك إن أنت أظهرت الشجاعة أمامه واستبسلت في قتاله، وأظهرت حبك للموت، قال الله - جل وعلا -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(216) سورة البقرة]، وقال تعالى: {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [(104) سورة النساء].
خامساً: الكرم والإنفاق حيث يحميك من صفة البخل والخوف على الرزق، ويكسبك صفة الجود والكرم التي غالباً ما تلازم الشجاعة وتعين عليها، وهي سبب من أسبابها، كما قال الشاعر:
الجود بالمال جود فيه مكرمة *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
سادساً: الإعداد والتدريب العملي: كأنواع القتال والسلاح والرماية والسبق والرياضة والسباحة، وغيرها وهي جزء أصيل من منهج الإسلام في إعداد الرجال وإخراج الوهن والخوف من قلوبهم، قال الشاعر:
الرمي أفضل ما أوصى الرسول له *** وأشجع الناس من بالرمي يفتخر
سابعاً: القدوة الحسنة والتمثل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في شجاعته، وقد بعث قدوة للناس في كل شيء، وكان أسرعهم إلى مكامن الخطر وصوت المنذر، وكان الصحابة يحتمون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حمي الوطيس والتقى الشجعان.
ثامناً: قيام الليل وصف الأقدام بين يدي الكبير المتعال في جوف الليل البهيم، فإن شجرة الشجاعة تسقى بدموع السحر، وإذا طال التهجد أينعت ثمرته جهاداً وبطولة، قال ابن القيم - رحمه الله -:
في الليل رهبان وعند جهادهم *** لعدوهم من أشجع الشجعان
أيها المسلمون: إن مما يقوي القلب، ويشحذ الهمم، ويربي في النفس الشجاعة ما يراه الإنسان من البطولات التي يخطها إخواننا في أرض الفداء، أرض فلسطين، تلك البطولات التي أزاحت وستزيح عن الأمة كابوس الرعب من العدو، وتدفعه دفعاً نحو العلياء، نسأل الله أن يتقبل شهداءهم وأن يسدد رميهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم.اللهم...
المصدر
الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: أيها المسلمون: فإن المتتبع لأحوال العالم الإسلامي في العقود المتأخرة يرى عياناً أن الأمة مقبلة على ملاحم، بل ومعارك شرسة لا يعلم نهايتها إلا الله وحده، بل إن الناظر بعين متأملة للتاريخ المعاصر، ومستشرفة للمستقبل، مهتدية بهدي القرآن والسنة، ليبصر حقيقة مُرة، ألا وهي: أفول زمن الدعة والراحة، وأن ليس ثمت إلا نصال ونضال، وصهيل وعويل، وإراقة دماء، وتمزق أشلاء.
أيها المسلمون: في العقود الأخيرة كشّر الكفرة عن أنيابهم، وسنّوا سيوفهم لنحر الإسلام وأهله، فأكثر من نصف مليون قتيل في البوسنة والهرسك في أوائل العقد الثاني من القرن الخامس عشر، ثم بعد ذلك بثلاث سنوات، عشرات الآلاف من القتلى في كوسوفا، وبعدها بسنتين، آلاف في أندونيسيا، وأعداد مماثلة في كشمير المسلمة على مر تلك السنوات كلها، وقل مثل ذلك في أرض فلسطين، وما يحصل الآن في العراق، ولا زالت أنهار من دماء المسلمين تروي هذه الأرض.
أمة الإسلام: لقد فرض الصراع بين الحضارات نفسه على بني البشر، حتى ولو حاول المتخاذلون تفاديه، أو بذلوا كل ما في وسعهم لإغماض الأعين عن حقائقه، فإنه آت لا محالة، بل إن الصراع بين الحق والباطل هو سبب هذا الوجود، قال الله - جل وعلا -: {تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ* ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ} [(1 - 2) سورة الملك]. فالمستقبل ما هو إلا امتداد للماضي، والمستقبل يصنعه التاريخ، فلن يكون مستقبلنا القريب بأفضل من تاريخنا القريب، فالكل حقبة زمنية واحدة، وكل شيء بقضاء الله وقدره، والعلم عند الله تعالى.
إن هذه الحقائق توجب على الأمة المسلمة، أفراداً وجماعات، تكييف حياتها وفق هذه التحديات الضخام التي تواجهنا كلنا، ومن تكييف النفس استعداداً لتداعيات المستقبل، يجب أن يربي المسلمون أنفسهم بطريقة تتناسب مع ما ينتظرهم. وإن من أهم المعاني التي يجب على المسلمين الأخذ بها وتربية النفس عليها، تلك المعاني التي تبعث في النفس التضحية، والاستعلاء عن الشهوات، وحب الموت، والشهادة في سبيل الله، والتطلع إلى معالي الأمور، والتنـزه عن سفاسفها، والزهد في الدنيا.
