خطبة الحج وصفته الشيخ صالح بن محمد باكرمان
شادي باجبير
الخطبة الأولى
الحمدلله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد، أيها المسلمون عباد الله، اتقوا الله حق تقواه. ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
عباد الله، قال الله -عز وجل- في كتابه العزيز: ﴿الحَجُّ أَشهُرٌ مَعلوماتٌ فَمَن فَرَضَ فيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسوقَ وَلا جِدالَ فِي الحَجِّ وَما تَفعَلوا مِن خَيرٍ يَعلَمهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدوا فَإِنَّ خَيرَ الزّادِ التَّقوى وَاتَّقونِ يا أُولِي الأَلبابِ﴾ [البقرة: ١٩٧].
عباد الله، إن الحج فرض من فروض الإسلام، وركن من أركانه، قال الله -عز وجل- في كتابه العزيز: ﴿… وَلِلَّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطاعَ إِلَيهِ سَبيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ﴾ [آل عمران: ٩٧].
وفي الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ". رواه البخاري ومسلم.
فالحج فرض من أعظم الفروض، وركن من أركان الإسلام، ولا يجب على المسلم بأصل الشرع إلا مرة في العمر، والحج عبادة عظيمة، وقربة كريمة، ومنزلة رفيعة، وأجره كبير.
في الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: " الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ". رواه البخاري ومسلم.
والحج المبرور هو الحج الذي كله بر، الحج الذي ليس فيه معصية، الحج الذي يقبله الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : " مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ". رواه البخاري ومسلم.
(من حج لله) مخلصاً لله عز وجل، وبر في حجه، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع بصفحة بيضاء كيوم ولدته أمه، بصفحه بيضاء قد غفرت ذنوبه، هذا هو الحج، وهذا هو فضله عند الله سبحانه وتعالى.
فإذا عزم المسلم على الحج فعليه:
▪أن يتوب إلى الله -سبحانه
وتعالى- توبة نصوحا، أن يتوب إلى
الله -عز وجل- من كل الذنوب.
▪وأن يرد الحقوق إلى أهلها.
▪وأن يستسمح من الناس، ممن
بينهم وبينه شيء.
▪وعليه أن يتزود بالزاد الحلال،
يطلب الحلال ويجد في طلبه
لحجه وعمرته.
▪ثم يتعلم أحكام الحج والعمرة،
وأحكام السفر.
▪ويطلب صحبة صالحة، يذهب
معها.
فإذا عزم على الحج وتوكل على الله، وانطلق إلى حجه، فإنه يحرم من الميقات، فإذا بلغ ميقات بلده فليعلم -وقد علم ذلك إذا تعلم أحكام الحج- أن الحج على ثلاثة أنواع، الأنساك ثلاثة: حج مفرد، وحج قران، وحج تمتع.
فإذا أراد أن يحج حجاً مفردا فإنه ينوي في قلبه حجاً مفردا، يقول في قلبه: نويت الحج. أو يقول: نويت الحج وأحرمت به لله تعالى. ويهل بالحج مفردا، ويقول: اللهم لبيك حجاً.
وإذا أراد حجاً قراناً فإنه يحرم بالحج والعمرة معا، فيقول في قلبه: نويت الحج والعمرة. أو يقول: نويت الحج والعمرة وأحرمت بهما لله تعالى. ويهل بذلك بلسانه فيقول: اللهم لبيك حجاً وعمرة. أو يقول: اللهم لبيك بحج وعمرة.
وأما إذا أراد التمتع فإنه يحرم من ميقاته بعمرة مفردة، ويقول في قلبه: نويت العمرة. ويهل بذلك فيقول: اللهم لبيك عمرة. أو يقول: اللهم لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج.
تلك النية يحددها اختيار الحاج للنسك الذي يريده، وينوي هذه النية بعد أن يأتي بآداب الإحرام ومستحباته، كما شرحنا ذلك في العمرة: أن يتنظف فيقص شعر عانته وإبطه، ويقلم أظفاره، ويقص شاربه، ويأتي بما استطاع من سنن الفطرة، ثم يغتسل اغتسال الإحرام بنية الإحرام، ويتطيب في بدنه بأحسن الطيب، ثم يلبس الثياب البيضاء، ويشترط إن شاء فيقول: اللهم إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، ثم يصلي ركعتين الإحرام بنية ركعتي الإحرام، ثم ينوي بعدهما، ويحرم بعدهما بذلك الإحرام، فإن أراد أن يحرم بحج مفرد فينوي حجا مفردا، وإن أراد أن ينوي بحج قارنا ينوي قراناً، وإذا أراد أن يحج حجاً بالتمتع فإنه يحرم بالعمرة وحدها.
ثم يمضي الحاجون والمعتمرون الناسكون، ينطلقون من الميقات نحو بيت الله -عز وجل- ملبين، داعين، مكبرين، قارئين للقرآن، خاشعين ذليلين أمام الله عز وجل، فإذا بلغوا إلى الحرم، وإلى المسجد الحرام دخلوا المسجد وأتوا بآدابه: يدخلون بالقدم اليمنى، ويقولون: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم. ويقولون: بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك! ويدخل المسجد.
أما المفرد فإنه يطوف طواف القدوم -كما شرحنا الطواف في صفة العمرة- ثم يصلي ركعتين بنية ركعتي الطواف، وكذلك القارن يطوف طواف القدوم، ثم يصلي ركعتين بنية ركعتي الطواف، فإن شاء المفرد والقارن أن يقدما السعي (سعي الحج) بعد طواف القدوم فلهما ذلك، يجوز لهما أن يقدما سعي الحج بعد طواف القدوم، فيسعون بين الصفا والمروة سبعا بنية سعي الحج.
وأما المتمتع فإنه يأتي بعمرته كما شرحنا، فيطوف طواف العمرة، ويسعى سعي العمرة، ثم يحلق أو يقصر، ويكون قد انتهى من عمرته، وله أن يتمتع بما كان محظوراً عليه، أما الحاج المفرد والحاج القارن فسيبقيان على إحرامهما، لا يحل لهما شيء.
وعلى المتمتع دم كما قال الله -عز وجل-: ﴿… فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَديِ …﴾ [البقرة: ١٩٦]. وكذلك القارن عليه دم، وأما المفرد فليس عليه دم.
ثم يبقون في مكة كلهم حتى إذا كان الثامن من ذي الحجة -اليوم الذي ينطلق فيه الحجيج إلى منى- تبدأ أعمال الحج، أما الحاج المفرد فما زال على إحرامه، وأما الحاج القارن فما زال على إحرامه، وأما الحاج الذي تمتع بالعمرة وحلّ منها، فإنه يحرم في اليوم الثامن من ذي الحجة بالحج، يأتي بمستحبات الإحرام السابقة، ثم يحرم بالحج من مكانه من حيث هو، ويقول: اللهم لبيك حجاً. ينوي بقلبه الحج، ويقول" اللهم لبيك حجاً. فيدخل في الإحرام بالحج، ويكون محرماً.
ثم ينطلق الحجيج في اليوم الثامن من ذي الحجة إلى منى بعد طلوع الشمس، أو في منتصف النهار، في اليوم الثامن من ذي الحجة ينطلقون إلى منى، فيصلون بها صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، يصلون كل صلاة في وقتها، المسافر يقصر، والحاضر يتم، ومن دخل مكة ونوى أن يمكث فيها أربعة أيام فأكثر فإنه حاضر غير مسافر، ثم يبيتون بمنى ليلة عرفة، فإذا جاء الصباح في يوم عرفة صلوا بمنى صلاة الفجر، وهذه الصلاة الخامسة في منى، وكل ذلك سنة، الذهاب إلى منى اليوم الثامن، والمبيت، وصلاة الخمسة الفروض في منى يوم الثامن وليلة التاسع وصبيحة التاسع، كل هذه من السنن، فعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها أجر عظيم، ولكن من لم يستطع ذلك، ولم يحرم بالحج، ولم ينطلق إلى الحج إلا في يوم عرفة فلا حرج عليه؛ لأن هذه من السنن.
فينطلق الحجيج في صبيحة اليوم التاسع بعد شروق الشمس، بعد أن تطلع الشمس ينطلقون من منى، أو من تأخر من مكة، أو من جاء من الآفاقيين ينطلقون في يوم عرفة إلى جبال عرفة، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأبي هو وأمي لم ينزل بعرفة في أول الأمر، وإنما نزل بنمرة، لما وصل إلى نمرة رفعت له خيمته، ونصبت له خيمته، ونزل فيها ولم يدخل عرفة؛ لأن دخول عرفة يكون بعد زوال الشمس، فمكث في نمرة حتى زالت الشمس، ثم قام فخطب الناس، وصلى بهم الظهر والعصر جمعا، وهكذا كل الحجيج في ذلك اليوم من استطاع أن يحضر خطبة الإمام (إمام الحج) في نمرة، ويصلي معه الظهر والعصر فهي السنة التامة، ومن لم يستطع فإنه يجمع بين الظهر والعصر في مخيمه، يصلون الظهر والعصر جمعاً، من كان مسافراً، وله أحكام السفر يقصر الصلاة، ومن لم يكن له أحكام السفر يتم الصلاة، وهذا هو الراجح عند الشافعية والجمهور.
وعلى المسلم أن يسأل أهل العلم عن كل حكم يستقبله.
ثم إذا صلوا الظهر والعصر يتغذى الحاج ويأكل شيئاً من الطعام والشراب؛ ليتفرغ لذلك اليوم العظيم ،ينطلق بعد ذلك ليقف في عرفات، في ذلك الموقف العظيم، في ذلك الموقف المهيب، في ذلك اليوم الكبير العظيم، يقف وحيث ما وقف بعرفة فإنه يجوز، والناس يقفون اليوم في مخيماتهم، ولا حرج عليهم، وأما النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فإنه وقف عند الصخرات العظام التي بطرف جبل الرحمة، جبل الرحمة الجبل المشهور الممدود في وسط عرفات، ولا يستحب صعوده كما يظن بعض الناس، وهو كغيره من المحل، لا أجر فيه زائد، من وقف عليه صح حجه، ومن لم يقف عليه صح حجه، وليس في صعوده أجر زائد، أما موقف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فإنه وقف عند الصخرات المنطرحات في طرف الجبل، وجعل الجبل بينه وبين الكعبة، واستقبل القبلة راكبا على ناقته، منكشفاً،ضاحياً ليس فوقه ما يغطيه، مفطراً غير صائم، صلوات ربي وسلامه عليه، وقال -بأبي هو وأمي-: " وَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ". فذلك الموقف هو السنة ولكن من لم يستطع فليقف حيث شاء.
ثم يقف المسلم في ذلك الموقف العظيم الذي ينزل فيه الله عز وجل، ويباهي بالحجيج الملائكة، كما جاء في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قَالَ : " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ : مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ ".
أي ما الذي يريده هؤلاء فهو لهم؟ فيغفر الله -عز وجل- الذنوب، ويتوب عن السيئات والخطايا، فثمة تسكب العبرات، وتُقال العثرات، فينبغي على المسلم إذا قدّر الله -عز وجل- له أن يقف في ذلك المقام، أن يقف خاشعاً، ذليلاً، منكسراً بين يدي الله سبحانه وتعالى، تائباً، مستغفراً، داعياً، متضرعاً، يدعو لنفسه، ولوالديه، ولزوجته، ولأولاده، ولأقربائه، ولجيرانه، وللمسلمين، يدعو بإلحاح، ويتوسل إلى الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ويبكي، ويتضرع، يتوب إلى الله -تعالى- توبة نصوحا، علَّه أن يرجع كيوم ولدته أمه.
فإذا غربت الشمس أفاض الحجيج من عرفات نحو المزدلفة. ﴿ثُمَّ أَفيضوا مِن حَيثُ أَفاضَ النّاسُ وَاستَغفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [البقرة: ١٩٩].
فأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون عباد الله، اتقوا الله حق تقواه.
عباد الله، إذا غربت الشمس في اليوم التاسع من ذي الحجة أفاض الحجيج من عرفات، قبل أن يصلوا المغرب، يؤخرون المغرب ليوصلوها مع صلاة العشاء، كما فعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لتُصلى المغرب مع العشاء جمع تأخير في جمع، في المزدلفة التي يسمونها جمع؛ لأنها تجمع فيها الصلاة، فينطلقون وعليهم السكينة والوقار، ملبِّين، مكبرين، داعين، خاشعين لله سبحانه وتعالى، حتى إذا وصلوا إلى المزدلفة نزلوا في مزدلفة، والناس اليوم ينزلون في مخيماتهم المقررة لهم، وأول ما يفعلون حين يصلون إلى المزدلفة يصلون المغرب والعشاء، كل طائفة يجتمعون ويصلون جماعة، يؤذنون أذاناً واحدا، ويقيمون إقامتين، إقامة للمغرب، وإقامة للعشاء، فيصلون المغرب والعشاء جمعا، وأما من تأخر في الطريق، وعرقل في طريقه، وخشي أن يتأخر في الصلاة، فعليه أن يصلي في طريقه، وليكون المسلم قد استعد لنفسه بماء، فربما حجز في الطريق ولم يستطع أن يصل إلى مزدلفة بسبب الزحمة، فيكون مستعداً بالماء، ويصلي في طريقه المغرب والعشاء، فإذا صلوا المغرب والعشاء في مزدلفة، فإنهم يمكثون يذكرون الله سبحانه وتعالى، يلبون، ويدعون، ويكبرون، ويستغفرون، ويقرؤون القرآن، ثم يصلون الوتر، وينامون، فيستريحون؛ فأمامهم أعمال كبيرة وكثيرة في يوم النحر، يوم الحج الأكبر.
فإذا كان صبيحة يوم النحر -يوم العيد، ويوم الحج الأكبر- يصلون الفجر في مزدلفة في أول وقتها، فإذا صلوا الفجر مكثوا يدعون الله -عز وجل- ويذكرونه ذكراً كثيرا، ويستغفرون، ويدعون، ويلبون، قال الله -سبحانه وتعالى- ﴿لَيسَ عَلَيكُم جُناحٌ أَن تَبتَغوا فَضلًا مِن رَبِّكُم فَإِذا أَفَضتُم مِن عَرَفاتٍ فَاذكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشعَرِ الحَرامِ وَاذكُروهُ كَما هَداكُم وَإِن كُنتُم مِن قَبلِهِ لَمِنَ الضّالّينَ﴾ [البقرة: ١٩٨].
(فَاذكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشعَرِ الحَرامِ) والمشعر الحرام مزدلفة، أو موضع في مزدلفة، فيذكرون الله -سبحانه وتعالى- كما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقف يذكر الله بعد الفجر حتى أسفر جدا، وقبل أن تطلع الشمس انطلق نحو منى ليرمي الجمرة.
فينطلق الحجيج في صبيحة العاشر نحو جمرة العقبة، ويرمونها بعد طلوع الشمس، إذا طلعت الشمس رموا جمرة العقبة، يأخذون حجارة الرمي من مزدلفة ذلك أفضل، فإن لم يأخذوها من مزدلفة وأخذوها من أي موضع جاز ذلك، فينطلقون إلى العقبة الكبرى وهي الجمرة الكبرى، جمرة العقبة التي هي أبعد الجمار وأقربها من مكة، فيذهبون إلى الجمرة ويرمونها بهذه الحجار الصغيرة، التي مثل حجر الخذف، كحبات الباقلاء (الفول)، أو كأطراف الأصابع، هذه هي السنة، فيرمون الجمرة ويقولون: بسم الله والله أكبر. يرمون بالتكبير، وما وضع الرمي إلا من أجل التكبير، وذكر الله سبحانه وتعالى، فيرمونها.
فإذا رموا الجمرة انتهت التلبية في يوم النحر ويوم العيد، وبدأ وقت التكبير، تنتهي التلبية مع رمي أول حجرة من حجار الرمي، فإذا أتم سبع حجرات انتهى رمي الجمرة الكبرى، ثم يأتي بعد الرمي النحر، ينحر هديه، واليوم الناس يوكلون الشركات والمؤسسات في النحر، فلا يهمهم ذلك، ثم بعد النحر يحلقون رؤوسهم، والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج، فيحلقون الرؤوس أو يقصرون، والحلق للرجل أفضل. " رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ ". قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ ". قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ ". قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " وَالْمُقَصِّرِينَ ". فيحلق شعره أو يقصر.
وبهذا بعد الرمي والحلق يكون قد حلّ وتحلل التحلل الأول، حلّ له كل شيء كان محرماً عليه إلا ما يتعلق بالنساء، يبقى حراماً عليه، الجماع، والمباشرة، وعقد النكاح، يحل له أن يحلق، يحل له أن يلبس الثياب، فيذهب ويلبس ثيابه، يلبس أحسن الثياب، ويتطيب؛ من أجل أن يذهب إلى مكة، ويطوف بالبيت، وقد تطيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ".
فيلبس الحاج ثيابه، ويتطيب، ثم ينطلق إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ينطلق إلى مكة زائراً، داخلاً على مكة إلى بيت الله، وقال أكثر العلماء: هذا الطواف -طواف الإفاضة والزيارة- هو أعظم أركان الحج، وهو الغاية القصوى، فلا يذهب الناس، ولا يقفون تلك المواقف؛ إلا ليصدروا ويدخلوا على مكة زائرين، ثم يطوف بالبيت طواف الإفاضة، وطواف الركن، فيطوفون بالبيت طواف الإفاضة كما شرحنا في بيان الطواف، ثم يصلون ركعتي الطواف، فإذا صلوا ركعتي الطواف أما المتمتع فإنه يسعى بعد الطواف سعي الحج، وأما المفرد والقارن فإن كان قد قدَّم السعي بعد طواف القدوم فقد ذهب السعي، وإن لم يكن سعى فإنه يسعى، فيطوفون ويسعون طواف الحج وسعي الحج.
ثم بعد ذلك يرجعون إلى منى، ويمكثون في منى مكبرين، ذاكرين، قارئين للقرآن، داعين الله عز وجل، ويبيتون ليلة إحدى عشر من ذي الحجة، وهذا المبيت واجب.
ثم في صباح الحادي عشر من ذي الحجة يرمون الجمار الثلاث الصغرى، والوسطى، والكبرى، كل واحدة بسبع حجرات، وذلك بعد الزوال، لا يكون الرمي في الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر إلا بعد الزوال، فيرمون في الحادي عشر، ثم يبيتون ليلة الثاني عشر، والمبيت واجب في منى، فإذا أصبحوا في الثاني عشر من ذي الحجة رموا الجمار الثلاث الأولى، والوسطى، والكبرى، كل واحدة بسبع حجرات، فإذا رموا في الثاني عشر بعد الزوال فالحاج بالخيار، إن شاء أن ينفر من منى ويكون قد انتهى من حجه، وإن شاء أن يمكث ليبيت ليلة الثالث عشر، ويرمي في الثالث عشر الجمار الثلاث، قال الله -عز وجل-: ﴿… فَمَن تَعَجَّلَ في يَومَينِ فَلا إِثمَ عَلَيهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثمَ عَلَيهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَموا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرونَ﴾ [البقرة: ٢٠٣].
فإذا رموا الجمرات ينفرون من منى، ويكونون قد انتهوا من حجهم بالكلية، ثم إذا أراد المسلم أن يرجع إلى بلده، وأن يغادر مكة مغادرة تامة، يكون آخر عهده بالبيت طوافاً، فيطوف طواف الوداع، ويصلي بعده ركعتي الطواف. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ". رواه البخاري ومسلم.
أسال الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من أهل الحج والعمرة! اللهم يسر لنا، ولا تعسر علينا! اللهم بلغنا تلك الأماكن الطيبة المباركة! اللهم بلغنا تلك الأماكن الطيبة المباركة!
اللهم اغفر لنا، ولآبائنا، وأمهاتنا، ومشايخنا، ومعلمينا! اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار!
وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين