(خطبة) الرضا والتسليم والصبر على أقدار الله
خالد الشايع
الخطبة الأولى الرضا والتسليم والصبر على أقدار الله 5/2/1446
إن الحمد لله ........................
أما بعد فيا أيها المؤمنون : لقد جعل الله في الدنيا معتبرا من نفسها ، فكشفت عن حالها بفعالها ، وبان خداعها ومكرها لكل عاقل ، ولهذا فهي تتفنن عن الناس بأنواع من المصائب والأكدار بأمر الله ، ولله الحكمة البالغة في ذلك .
فمن الذي سعد في الدنيا فلم يمر عليه حزن أبدا ؟ ما بعد فيا أيها المؤمنون
ومن الذي صفت له الدنيا فلم يكدرها عليه شيء ؟
لقد خلط صفوها بكدر ، وفرحتها بحزن ، وسعتها بضيق ، وأمنها بخوف ، ولو صفت لأحد لصفت للأنبياء والرسل ولكن الله طبعها على ذلك لحكمة أرادها جل وعلا
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة * لم يسق منها الرب ذا الكـفران
لكنها والله أحقر عنـــده * من ذا الجناح القاصر الطــيران
ولقد تولت بعد عن أصحابها * فالسعد منها حل في الــدبران
لا يرتجى منها الوفاءُ لصبـها * أين الوفا من غادر خــــوان
طبعت على كدر فكيف تنالها * صفوا أهذا قط في الإمكــان
معاشر المسلمين : لقد طبع الله الدنيا على الفرح والسرور والحزن والغموم ، ليعرف العبد حقارتها ، وأنها لا تدوم لأهلها ، ولكن الله وعد المتقين بالحياة الطيبة ، وهي الحياة التي يتكيف المسلم فيها ، فيثبته الله في معرفة كيفية التعامل مع صروفها ، ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ومهما أصاب العبد كدر من أكدار الدنيا علم أنه من عند الله فيرضى ويسلم كما قال تعالى ( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) قال علقمة هو الرجل تصيبة المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
عباد الله : مراتب الناس في البلاء تختلف و على قَدْر دين العبد يزاد له في البلاء أخرج البخاري في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص قال صلى الله عليه وسلم : ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه و إن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة ) .
والناس في قبولهم للبلاء على مراتب : فمنهم الذي يسخط ويجزع ويسب ويشتم ، ولربما ضرب نفسه ، أو قتلها ، ومنهم الذي يلزم الصمت والحزن ، والحزن يفري في كبده ، وهو غير راض بما قدر الله له ، وخيرهم الذي تدمع عينه ويحزن قلبه ولكنه لا يقول إلا مايرضي الرب ، فلا يسخط ولا يجزع بل يصبر ويسلم ويعلم أن قدر الله نافذ ، وأن الخيرة فيما يختار له ربه .
انظر إلى أكمل البشر في قبول البلاء والصبر عليه ، نبيِنا صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم ، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ( تدمع العين و يحزن القلب و لا نقول إلا ما يرضي الرب و الله إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) .
أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا تسمعون ؟ إن الله لا يعذب بدمع العين و لا بحزن القلب و لكن يعذب بهذا - و أشار إلى لسانه - أو يرحم ).
أيها المؤمنون : هذا هو الهدي النبوي الرضا والتسليم وعدم الضجر والجزع بل الصبر والتسليم وعدم الحرج في النفس ، وبلا شكوى للخلق بل لا تشكو إلا إلى الله .فالناس في الشكوى على أصناف ثلاثة فمنهم من يشكو الله إلى خلقه وهذا أخس الأصناف ، ومنهم من يشكو نفسه إلى الله وهذا أعلى الأصناف ، وأوسطهم الذي يشكو الخلق إلى الله .
قال ابن القيم رحمه الله :
الجاهل يشكو الله إلى الناس وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه فإنه لو عرف ربه لما شكاه ولو عرف الناس لما شكا إليهم ورأى بعض السلف رجلا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فقال يا هذا والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك وفي ذلك قيل :
إذا شكوت إلى ابن آدم إنما ******* تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
والعارف إنما يشكو إلى الله وحده وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه فهو ناظر إلى قوله تعالى ( وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم ) وقوله (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وقوله ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنىّ هذا قل هو من عند أنفسكم ) أهـ
أيها الناس : نسمع من الناس في عزائهم لغيرهم في المصائب وفوات الخير ، قولهَم الخيرة فيما اختار الله وهذه عبارة صحيحه تشهد لها الأدلة الشرعية ، ولكن الكثير من الناس لا يفهم معناها ولا يدرك مغزاها ولو تأملها لخففت عنه مصابه ، ولزال عنه ضجره وجزعه !! فما المعنى ؟
إن المقصود أن يعلم العبد أن الله يختار للعبد الأمر الأصلح له في حياته ولو كان في الظاهر أنه سوء وضرر على العبد .
قال ابن القيم رحمه الله : وهو سبحانه كما هو العليم الحكيم في اختياره من يختاره من خلقه وإضلاله من يضله منهم فهو العليم الحكيم بما في أمره وشرعه من العواقب الحميدة والغايات العظيمة قال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون بين سبحانه أن ما أمرهم به يعلم ما فيه من المصلحة والمنفعة لهم التي اقتضت أن يختاره ويأمرهم به وهم قد يكرهونه إ ما لعدم العلم وإما لنفور الطبع فهذا علمه بما في عواقب أمره مما لا يعلمونه وذلك علمه بما في اختياره من خلقه بما لا يعلمونه فهذه الآية تضمنت الحض على التزام أمر الله وإن شق على النفوس وعلى الرضا بقضائه وإن كرهته النفوس.أهـ
اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين .......................
أما بعد فيا أيها الناس : إن الغيب هو سر الله الذي لا يعلمه إلا هو أو من أطلعه الله على بعضه ، كما قال سبحانه ( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله )
وقال سبحانه ( ولله غيب السموات والأرض )
والله سبحانه أرحم بخلقه من أمهاتهم ، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم : ( إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن و الإنس و البهائم و الهوام فبها يتعاطفون و بها يتراحمون و بها تعطف الوحوش على ولدها و أخر تسعا و تسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ) .
فمن كانت هذه رحمته بخلقه فلا ريب أن لا يختار لهم في الدنيا إلا الأصلح والأنجح والأقل ضررا ،
قال عبد الله بن عمر : إن الرجل ليستخير الله فيختار له فيسخط على ربه فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خار له .
وقال عمر بن الخطاب : لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره .
وقال الحسن : لا تكرهوا النقمات الواقعة والبلايا الحادثة فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك ولرب أمر تؤثره فيه عطبك .
أيها المسلمون : لما كان الأمر بهذه المثابة فليس للعبد مخرج عن أن يختار الله له في جميع أموره ولو تركه لنفسه كان هلاكه في مبدأ أمره .
قال ابن القيم رحمه الله : ولما كان العبد يحتاج في فعل ما ينفعه في معاشه ومعاده إلى علم ما فيه من المصلحة وقدرته عليه وتيسره له وليس له من نفسه شيء من ذلك بل عِلمُه ممن علّمَ الإنسان ما لم يعلم وقدرته منه فإن لم يقدره عليه وإلا فهو عاجز ، وتيسيره منه فإن لم ييسره عليه وإلا فهو متعسر عليه بعد إقداره ، لما كان كذلك أرشده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى محض العبودية وهو جلب الخيرة من العالم بعواقب الأمور وتفاصيلها وخيرها وشرها وطلب القدرة منه أهـ
ويقصد رحمه الله تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته دعاء الاستخارة .
معاشر المؤمنين : هناك أمور تعين المرء على الرضا والتسليم لقدر الله أولها : أن يعلم العبد أنها من عند الله وأن الله هو الذي قضاها وقدرها عليه .
ثانيها : أن يعلم العبد أن ما قدر الله فلا راد له ، فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه .
ثالثا : أن يقارن بين نعم الله التي وهبه ، وبين هذه المصيبة ، فسيرى أن فضل الله عليه كبيرٌ ، وأن الله قد غمره بالنعم العظيمة ، عندها تهون عليه المصيبة ويرضى ويتجلد.
رابعا : أن ينظر إلى من أصيب بمصائب أعظم منه ، فمن كان له مريض طال مرضه فلينظر إلى من هو أعظم منه مرضا أو إلى من مات قريبه فضلا عن المرض ، ومن ابتلي بفقد ماله ، فلينظر إلى من ابتلي بفقد ماله وولده ، ومن مات له قريب فلينظر إلى من مات أهله كلهم في لحظة واحدة .
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم ( انظروا إلى من هو أسفل منكم و لا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ) .
خامسا : استشعار الأجر المترتب على الصبر والرضا ، أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي موسى قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك و استرجع فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد ) .
وأخرج الترمذي في جامعه من حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم : ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء و إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا و من سخط فله السخط ).
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء
اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك ، و اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ...........
اللهم انج المستضفين من المسلمين في كل مكان.....اللهم أنت الله .........
المرفقات
1723127145_الرضا والتسليم بالمقدور.doc