ومن أهم الأخلاق التي ينبغي على الأمة المسلمة التحلي بها، خلق كريم، نبيل الطبع، لا يتصف به إلا السادة، ويرغب عنه العبيد، خلق يحمل النفس على الفضائل، ويحرسها من الاتصاف بالرذائل، هذا الخلق أيها الإخوة هو الشجاعة.
الشجاعة: هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافعة تحصيلاً، وعلى الأمور السيئة دفعاً، وتكون في الأقوال والأفعال، ولا بد فيها من التغلب على رهبة الموقف، قال بعضهم: "الشجاعة صبر ساعة".
الشجاعة يا عباد الله: من أعز أخلاق الإسلام، ساعدت المسلمين على الفتوح والسيادة في الأرض.
الشجاعة: ينبوع مكارم الأخلاق والخصال الحميدة.
واعلم أن كل كريهة تُرفع، أو مكرمة تُكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة، قال ابن القيم - رحمه الله -: "الشجاعة من أسباب السعادة، فإن الله يشرح صدر الشجاع بشجاعته وإقدامه، وهذا معلوم؛ لأن الهم والقلة والذلة وحقارة الحال تأتي من الجبن والهلع والفزع، وإن السعادة والانشراح والضحك والبسطة تأتي مع الشجاعة والإقدام وفرض الرأي وقول كلمة الحق التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه" انتهى...
يقال: الشجاع محبب حتى إلى عدوه، والجبان مبغض حتى إلى أمه.
أيها المسلمون: ولا تتصل الشجاعة بحجم البدن، ولا بشكل الإنسان، وليس لها علاقة بقوة البدن وضعفه، يقول الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير إذا تراه *** فيخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لبّ *** فلا عُرفٌ لديه ولا نكير
عباد الله: لا يظن ظان أن الشجاعة تقتصر على القتال والنـزال، بل إنها تمتد لتشمل قول كلمة الحق، والتحدث في المجامع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الرأي قال الله تعالى: ِإِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَـٰتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ، إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ) [(159 - 160) سورة البقرة]، فهذا تربية لشجاعة الرأي، وقد أخرج ابن ماجه والإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)). كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)).
وقف موسى - عليه السلام - أمام فرعون طاغية مصر، الذي قال لأهلها: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [(38) سورة القصص]، فقال له بعد أن وعظه، وتمرد موسى على ذلك، قال له: {وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً}[(102) سورة].
أنكر الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فيما قتل من المسلمين في دمشق وما فعل بهم، واشتد عليه في الإنكار، وسيوف حجاب الأمير حول الأوزاعي تقطر حوله دماً، حتى قال بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفاً من دم الأوزاعي، فما هاب وما خاف - رحمه الله -.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا *** ولكن على أقدامنا تقطر الدما
الشجاعة يا عباد الله: سر بقاء البشر واستمرار الحياة وعمران الأرض. قال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد: "احرص على الموت تُوهب لك الحياة". والعرب تقول: "إن الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة".
أمة القرآن: وكمال الشجاعة وزينتها أن تكون بإرشاد العقل، متزنة ومتوافقة مع الحكمة، وأن تعتمد على رأي حصيف وتبصر، مع حسن حيلة وحذر وتيقظ، وإلا كانت انتحاراً. فإن الشيء إذا زاد عن حد الحكمة، خشي أن يكون تهوراً وسفهاً وإلقاءً باليد للتهلكة، وذلك مذموم كما يذم الجبن، فالشجاعة خلق فاضل متوسط بين خلقين رذيلين هما الجبن والتهور.
قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المحل الثاني
فإذا اجتمعا لنفس مرة *** بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طَعن الفتى أقرانه *** بالرأي قبل تطاعن الأقران
وأعلى مراتب الشجاعة هو التقدم للتضحية بالنفس في سبيل الله تعالى.
أيها المسلمون: وحتى نميز حقيقة الشجاعة، لا بد من معرفة ضدها، وقد قيل وبضدها تتميز الأشياء، فالشجاعة ضدها الجبن، الذي يكون نتيجة تغلب المخاوف المرتقبة أو الحاصلة أمام الناظرين فيحجم الإنسان ولا يعود شجاعاً.
الجبن: مرض خسيس، يورث المهالك، ويقعد بصحابه عن معالي الأمور، ويرضيه بالأدنى، ويجعله قرين الذل، ورفيق الهوان.
الجبن: دليل على ضعف القلب، وانطوائه على أمر يخاف الإنسان من إظهاره ولذا حكى الله عن المنافقين فقال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [(4) سورة المنافقون].
والجبن والخور والعجز، من أسوء ما يوصف به الرجال، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَال)).
وعَنْ سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبر)).
وعدت العرب الجبن جريمة كبرى وسيئة في الرجل، الجبان يموت في اليوم مائة مرة، والشجاع يموت مرة واحدة، الجبان يتوهم كل شيء ضده.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "اللهم إني أشكو إليك عجز الثقة وجلَد المنافق". ولذلك كله فالأنبياء هم أشجع الناس؛ لأنهم أعلى الناس إيماناً؛ ولأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، فإن الله يقول: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[(111) سورة التوبة].
إن عمل الأنبياء ومن سار على طريقهم، ومن حمل لواءهم إلى يوم الدين، من دعوة الخلق، ونشر الإسلام، والجهاد في سبيل الله بجميع أنواع الجهاد، بالسنان، واللسان، لا يقوم به إلا من أوتي أوفر الحظ من الشجاعة والإقدام؛ لأن هذه الأعمال لا تتم إلا بمواجهة حاسمة بين النبي أو الداعية إلى الله، وبين أمته لا سيما منهم من رفض الخضوع لرب العالمين، ولذلك كان الأنبياء أشجع الناس، كما أنهم أعلى الناس إيماناً {ٱلَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً} [(39) سورة الأحزاب].
انظر إلى نوح - عليه السلام - وهو يواجه كل قومه قائلاً: {يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} [(71) سورة يونس]، وتأمل فيما قاله هود - عليه السلام - لقومه: {قَالَ إِنِي أُشْهِدُ ٱللَّهِ وَٱشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ، مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}[(54 - 55) سورة هود].
أما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو أكمل الخلق خلقاً، وعلماً، وعملاً، وهو أشجعهم.
ففي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - "أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس". وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - - وهو من أبطال الأمة وشجعانها – قال: "إنا كنا إذا اشتد بنا البأس، واحمرت الحدق اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أقربنا إلى العدو" [رواه أحمد والطبراني والنسائي].
ينام - صلى الله عليه وسلم - في بيت ويُطوَقُ بخمسين مقاتل ويخرج عليهم حاثياً عليهم التراب، وينام في الغار ويقول لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [(40) سورة التوبة].
ومرة فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: ((لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا)) [رواه البخاري ومسلم].
وفي غزوة ذات الرقاع، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نائماً، وإذا بمشرك ينسل ويحمل سيف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقتله، ويستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا بالسيف مصلت على رأسه فيقول له المشرك: ما يمنعك مني، فيجيبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل ثبات، ورباطة جأش، قال: ((الله)). فيسقط السيف من يد المشرك، وأصل القصة في الصحيحين.
وفي غزوة حنين حينما انكشف المسلمون، وولى كثير من الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحاط به المشركون، إذا به يقف موقف الأسد الهزبر، ينادي بكل ثبات: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب))، حتى عاد إليه أصحابه، والتفوا حوله، فتحولت الهزيمة إلى نصر مؤزر.
قيل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كيف تصرع الأبطال؟ قال: "إذا لقيت كنتُ أُقدّر أني أقتله، ويُقدّرُ هو أني قاتله، فاجتمع أنا ونفسه عليه فنهزمه". وقيل له: إذا جالت الخيل فأين نطلبك؟ قال: حيث تركتموني. وكان يقول - رضي الله عنه -: والذي نفس أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من موتة على فراش.
ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب قال: "إن يقتل فقد قُتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قصعاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف".
وذكر الذهبي في ترجمة البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه من فرط شجاعته، ألقى بنفسه مقتحماً حديقة المرتدين، عند حرب مسيلمة الكذاب، واشتهر عنه أنه قتل 100 من الشجعان مبارزة.
وذكروا في ترجمة حبيب بن زيد الأنصاري لما أمسكه مسيلمة الكذاب، قطع مسيلمة أعضاء جسده قطعة قطعة، وهو صامد حتى آخر قطرة من دمه، بل قال لمسيلمة حينما قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً مما تقول.
ومعاذ بن عمرو بن الجموح: قاتل أبي جهل، روى ابن إسحق في السيرة، ونقل القصة الذهبي في السير، عن معاذ نفسه قال: عن معاذ بن عمرو قال: "جعلت أبا جهل يوم بدر من شأني، فلما أمكنني حملت عليه فضربته فقطعت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة بن أبي جهل على عاتقي فطرح يدي وبَقِيَت معلقةً بجلدةٍ بجنبي، وأجهضني عنها القتال فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها".
ومن أعجب ما ذكر في قصص الشجاعة أن شبيب بن يزيد الخارجي كان من أشجع الناس، فقد قاتل الحجاج وهزمه بستين رجلاً، وكان جيش الحجاج ثلاثة آلاف، ثم تتبع الحجاج في كل غزوة، كان من شجاعته ينام على البغلة في المعركة، قال ابن كثير: وذلك من قوة قلبه.
وقفت وما في الموت شك لواقف *** كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال سلمى هزيمة *** ووجهك وضّاح وثغرك باسم
قيل لعنترة: كيف تنتصر على الناس؟ قال: بالصبر.
نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد: أيها المسلمون: إن الإسلام دين ودولة، وعبادة وقيادة، ومصحف وسيف، واعلموا أن الدين بغير قوة نظرية محضة، والدين بغير قوة مجرد فكرة مضيئة قلّ ما يعطيها الناس اهتماماً، كالحصن من غير جنود يكون عرضة للنهب والسلب والاحتلال.
عباد الله: لا يظن ظان أن الشجاعة أمر فطري، لا سبيل إلى اكتسابه، بل إن الأخلاق كلها يمكن أن تكتسب، وإلا لما رتب الله عليها ثواباً ولا عقاباً، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه)).
وهاهنا نذكر بعض الأسباب التي تعين على اكتساب الشجاعة وتنميتها:
أولاً: ترسيخ عقيدة القضاء والقدر، وإدراك أن الإنسان لا يصيبه إلا ما كتب الله له، ((وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))، ومن علم ما قاله الله - جل وعلا -: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـٰباً مُّؤَجَّلاً} [(145) سورة آل عمران]، {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [(157) سورة آل عمران]، {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [(34) سورة الأعراف]. اعلم أن ليس ثمة إلا الشجاعة والإقدام، وإلا ذل.
ثانياً: التوكل الصادق على الله - جل وعلا -، وانظر إلى حال هود - عليه السلام - حينما واجه قومه كلهم، بدعوتهم إلى عباد الله - سبحانه وتعالى -، ومعرفته أنهم سيكذبوه، إذا به يقول: {إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [(56) سورة هود].
ثالثاً: الاقتناع بأن معظم مثيرات الجبن والخوف لا تعدو كونها أوهاماً لا حقيقة لها، فمن عرف حقيقة الخلق لم يخش إلا الله، وما تخافه من دون الله إنما هم أولياء الشيطان كما قال تعالى: {إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}[(175) سورة آل عمران].
رابعاً: استصغار شأن العدو، وأنه يخاف منك إن أنت أظهرت الشجاعة أمامه واستبسلت في قتاله، وأظهرت حبك للموت، قال الله - جل وعلا -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(216) سورة البقرة]، وقال تعالى: {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [(104) سورة النساء].
خامساً: الكرم والإنفاق حيث يحميك من صفة البخل والخوف على الرزق، ويكسبك صفة الجود والكرم التي غالباً ما تلازم الشجاعة وتعين عليها، وهي سبب من أسبابها، كما قال الشاعر:
الجود بالمال جود فيه مكرمة *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
سادساً: الإعداد والتدريب العملي: كأنواع القتال والسلاح والرماية والسبق والرياضة والسباحة، وغيرها وهي جزء أصيل من منهج الإسلام في إعداد الرجال وإخراج الوهن والخوف من قلوبهم، قال الشاعر:
الرمي أفضل ما أوصى الرسول له *** وأشجع الناس من بالرمي يفتخر
سابعاً: القدوة الحسنة والتمثل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في شجاعته، وقد بعث قدوة للناس في كل شيء، وكان أسرعهم إلى مكامن الخطر وصوت المنذر، وكان الصحابة يحتمون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حمي الوطيس والتقى الشجعان.
ثامناً: قيام الليل وصف الأقدام بين يدي الكبير المتعال في جوف الليل البهيم، فإن شجرة الشجاعة تسقى بدموع السحر، وإذا طال التهجد أينعت ثمرته جهاداً وبطولة، قال ابن القيم - رحمه الله -:
في الليل رهبان وعند جهادهم *** لعدوهم من أشجع الشجعان
أيها المسلمون: إن مما يقوي القلب، ويشحذ الهمم، ويربي في النفس الشجاعة ما يراه الإنسان من البطولات التي يخطها إخواننا في أرض الفداء، أرض فلسطين، تلك البطولات التي أزاحت وستزيح عن الأمة كابوس الرعب من العدو، وتدفعه دفعاً نحو العلياء، نسأل الله أن يتقبل شهداءهم وأن يسدد رميهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم.اللهم...
المصدر