خطبة الستر فضائل وآداب الشيخ صالح بن مبارك دعكيك
شادي باجبير
خطبة:الستر فضائل وآداب
للشيخ د.صالح بن مبارك دعكيك
ألقيت في ١٩رجب 1444هـ
الخطبة الأولى
الحمدلله رب العالمين...
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، لك الحمد ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا وربا شاهدا ونحن له مسلمون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- القائل في كتابه الكريم:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[سورة آل عمران 102].
عباد الله، من عظيم فضل الله -عز وجل- وإحسانه أنه ساتر للعيوب جل جلاله، غفار للذنوب جل في علاه، قابل للتوب يحب العفو والستر، ويثيب عليهما، ويكره -سبحانه وتعالى- الفحش والتفحش، وإظهار العيوب ونشرها بين الناس، وتوعد أولئك بعذابه الأليم، قال -سبحانه وتعالى-:﴿إِنَّ الَّذينَ يُحِبّونَ أَن تَشيعَ الفاحِشَةُ فِي الَّذينَ آمَنوا لَهُم عَذابٌ أَليمٌ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ﴾ [النور: ١٩]. أولئك قوم يحبون إشاعة الفاحشة بترويجها وبالحديث عنها، وبإشاعتها وبتصويرها وبنشرها، أولئك قوم متوعدون بهذا العذاب الأليم.
والإنسان -أيها الأحبة- خلق ضعيفاً، ضعيفاً في بُنيته، ضعيفاً في إرادته، ضعيفاً يقع في الهفوات والزلات، وهو مع مجاهدته لنفسه يكبو أحياناً، ويقوم أحياناً أخرى، ليس أحد منا بمعصوم، قال عليه الصلاة والسلام: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ". رواه الترمذي.
نعم، ومن ذا الذي ترجى سجاياه كلها**كفى المرء نبلا أن تعد معائبه.
ليس ذلك إلا لملك مقرب أو نبي مرسل، ولذلك فإن الإنسان يقع في الهفوات والزلات، ويرجو من ربه -سبحانه وتعالى- أن يسترها عليه في الدنيا، وأن يغفرها له في الآخرة.
الستر -أيها الأحبة- فضيلة عظيمة، الستر خلق عالٍ، الستر مرتبة شريفة، الستر -أيها الأحبة- سلوك راقٍ، وهو مع هذا وذاك طاعة عظيمة جليلة، نتقرب بها إلى الله عز وجل.
حينما تستر عن مؤمن إنما تريد بذلك وجه الله عز وجل، فتتقرب إليه بهذه العبادة الجليلة، التي لا يحسنها كثير من الناس؛ لأنها تريد قلوباً نقية سليمة، ليس فيها غش ولا حقد على المسلمين.
ثبت في البخاري، أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: " يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ : عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ. وَيَقُولُ : عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ. فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ : إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ".
الستر سبب للوصول إلى ستر الله -عز وجل- في الدنيا، وستره -سبحانه وتعالى- في الآخرة، وغفرانه للذنوب.
إن الله -عز وجل- يحب الستر، بل ووصف نفسه بأنه ستير، جاء في الحديث " إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ". والحديث أخرجه أبو داود، وإسناده صحيح.
أما نبينا -عليه الصلاة والسلام- فكان أعظم الناس حياء، وأعفهم لساناً، كان كاتماً للمعايب، ساتراً للزلات، آمراً -عليه الصلاة والسلام- بستر العورات، في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة، أن رجلاً جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو في المسجد، فقال: يا رسول الله، أصبت حدا فأقمه علي. فسكت عنه، ثم أعاد الرجل، فسكت عنه، ثم أعاد الرجل الثالثة، فسكت عنه، فأقيمت الصلاة، وصلى الناس، فانصرف نبينا عليه الصلاة والسلام، فلحقه الرجل. يقول أبو أمامة: فلحقته لأنظر ماذا يقول له رسول الله. فقال الرجل: يا رسول الله، أصبت حدا فأقمه علي. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ، أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ ؟ " قَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ : " ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا ؟ " فَقَالَ : نَعَمْ يَا رَسُولَ الله. قَالَ : فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ، أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ ".
الستر فضيلة عظيمة، هكذا كان -عليه الصلاة والسلام- يتعامل مع هذه المعايب ومع هذه الزلات، بل ثبت في مسند الإمام أحمد، وعند أبي داود، أن ماعزا الأسلمي حينما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأقر بالزنا، ورده مرات، فأبى إلا أن يقام عليه الحد، وماعز هذا كان أجيراً عند هزال الأسلمي، فوقع على جارية، فقال له هزيل: اذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبره، فلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هزالاً، قال: " يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ ".
سبحان الله! أي لو سترت الأمر والقضية وسكتت عنها؛ ليفتح الرجل باباً بينه وبين الله عز وجل، لا أن يأتي لأقيم عليه الحد.
أين هذا من أقوام يحبون نشر الفضائح، ويتجسسون على الناس، ويحاولون الوصول لمعايبهم ليكشفوها، بل ربما اتهموا الأبرياء، وأشاعوا عنهم الإفك عياذاً بالله؟! أين هذا من منهج رسولنا عليه الصلاة والسلام، ومن هديه وتعاليمه ؟!
ثبت في مسند الإمام أحمد، وصححه الحاكم والذهبي رحمهم الله تعالى، عن عقبة بن عامر مرفوعاً، قال " مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا ". من رأى عورة صغيرة أو كبيرة في جانب من جوانب حياة الإنسان، في تعامل، أو أخلاق، أو تجارة، وغيرها من العيوب التي لا تنتهي، فستر ما رآه فكأنما أحيا موءودة من قبرها .
هذا هديه عليه الصلاة والسلام، وهذه سيرته، وهذه تعاليمه لأمته عليه الصلاة والسلام .
لقد ربى المجتمع الأول على هذه الفضائل، فكانوا قد استوعبوها، وطبقوها، فهذا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أبو بكر الصديق يقول: " لو أخذت سارقاً لأحببت أن يستر الله عليه، ولو أخذت شارباً لأحببت أن يستر الله عليه". أي لا أريد أن يصل إلى دار القضاء أصلا، فليستر ما بينه وبين الله.
وهذا عمر الفاروق -رضي الله تعالى عنه- بلَغه أن قائد جيشه شرحبيل بن السمط قال لجنوده: "إنكم بأرض فيها نساء وشراب، فمن أصاب منكم حدا فليأتنا نطهره". فأرسل إليه الفاروق من المدينة يقول له: "لا أم لك، تأمر قوما ستر الله عليهم أن يهتكوا ستر الله عليهم".
هذه أخلاقنا وأخلاق أمتنا في القرون الأولى، حتى يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "من أطفأ على مؤمن سيئة فكأنما أحيا موءودة".
و يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى-:"من كان بينه وبين أخيه ستر فلا يكشفه".
ربما اطلعت على عيوب وعورات صاحبك أو أصحابك، فتأدب بأدب الستر يستر الله -سبحانه وتعالى- عليك في الدنيا والآخرة.
وبطبيعة الحال فإن هذا الستر ليس لصنفين من الناس:
الصنف الأول: من تهتَّك وقارف الكبائر وجاهر بها، وليس بمكترث لأحد، فهذا لا يستحق الستر، بل يستحق البلاغ، قال عليه الصلاة والسلام: " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ".
هذا صنف والآخر: صنف يعمل أعمالاً تضر بالمجتمع، لا تنحصر في شخصه، وفي فرده، أو في من معه ممن يستترون بذنوبهم، ولكنه عمل يضر بالمجتمع، وبأمن المجتمع، أو بأمن الأمة والوطن، فهذا لا يتستر عليه ويحتاج إلى البلاغ.
أسأل الله -عز وجل- أن يستر عوراتنا، وأن يُؤَمِّن روعاتنا، وأن يصلح أحوالنا ظاهرها وباطنها، إنه جواد كريم!
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أيها الأحبة، ما منا إلا وله عيوبه، وله مثالبه وزلاته، من هذا الذي ما ساء قط؟! ومن ذا الذي له الحسنى فقط؟!
إذا شئتَ أن تحيا سليمًا من الأذى ** وحظُّك مَوفورٌ وعِرضُك صَيِّنُ
لسانَك لا تذكُرْ به عورةَ امرئٍ ** فكلُّك عَوراتٌ وللناسِ ألْسُنُ
وعينَك إن أبدَتْ إليك مَعايِبًا ** فصُنْهاوقل يا عينُ للناسِ أعينُ
وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ مَنِ اعتدى ** وفارِقْ ولكنْ بالتى هي أحسنُ
طريق السلامة أن تسلم نفسك لله عز وجل، وتستر عيوبك وعيوب الآخرين.
أتدري أخي الكريم متى يرفع الله -تعالى- ستره عنك؟ يرفع ستره عنك حينما تشيع الفضائح، وتتبع العورات، وتحرص على إشاعتها، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود، وصححه الألباني -رحمة الله تعالى عليه-:" يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ".
تصلك الفضيحة إلى بيتك إن كنت سالكاً طريق الفضائح.
وحالة أخرى: حينما يكون الإنسان مجاهراً بالفسق وبالمعاصي، غير مكترث بالناس ولا بنصيحتهم.
جاء في الحديث السابق، أن الله -تعالى- يضع على المؤمن كنفه، ويقرره بذنوبه، وفيه:"بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ". فهو الذي تسبب في كشف ستر الله عليه.
حالة أخرى ثالثة: إذا تبرجت المرأة، ووضعت الستر الذي أمرها الله -تعالى- به خارج بيتها.
جاء في الحديث في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا هَتَكَتْ سِتْرًا مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا ". وضعت ثيابها في مكان ريبة، بطبيعة الحال في غير مواطن الأمان، خرق الله -تعالى- عنها ستره، بمعنى رفع ستره عنها، فيفضحها بين الخلائق عياذاً بالله.
أيها الأحبة، خلق الستر وأدب الستر أدب عالٍ، نحتاج أن نُحيي هذا الأدب، ونعلّم هذا الأدب لأجيالنا وأبنائنا، حتى إن بعض العلماء يقولون: إذا مات الرجل، فلا يجوز لأحد أن يفتش في جواله، هذه أسرار بينه وبين الله، إلا من حاجة ماسة، ولا يفعل ذلك إلا من كان رحيماً شفيقاً به.
أسأل الله العظيم بمنه وكرمه وبرحمته وستره أن يسترنا في الدنيا والآخرة! اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا! اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ومن تحتنا يا أرحم الراحمين!
اغفر الذنوب، واستر العيوب، واكشف الكروب، خذ بأيدينا إلى ما تحبه وترضاه يا أرحم الراحمين!
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، والموت راحة لنا من كل شر! اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، وخذ بأيدينا لما تحبه وترضاه!
هذ وصلوا وسلموا على من أكرمه ربه وصلى عليه ملائكته، وأمركم بذلك تشريفاً وتعظيما، فقال : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيهِ وَسَلِّموا تَسليمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد! اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد!
عباد الله، إنَّ الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء، والمنكر، والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.