خطبة : ( الخيرية لمن ؟! )

عبدالله البصري
1441/02/18 - 2019/10/17 20:47PM
الخيرية لمن ؟!     19 / 2 / 1442
 
الخطبة الأولى :
أَّمَا بَعدُ ، فَـ"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تُتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، حِينَ تَغِيبُ المَقَايِيسُ الشَّرعِيَّةُ في وَزنِ الرِّجَالِ ، تَحُلُّ مَحَلَّهَا مَقَايِيسُ دُنيَوِيَّةٌ غَيرُ دَقِيقَةٍ وَلا صَادِقَةٍ ، بَل قَد تَكُونُ مُنحَرِفَةً أَو فَاسِدَةً ، فَيُبنَى عَلَيهَا تَقدِيرُ بَعضِهِم بَعضًا ، وَمِنهَا يَنطَلِقُونَ في تَعَامُلِهِم مَعَ بَعضِهِم ، وَبِهَا تَكُونُ أَخلاقُهُم في أَخذِهِم وَعَطَائِهِم ، وَبِذَلِكَ يَضِيقُ عَلَيهِم عَيشُهُم وتَفسُدُ حَيَاتُهُم ، وَتَتَعَقَّدُ مُعَامِلاتُهُم وَتَكثُرُ مُشكِلاتُهُم ، ثم لا يَنتَفِعُ أَحَدٌ مِنهُم بِالآخَرِ ، يَستَوِي في ذَلِكَ حَيَاةُ الرَّجُلِ في بَيتِهِ وَمَعَ أَهلِهِ وَأَبنَائِهِ ، أَو في مُجتَمَعِهِ وَمَعَ جِيرَانِهِ وَأَصدِقَائِهِ ، أَو في مَقَرِّ عَمَلِهِ أَو في مَسجِدِهِ ، وَفي عِلاقَتِهِ بِزُمَلائِهِ وَإِخوَانِهِ وَمَن حَولَهُ ، وَقَد تَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ عِبَادَاتُهُ وَتَنقُصُ طَاعَاتُهُ ، وَتَضعُفُ في نَفسِهِ دَوَافِعُ الخَيرِ وَلا يُشَارِكُ في أَعمَالِ البِرِّ ، بَل قَد يَتَّجِهُ لِفِعلِ الشَّرِّ وَقَصدِ الضُّرِّ ، فَيَخسَرُ بِذَلِكَ كَثِيرًا مِنَ الحَسَنَاتِ ، وَيَتَحَمَّلُ أَثقَالاً مِنَ الأَوزَارِ وَالسَّيِّئَاتِ .
وَلَو سَأَلتَ مَن حَولَكَ : مَن خَيرُ النَّاسِ وَمَن أَحسَنُهُم ؟ وَبِمَ تَقِيسُ الآخَرِينَ وَعَلامَ يَكُونُ تَقدِيرُكَ لَهُم ؟ لَوَجَدتَ مَن يَجعَلُ صَاحِبَ المَالِ هُوَ خَيرَ النَّاسِ ، وَمَن يَعُدُّ صَاحِبَ الجَاهِ هُوَ أَحسَنَهُم ، وَمَن يَقِيسُ النَّاسَ بِأَعرَاقِهِم وَيُفَاضِلُ بَينَهُم بِأَنسَابِهِم ، وَمَن يُقَدِّرُهُم بِحَسَبِ مَا يَرجُوهُ مِن تَحقِيقِ مَصَالِحِهِ الخَاصَّةِ عَلَى أَيدِيهِم ... أَمَّا لَو رَجَعنَا إِلى الكِتَابِ وَالسُّنَّةُ ، وَهُمَا دَلِيلُنَا لِكُلِّ صَلاحٍ وَقَائِدُنَا لِكُلِّ فَلاحٍ ، وَأَسَاسُ مَا يَنبَغِي أَن نَكُونَ عَلَيهِ لِتَصلُحَ دُنيَانَا وَنَفُوزَ في أُخرَانَا ، لَوَجَدنَا غَيرَ مَا نَتَصَوَّرُهُ أَو يَتَصَوَّرُهُ بَعضُنَا . وَلْنَأخُذْ عَلَى ذَلِكَ بَعضَ النُّصُوصِ الَّتي نُصَّ فِيهَا عَلَى الخَيرِيَّةِ وَالأَفضَلِيَّةِ ؛ لَعَلَّهَا تَكُونُ لَنَا نُورًا نَقتَبِسُ مِنهُ مَا يُجَلِّي لَنَا مَوَاضِعَ خَطوِنَا ، فَنَرَى مَا أَمَامَنَا رُؤيَةً وَاضِحَةً لا غَبَشَ فِيهَا ، فَنَكسِبَ وُدَّ مَن حَولَنَا وَنَنَالَ مَحَبَّتَهُم ، وَنَربَحَ الحَسَنَاتِ لِمَعَادِنَا ، وَنَحمِيَ أَنفُسَنَا مِن سَيِّئَاتٍ لا طَاقَةَ لَنَا بِحَملِهَا ، قَالَ – تَعَالى - : " وَلا تَنكِحُوا المُشرِكَاتِ حَتَّى يُؤمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤمِنَةٌ خَيرٌ مِن مُشرِكَةٍ وَلَو أَعجَبَتكُم وَلا تُنكِحُوا المُشرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا وَلَعَبدٌ مُؤمِنٌ خَيرٌ مِن مُشرِكٍ وَلَو أَعجَبَكُم " إِنَّ إِعجَابَنَا الشَّخصِيَّ مَهمَا كَانَ سَبَبُهُ ، لَيسَ هُوَ المِيزَانَ وَلا المِقيَاسَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدٌ يَملأُ أَعيُنَنَا وَيَجذِبُ أَنظَارَنَا أَو حَقَّرنَاهُ وَصِرنَا لا نَعُدُّهُ شَيئًا وَلا نَرَى لَهُ قَدرًا ، فَلَيسَ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَرفَعُهُ عِندَ اللهِ أَو يَخفِضُهُ ، بَل إِنَّ خَيرَ النَّاسِ عِندَ اللهِ هُوَ المُؤمِنُ كَائِنًا مَا كَانَ أَصلُهُ أَو جِنسُهُ أَو عُنصُرُهُ ، وَالكَبِيرُ حَقًّا هُوَ الكَبِيرُ عِندَ اللهِ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُم خَيرُ البَرِيَّةِ " وَعَن سَهلِ بنِ سَعدٍ - رضي الله عنه- قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " مَا تَقُولُونَ في هَذَا " قَالُوا : حَرِيُّ إِن خَطَبَ أَن يُنكَحَ ، وَإِن شَفَعَ أَن يُشَفَّعَ ، وَإِن قَالَ أَن يُستَمَعَ ، قَالَ : ثم سَكَتَ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِن فُقَرَاءِ المُسلِمِينَ ، فَقَالَ : " مَا تَقُولُونَ في هَذَا " قَالُوا : حَرِيُّ إِن خَطَبَ أَلاَّ يُنكَحَ ، وَإِن شَفَعَ أَلاَّ يُشَفَّعَ ، وَإِن قَالَ أَلاَّ يُستَمَعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " هَذَا خَيرٌ مِن مِلءِ الأَرضِ مِثلِ هَذَا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . أَجَلْ – أَيُّهَا الإِخوَةُ – إِنَّ اختِلالَ المَوَازِينِ في اعتِبَارِ النَّاسِ ، هُوَ الَّذِي حَمَلَ إِبلِيسَ عَلَى التَّكَبُّرِ عَلَى آدَمَ ، وَحَمَلَ فِرعَونَ عَلَى احتِقَارِ مُوسَى وَعَدَمِ الاستِجَابَةِ لِمَا جَاءَهُ بِهِ مِنَ الخَيرِ ، وَحَالَ بَينَ المُشرِكِينَ وَبَينَ التَّصدِيقِ بما جَاءَ بِهِ الصَّادِقُ الأَمِينُ ، قَالَ – سُبحَانَهُ – عَن إِبلِيسَ : " قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسجُدَ إِذ أَمَرتُكَ قَالَ أَنَا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَني مِن نَارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ . قَالَ فَاهبِطْ مِنهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ " وَقَالَ – تَعَالى – عَن فِرعَونَ : " أَم أَنَا خَيرٌ مِن هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ . فَلَولا أُلقيَ عَلَيهِ أَسوِرَةٌ مِن ذَهَبٍ أَو جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقتَرِنِينَ " وَقَالَ - تَعَالى - عَن مُشرِكِي العَرَبِ : " وَقَالُوا لَولا نُزِّلَ هَذَا القُرآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَريَتَينِ عَظِيمٍ . أَهُم يَقسِمُونَ رَحمَةَ رَبِّكَ نَحنُ قَسَمنَا بينَهُم مَعِيشَتَهُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضًا سُخرِيًّا وَرَحمَةُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ " هَكَذَا يُعرِضُ إِبلِيسُ وَالفَرَاعِنَةُ وَالمُتَكَبِّرُونَ وَالمُتَغَطرِسُونَ عَنِ الحَقِّ وَلا يَقبَلُونَهُ ، وَهَكَذَا يَرُدُّونَهُ لأَنَّهُ جَاءَ مِمَّن هُوَ قَلِيلٌ في أَعيُنِهِم ، وَلَو تَوَاضَعُوا وَوَعَوا ، لَعَلِمُوا أَنَّ الأَنبِيَاءَ وَأَتبَاعَهُم مِنَ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، هُم أَعظَمُ الرِّجَالِ قَدرًا وَأَعلاهُم فَخرًا ، وَأَكمَلُهُم عَقلا وَأَغزَرُهُم عِلمًا ، وَأَكمَلُهُم خُلُقًا وَأَجَلُّهُم رَأيًا ، وَأَوسَعُهُم رَحمَةً وَأَشَدُّهُم شَفَقَةً ، وَأَهدَاهُم وَأَتقَاهُم وَأَنقَاهُم ، وَإِلَيهِمُ المُنتَهَى في أَوصَافِ الرِّجَالِ ، فَكَيفَ يُفضَّلُ عَلَيهِم مَن لم يَشُمَّ مِثقَالَ ذَرَّةٍ مِن كَمَالٍ ، مِمَّن قُصَارَى مَا يَفتَخِرُ بِهِ مَالٌ سَيَفنى ، أَو جَاهٌ سَيَزُولُ ، أَو رِئَاسَةٌ دُنيَوِيَّةٌ سَيَترُكُهَا يَومًا أَو تَترُكُهُ ؟! أَجَل – أَيُّهَا الإِخوَةُ – إِنَّ مَا يَهَبُهُ اللهُ لِمَن يَختَارُهُ مِن عِبَادِهِ مِنَ الإِيمَانِ وَالتَّقوَى وَالعِلمِ وَالهُدَى ، وَالَّذِي بِسَبَبِهِ تَكُونُ نَجَاتُهُم يَومَ القِيَامَةِ ، لَهُوَ الجَدِيرُ بِأَن يُغبَطُوا عَلَيهِ ، وَلَهُوَ الحَقِيقُ بِأَن يُقَاسُوا بِهِ وَيُوزَنُوا ، وَأَن تُرفَعَ أَقدَارُهُم بِسَبَبِهِ وَتُعرَفَ بِهِ خَيرِيَّتُهُم وَفَضلُهُم عَلَى مَن سِوَاهُم " أَفَمَن يُلقَى في النَّارِ خَيرٌ أَم مَن يَأتي آمِنًا يَومَ القِيَامَةِ اعمَلُوا مَا شِئتُم إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ " وَقَد جَاءَ ذَلِكَ المَعنى مَبثُوثًا في آيَاتٍ كَثِيرَةٍ في كِتَابِ اللهِ لِمَن كَانَ يَسمَعُ وَيَعقِلُ ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : "  يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وَشِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ . قُلْ بِفَضلِ الله وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ " وقال – تَعَالى – عَن شُعَيبٍ – عَلَيهِ السَّلامُ – في نُصحِهِ لِقَومِهِ الَّذِينَ ظَلَمُوا النَّاسَ وَبَخَسُوهُم حُقُوقَهُم وَنَقَصُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ طَمَعًا في الدُّنيَا ، وَعَاثُوا في الأَرضِ فَسَادًا وَأَهلَكُوا الحَرثَ وَالنَّسلَ لِتَكَبُّرِهِم ، قَالَ لَهُم : " بَقِيَّةُ اللهِ خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيكُم بِحَفِيظٍ " وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " وَلأَجرُ الآخِرَةِ خَيرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ " وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : مُحَذِّرًا مَنِ اغتَرُّوا بِالأُمَمِ الكَافِرَةِ وَمَا هِيَ عَلَيهِ مِن قُوَّةٍ في دُنيَاهَا : " أَفَلَم يَسِيرُوا في الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا أَفَلا تَعقِلُونَ " وَقَالَ – سُبحَانَهُ – مُحَذِّرًا مَن جَزِعُوا وَانهَزَمُوا ، وَلم يَصبِرُوا في طَرِيقِ الحَقِّ ، وَبَاعُوا آخِرَتَهُم بِثَمَنٍ دُنيَوِيٍّ قَلِيلٍ : " وَلا تَشتَرُوا بِعَهدِ الله ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ الله هُوَ خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ . مَا عِندَكُم يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ " وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا – مُوَجِّهًا مَنِ اغتَرُّوا بِالدُّنيَا وَمَا فِيهَا مِن زِينَةٍ زَائِلَةٍ : " المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ أَمَلاً " وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى " وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " بَل تُؤثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنيَا . وَالآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبقَى "
وَمِقيَاسٌ آخَرُ لِلخَيرِيَّةِ ، يَقُولُ اللهُ – تَعَالى –مُمتَدِحًا بِهِ هَذِهِ الأُمَّةَ : " كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِالله " فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا يَأمُرُ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَى عَنِ المُنكَرِ ، وَيَدُلُّ النَّاسَ عَلَى الخَيرِ وَيُحَذِّرُهُم مِنَ الشَّرِّ ، وَيَفرَحُ وَيَبتَهِجُ إِذَا ارتَفَعَت رَايَاتُ الحَقِّ ، وَيَشمَئِزُّ قَلبُهُ وَيَتَمَعَّرُ وَجهُهُ إِذَا انتُهِكَت مَحَارِمُ اللهِ ، فَهُوَ بِهَذَا خَيرٌ مِن غَيرِهِ ، وَهُوَ أَحسَنُ مِمَّن تَرَكَ الحَبَلَ لِلغَارِبِ حَتى لأَهلِ بَيتِهِ وَأَبنَائِهِ ، فَلَم يَحزَنْ لِكُونِ أَبنَائِهِ لا يُصَلُّونَ ، وَلم يَغضَبْ لِتَبَرُّجِ نِسَائِهِ ، وَلم يَتَحَرَّكْ فِيهِ سَاكِنٌ وَبَنَاتُهُ يَخرُجْنَ مِن بَيتِهِ لِيَختَلِطنَ بِالرِّجَالِ " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ " وَمِقيَاسٌ ثَالِثٌ مِن مَقَايِيسِ الخَيرِيَّةِ ، أَصَابَهُ الخَلَلُ في زَمَانِنَا ، وَضَعُفَ اتِّصَافُ كَثِيرِينَ بِهِ ، وَهُوَ مِمَّا كَثُرَ في أَوَّلِ الأُمَّةِ وَسَيَقِلُّ في آخِرِهَا ، ذَلِكُم هُوَ الأَمَانَةُ وَالوَفَاءُ بِالحُقُوقِ ، قَالَ – تَعَالى - : " وَأَوفُوا الكَيلَ إِذَا كِلتُم وَزِنُوا بِالقِسطَاسِ المُستَقِيمِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً " وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " فَآتِ ذَا القُربى حَقَّهُ وَالمِسكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجهَ الله وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ " وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " قَالَت إِحدَاهُمَا يَا أَبَتِ استَأجِرهُ إِنَّ خَيرَ مَنِ استَأجَرتَ القَوِيُّ الأَمِينُ " فَالخَيرُ فِيمَن حَرِصَ قَبلَ استِيفَاءِ حَقِّهِ عَلَى إِيفَاءِ الآخَرِينَ حُقُوقَهُم ، وَأَحَبَّ لَهُم كَمَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ ، وَأَعطَاهُم قَبلَ أَن يَأخُذَ مِنهُم ، وَأَنصَفَهُم مِن نَفسِهِ وَلم يَجحَدْهُم حَقًّا وَلم يَبخَسْهُم شَيئًا ، عَن أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلاً أَتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أَعطُوهُ " فَقَالُوا : مَا نَجِدُ إِلاَّ سِنًّا أَفضَلَ مِن سِنِّهِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَوفَيتَني أَوفَاكَ اللهُ ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " أَعطُوهُ ؛ فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحسَنُهُم قَضَاءً " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَمِن مَقَايِيسِ الخَيرِيَّةِ الَّتي يَتَأَكَّدُ الحِرصُ عَلَيهَا وَخَاصَّةً في هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي كَثُرَت فِيهِ الفِتَنُ وَابتُلِيَ النَّاسُ بها في كُلِّ مَكَانٍ ، التَّعَفُّفُ وَتَركُ مَا يُخشَى مِنَ الفِتنَةِ ، وَالابتِعَادُ عَن مَوَاطِنِ الظِّنَّةِ وَالتُّهمَةِ ، قَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " وَالقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتي لا يَرجُونَ نِكَاحًا فَلَيسَ عَلَيهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعنَ ثِيَابَهُنَّ غَيرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَستَعفِفنَ خَيرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " وَإِذَا كَانَ التَّعَفُّفُ خَيرًا لِلعَجَائِزِ اللاَّتي لا مَطمَعَ لِلرِّجَالِ فِيهِنَّ ، فَكَيفَ بِالشَّابَّاتِ الحَسنَاوَاتِ ؟! وَإِذَا كَانَ الإِثمُ بِوَضعِ بَعضِ السِّترِ لم يُرفَعْ إِلاَّ عَن أُولَئِكَ العَجَائِزِ ، فَإِنَّ الشَّابَّاتِ عَلَى إِثمٍ بِوَضعِهِنَّ حِجَابَهُنَّ وَتَفرِيطِهِنَّ فِيمَا يَستُرُهُنَّ ، وَبُرُوزِهِنَّ لِلرِّجَالِ وَعَدَمِ تَسَتَّرُهِنَّ ، وَفي هَذَا تَوجِيهٌ لِلرِّجَالِ العُقَلاءِ ، الَّذِينَ يَزِنُونَ الأُمُورَ بِمَوازِينِ الشَّرعِ وَالحَقِّ ، أَن يَحفَظُوا نِسَاءَهُم وَبَنَاتِهِم ، وَيَحذَرُوا مِنَ الزَّجِّ بِهِنَّ في أَمَاكِنِ الاختِلاطِ وَالسُّفُورِ ، بِحُجَّةِ العَمَلِ لِتَوفِيرِ الرِّزقِ ، وَأَن يَستَعِفُّوا حِفظًا لأَعرَاضِهِم ، فَذَلِكَ وَاللهِ خَيرٌ لَهُم وَلِنِسَائِهِم ... اللَّهُمَّ اهدِنَا لأَحسَنِ الأَعمَالِ وَالأَخلاقِ لا يَهدِي لأَحسَنِهَا إِلاَّ أَنتَ ، وَقِنَا سَيِّئَهَا لا يَقِي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنتَ ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ ...
 
الخطبة الثانية :
 
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ " " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا "
أَيُّهاَ المُسلِمُونَ ، المَقَايِيسُ الشَّرعِيَّةُ لِلخَيرِيَّةِ مُتَعَدِّدَةٌ ، وَالكَلامُ فِيهَا قَد يَطُولُ وَيَتَشَعَّبُ ، وَلَكِنَّ المُؤمِنَ الصَّادِقَ يَكفِيهِ أَن يَسمَعَ مَا جَاءَ مِنهَا في النُّصُوصِ بَينَ حِينٍ وَحِينٍ ، فَيَحفَظَهُ قَلبُهُ وَيَعِيهِ لُبُّهُ ، لِيَعمَلَ بِهِ وَيَتَرَقَّى في مَرَاقِي الخَيرِيَّةِ . وَلا بَأسَ أَن نَأخُذَ هُنَا وَلَو عَلَى عَجَلٍ كَلِمَاتٍ مِمَّا جَاءَ في ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ أَصدَقِ البَشَرِ وَأَعلَمِهِم ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وَعَلَّمَهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ ، خَيَارُهُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُم في الإِسلامِ إِذَا فَقُهُوا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَقَالَ : " خَيرُ النَّاسِ مَن طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمُلُهُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَقَالَ الأَلبَانيُّ صَحِيحٌ لِغَيرِهِ . وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " إِنَّ خِيَارَكُم أَحَاسِنُكُم أَخلاقًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَقَالَ – صلى الله عليه وسلم - : " خَيرُكُم مَن يُرجَى خَيرُهُ وَيُؤمَنُ شَرُّهُ وَشَرُّكُم مَن لا يُرجَى خَيرُهُ وَلا يُؤمَنُ شَرُّهُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " خَيرُكُم خَيرُكُم لأَهلِهِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم - : " خَيرُكُم مَن أَطعَمَ الطَّعَامَ وَرَدَّ السَّلامَ  " رَوَاهُ أَحمَدُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ : " خَيرُ النَّاسِ أَنفَعُهُم لِلنَّاسِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " خِيَارُكُم أَليَنُكُم مَنَاكِبَ في الصَّلاةِ " رَوَاهُ أَبُودَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " خَيرُ الأَصحَابِ عِندَ اللهِ خَيرُهُم لِصَاحِبِهِ ، وَخَيرُ الجِيرَانِ عِندَ اللهِ خَيرُهُم لِجَارِهِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . يَا لَهَا مِن حِكَمٍ نَبَوِيَّةٍ بَالِغَةٍ ، وَمَقَالاتِ هِدَايَةٍ صَادِقَةٍ ، وَتَوجِيهَاتٍ سَدِيدَةٍ وَمَوَازِينِ حَيَاةٍ رَشِيدَةٍ ، تُعَلِّمُ المُؤمِنِينَ لِمَن تَكُونُ الخَيرِيَّةُ ، وَتُنَبِّهُهُم إِلى أَنَّهَا في العَمَلِ الصَّالِحِ وَالخُلُقِ الحَسَنِ ، وَالتَّوَاضُعِ وَلِينِ الجَانِبِ وَخَفضِ الجَنَاحِ  ، وَنَفعِ النَّاسِ وَبَذلِ الخَيرِ لَهُم وَالإِحسَانِ إِلَيهِم ، وَفي أَن يُحِبَّ المَرءُ لإِخوَانِهِ مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفسِهِ وَيَأمَنُوا جَانِبَهُ ، وَفي أَن يَعذُبَ لِسَانُهُ وَيَحلُوَ كَلامُهُ ، وَيَحسُنَ خُلُقُهُ مَعَ زَوجَتِهِ وَأَهلِ بَيتِهِ وَجِيرَانِهِ وَأَصحَابِهِ ، فَهَل نَحنُ كَذَلِكَ يَا عِبَادَ اللهِ ؟! وَهَل نَحنُ نَزِنُ النَّاسِ بِالمَوَازِينِ الشَّرعِيَّةِ بَعِيدًا عَنِ التَّعَصُّبِ لِوَطَنٍ أَو جِنسٍ أَو قَبِيلَةٍ أَو عَشِيرَةٍ ؟! أَلا إِنَّ المُوَفَّقَ مَن وَفَّقَهُ اللهُ ، وَالمُسَدَّدَ مَن سَدَّدَهُ اللهُ ، فَاللَّهُمَّ اجعَلْنَا مِمَّن يَستَمِعُ القَولَ فَيَتَّبِعُ أَحسَنَهُ ، وَاهدِنَا وَيَسِّرِ الهُدَى لَنَا ، اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَينَ قُلُوبِنَا ، وَأَصلِحْ ذَاتَ بَينِنَا ، وَاهدِنَا سُبُلَ السَّلامِ ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النَّورِ ، وَجَنِّبْنَا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ ، وَبَارَكَ لَنَا في أَسمَاعِنَا وَأَبصَارِنَا وُقُلُوبِنَا وَأَزوَاجِنَا وَذُرِّيَاتِنَا ، وتُبْ عَلَينَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، وَاجعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعمَتِكَ مُثْنِينَ بها قَابِلِيهَا وَأَتِمَّهَا عَلَينَا .
المرفقات

لمن-؟؟

لمن-؟؟

لمن

لمن

المشاهدات 1961 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا