خطبة الجمعة لبيك اللهم لبيك 7/ذي الحجة 1437 هجرية

عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1437/12/07 - 2016/09/08 17:07PM
خطبة الجمعة
لبيك اللهم لبيك
إعداد عبدالوهاب المعبأ
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وفرض علينا حج بيته الحرام، وجعله سببًا لدخول الجنان وتكفير الذنوب والآثام، أحمده تعالى وأشكره وأستعينه وأستغفره، وأثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله أفضل من صلى وزكى وحج وصام، صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام، وأصحابه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا مواسم الخيرات بأنواع الطاعات، وعظموا ما عظم الله تعالى من الشعائر والحرمات؛ فإنكم تعيشون أفضل أيام العام، وهي أيام الأعمال والمنافع ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج:30] ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ ﴾ [الحج:32].
عباد الله لما فرغ خليل الله إبراهيم -عليه السلام- من بناء الكعبة
أمره الله بأن يؤذن في الناس بالحج قال تعالى: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. فقال إبراهيم: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذ إليهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه،وقيل: على الصفا، وقيل على أبي قبيس. وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك.
يا إبراهيم، نادهم ليحصل نفعهم في معادهم، وأتِ بهم من بلادهم، وأخرجهم عن أهلهم وأولادهم، فليقصدوا بابي مسرعين رجالا، (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً).
يا غافلا عني أنا الداعي، يا متخلّفًا عن زيارتي أنا ألقى الساعي، يا مشغولاً عن قصدي لو عرفت اطّلاعي، أنا أقمت خليلي، يدعو إلى سبيلي، وأقبلت بتنويلي على محبيّ إقبالاً، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً.
لله در أقوام فارقوا ديارهم، وعانقوا افتقارهم، وطهروا أسرارهم، يدعون عند البيت قريبًا سميعا، ويقفون بين يديه بالذلّ جميعا، ويسعون في مراضيه سعيًا سريعا، قد ودّعوا شهواتهم توديعا، فأفادهم مولاهم أن يرجعهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم أطفالا، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً. أيّ قلب لا يشتاق إلى تلبية النداء وإجابة الدعاء والانضمام إلى وفد ملك الأرض والسماء؟! أيّ عين لا تذوب بدمعها شوقا إلى البيت وحنينًا إلى الصلاة فيه والأنس في رحابه؟!
انه بيت الله المكرم تاريخٌ وذكريات سيرةٌ ومسيرة: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) [آل عمران: 96 - 97].

إليه حَجَّ الأنبياء وصلَّى إمام الحنفاء.. من مكة شعَّ نور الهدى وانطلقت رسالة التوحيد حتى عمَّت أرجاء الأرض وغيرت العالم وأرست أجمل وأعظم حضارة عرفها التاريخ.. مكة مركز العالم ورمز وحدة المسلمين ومصدر النور للعالمين.. أفضل البقاع عند الله وأحب البقاع عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
مكة المكرمة (أم القرى) بها ميلاد أشرف الورى.. على رباها نشأ وترعرع وفي أرجائها مشى وما تضعضع.. نصف قرنٍ من الزمان شهدت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة؛ فأيُّ شرفٍ يعلو هذا الشرف
في تلك البقاع نزل جبريل -عليه السلام- بالوحي، وصدع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد من (جبل الصفا).. لو حدثتكم الكعبة أو حكى زمزم والمقام لقالوا: كان هنا أبو بكرٍ وعمر، وكان عثمان وعلي وغيرهم من الصحب الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- أضاءوا الدنيا وطهروا الأرض، واعترك التوحيد مع الوثنية حتى أظهر الله الدين..
وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- أمام الكعبة ليقرر مبادئ الدين العظمى ويرسم نهج الإنسانية الأرقى.. والذي عجزت عن تحقيقه كل حضارات البشر إلى يومنا هذا.
ان تلك العرصات والبطاح المباركات قد رغب النبي صلى الله عليه وسلم بزيارتها وقصدها وحج بيت الله الذي وضعه فيها
إن قصد تلك البقاع الطاهرة يكفِّر الذنوب ويمحو الآثام ويحط الأوزار، بل ليس للحج المبرور جزاءٌ إلا الجنة.. قول نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.
الحجاج والعمار وفد الله؛ دعاهم فأجابوا، وسألوه فأعطاهم، والحج يهدم ما قبله، و"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، والحجة المبرورة ليس لها ثواب إلا الجنة، وما من ملبّ يلبي إلا لبى ما على يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا.
ومن طاف بالبيت وصلى ركعتين كان كعتق رقبة، ومن طاف بالبيت أسبوعًا -أي سبعة أشواط- لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئة، وكتب بها له حسنة، ومسح الحجر الأسود والركن اليماني يحط الخطايا حطًّا؛ أخرج ابن حبان والبيهقي والطبراني وحسنه في صحيح الجامع
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلاً من الأنصار سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عما له من في الحج من الثواب؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله -عز وجل- ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة
فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثًا غبرًا من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج -أي متراكم- أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مذخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك". الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ما أعظمه من تكريم، وما أجله من ثواب عظيم.
عباد الله فهل يُلامُ في هوى الحرم بعد ذاك أحد، ناهيك عن مواقف الرحمة في عرفات والازدلاف عن المشعر الحرام والتقلُّب في فجاج مِنى والطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمرات، وكل ذلك من مواطن الرحمة وإجابة الدعاء.
رحلة الحج ما أروعها من رحلة، وما أعظمه من منظر، يأخذ الألباب، فهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين؟ وهل رأيت لباساً قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟ هل رأيت رؤوساً أعز وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصرين؟ وهل مر بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟ وهل سمعت نظماً أروع وأعذب من تلبية الملبين، وأنين التائبين، وتأوه الخاشعين، ومناجاة المنكسرين؟
"لبيك اللهم لبيك" لبى بها الأنبياء من قبل، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر في حجه بوادي الأزرق فقال: "أي وادٍ هذا؟" قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: "كأني أنظر إلى موسى -عليه الصلاة والسلام- هابطًا من الثنية له جؤار إلى -تعالى- بالتلبية"، ثم أتى على ثنية يقال لها ثنية هرشي فقال: "أي ثنية هذه؟" قالوا: ثنية هرشي، قال: "كأني أنظر إلى يونس بن متى -عليه الصلاة والسلام- على ناقة حمراء جعدة -أي: مكتنزة لحمًا- عليه جبة من صوف، خطام ناقته خُلبة -أي: من الليف- وهو يلبي".
نحجّ لبيت حجّه الرسل قبلنا *** ونشهد نفعًا في الكتاب وعدناه

"لبيك اللهم لبيك" نداء الوحدة الإسلامية يجأر بها الحجيج كلهم؛ عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، رجالاً وركبانًا، صغارًا وكبارًا، وقفوا على صعيد واحد بلباس واحد يدعون ربًا واحدًا، كلهم يلهج بالتلبية.

"لبيك اللهم لبيك" خرج بها الحاج من بيته وأهله، فذكرته رحيله عن الدنيا ليلقى ربًا كريمًا، تجرّد من المخيط ولبس ثوبين أبيضين فتذكّر يوم يُجرّد ثم يلفّ في كفنه، واغتسل وتطيّب فتذكر يوم يغسل ويطيب، فما أشبه الحال بالحال.

تفيض نفس الحاج بهذه المشاعر الإيمانية الحساسة، يختلط بالناس ويزاحمهم، فيذكر زحام المحشر، لا أنساب ولا أحساب ولا لغات، الكلّ يجأر بشكواه وينادي: رباه رباه. ينصرف من عرفه فيذكر المنصرف من الحساب، فريق في الجنة وفريق في السعير. يذكر بالحر حر جهنم، وبالشمسِ يوم تدنو الشمس من الخلائق قدر ميل فيلجمهم العرق.

مشاعر إيمانية صادقة تمتلك قلب الحاج، فتفيض عَبَراته وتتلعثم عِباراته، يريد النجاة وقد أقبل على الكريم أهل التقوى وأهل المغفرة.
عن ابن المبارك قال: جئت سفيان الثوري عشيةَ عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.

"لبيك اللهم لبيك" لطالما سمعناها من الحجيج، ولكن أجمل من تردادها على أفواههم تردادها على أفواه أناس يبعثون يوم القيامة ملبين، يقوم الناس من قبورهم فزعين ويقومون هم يلبون: لبيك اللهم لبيك، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فمات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبه، ولا تطيبوه ولا تخمروا رأسه ولا وجهه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا" متفق عليه.

فلا إله إلا الله، ما أعزها من ميتة، وما أشرفه من قدوم، أن يقدم على الله يوم القيامة ملبيًا. كان الحافظ البرزالي إذا قرأ حديث ابن عباس هذا بكى ورقّ قلبه، فأكرمه الله بأن توفي وهو محرم في طريقه إلى الحج، رحمة الله عليه.
خرجت امراءة من خراسان فلما دخلت الحرم جعلت تقول : أين بيت ربي ؟ أين بيت ربي ؟ فقيل لها : الآن تأتين بيت ربك ، فلما دخلت المسجد قيل لها : هذا بيت ربك : فاستندت إلى البيت فوضعت خدها على البيت ، فما زالت تبكي حتى ماتت » أخبار مكة للفكهاني 1/244

الخطبة الثانية
"لبيك اللهم لبيك" ذكروا في التاريخ العربي أن البرعي في حجه الأخير أخذ محمولا على جمل فلما قطع الصحراء مع الحج الشامي,وأصبح على بعد خمسين ميلاً من المدينة هب النسيم رطباً عليلاً معطرا برائحة الأماكن المقدسة فازداد شوقه للوصول لكن المرض أعاقه عن المأمول فأنشأ قصيدة لفظ مع آخر بيت منها نفسه الأخير .. يقول فيها:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي *** هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي *** الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ *** يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا *** عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جِدَّ السُّرَى *** عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتِ نَظْرَةَ سَاعَةٍ *** نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ
تَاللَّهِ مَا أَحْلَى الْمَبِيتَ عَلَى مِنًى *** فِي لَيْلِ عِيدٍ أَبْرَكِ الأَعْيَادِ
ضَحَّوْا ضَحَايَا ثُمَّ سَالَ دِمَاؤُهَا *** وَأَنَا الْمُتَيَّمُ قَدْ نَحَرْتُ فُؤَادِي
لَبِسُوا ثِيَابَ الْبِيضِ شَارَاتِ اللِّقَاءِ *** وَأَنَا الْمُلَوَّعُ قَدْ لَبِسْتُ سَوَادِي
يَا رَبِّ أَنْتَ وَصَلْتَهُمْ صِلْنِي بِهِمْ *** فَبِحَقِّهِمْ يَا رَبِّ فُكَّ قِيَادِي
فَإِذَا وَصَلْتُمْ سَالِمِينَ فَبَلِّغُوا مِنِّي *** السَّلامَ أُهَيْلَ ذَاكَ الْوَادِي
قُولُوا لَهُمْ عَبْدُالرَّحِيمِ مُتَيَّمٌ *** وَمُفَارِقُ الأَحْبَابِ وَالأَوْلادِ
صَلَّى عَلَيْكَ اللَّهُ يَا عَلَمَ الْهُدَى *** مَا سَارَ رَكْبٌ أَوْ تَرَنَّمَ حَادِ
"لبيك اللهم لبيك" ذكر بعض أهل السير أن شقيق البلخي أبصر في طريق الحج مقعداً يتكأ على إليته يمشي حيناً
و يضعن حيناً يرتاح حيناً و يمشي أخرى كأنه من أصحاب القبور مما أصابه من وعثاء السفر و كآبة المنظر قال له شقيق يا هذا أين تريد قال أريد بيت الله العتيق قال من أين أتيت ؟ قال من وراء النهر
قال كم لك في الطريق ؟ فذكر أعواماً تربوا على عشر سنين قال فنظرت إليه متعجباً قال يا هذا مما تتعجب
قال أتعجب من بعد سفرك و ضعف مهجتك قال أما بعد سفري فالشوق يقربه و أما ضعف مهجتي
فالله يحملها
يا شقيق أتعجب ممن يحمله اللطيف الخبير إذا شاءسبحانه إنه الشوق إلى أرض الرحمات
إنه الشوق إلى أرض العطايا و الهبات
فحق للنفوس أن تتوق و حق للأرواح أن تحلق أملاً في الوصال ,
"لبيك اللهم لبيك" خرجت أم أيمن بنت علي - امرأة أبي علي الروذباري - من مصر وقت خروج الحاج إلى الصحراء والجِمال تمر بها وهي تبكي وتقول : وا ضعفاه , وتنشد على إثر قولها :
فقلت : دعوني واتباعي ركابكم *** أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
وما بال زعمي لا يهون عليهم *** وقد علموا أن ليس لي منهم بد
وتقول : هذه حسرة من انقطع عن البيت , فكيف تكون حسرة من انقطع عن رب البيت .
قيل لامرأة خرجت مسافرة: إلى أين؟ قالت: إلى الحج إن شاء الله، فقيل لها: إنَّ الطريق بعيد، فقالت: بعيد على كسلان أو ذي ملالة، فأمَّا على المشتاق فهو قريب.
وقد جرت للصالحين حين ركوبهم لسفر الحج أحوال من الخوف تارة والشوق والمحبة تارة أخرى، وقلب المؤمن يتقلَّب بين هاتين المنزلتين.
ذكر عن علي بن الحسين أنَّه حجَّ، فلمَّا أحرم واستوت به راحلته اصفرَّ لونه وارتعد ولم يستطع أن يلبِّي، فقيل: ما لك؟ قال: أخشى أن يقول لي: لا لبيك ولا سعديك، فلمَّا لبَّى غشي عليه. ويذكر نحو هذا عن جعفر الصادق وغيره.

ويذكر عن بعض الصالحين حين ركب دابَّته في سفر الحجِّ أخذه البكاء فقيل: لعلَّه ذكر عياله ومفارقته إياهم، فسمعهم فقال: يا أخي، والله ما هو ذاك، وما هو إلاَّ لأنِّي ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب والبكاء، وهيَّج من حوله بالبكاء.

عباد الله عرفات.. وما أدراك ما عرفات! يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يومٍ أكْثرُ منْ أنْ يعْتِقَ الله فيه عبداً من النَّار من يومِ عَرَفَة، وإنّهُ لَيدْنُو ثمَّ يباهِي بهِم الملائِكةَ فيقول: ما أرادَ هؤلاء؟" رواه مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
إخوة الإيمان: في يوم عرفة العظيم تتجلَّى رحمةُ الله على العِباد، ويُفِيض الملك الديَّان من خَزائِن مُلكِه الشيءَ العظيم، فيَرحَم العِباد، ويُجِيب السُّؤال، ويجبر الكَسِير، ويُيسِّر العَسِير، ويدنو الجبَّار ملك السموات والأرض من السماء الدنيا، فيُباهِي بأهل الأرض ملائكةَ السماء، ويقول: "انظُرُوا إلى عِبادي، أتَوْني شُعثًا غُبرًا ضاحين من كُلِّ فجٍّ عميق، أُشهِدكم أنِّي قد غفرتُ لهم".
عرفة... ما أعظمه من يوم ، وما أشرَفَ وأطيب ساعاته، موسمٌ من مواسم الإيمان، له في القلب لوعة وشان ، ما أشرَقَت الشَّمس في دهرها على يومٍ خير منه .

ويعتق الرحمن من النار في ذلك اليوم الأفواجَ الكثيرة، والأعدادَ العظيمة ، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم-: "ما من يومٍ أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة"؛ رواه مسلم في صحيحه.

ويَرى الشيطان هذا العَطاءَ الإلهيَّ المنسكب على أهل الموقف، فيصغر شأنُه، ويندَحِر أمرُه، ويَزداد حَقارةً إلى حَقارته.

ولئنْ حازَ الحاجُّ أجرَ المغفرة والرحمة والمباهاة، فإنَّ فضْل الله الوهَّاب على عباده الصائمين الذين لم يحجُّوا قد طاب بإجابة دُعائِهم، وتَكفِير سيِّئاتهم، وستْر عيوبهم يُسأَل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن صوم يوم عرفة، فيقول: "يُكفِّر السنة الماضية والباقية"؛ رواه مسلمٌ وغيره.

فاتَّقوا الله أيُّها المؤمنون، وأحسِنُوا استِغلالَ هذا اليوم، فما هو إلاَّ ساعات معدودة، ولحظات محدودة، فاغتَنِموها - رحمكم الله- بالتوبة والاستغفار، والذِّكر والقرآن، والتضرُّع والدعاء، حَقِّقوا رَجاءَكم بربِّكم بحسن الظنِّ به، تجرَّدوا إلى ربِّكم بنُفُوسٍ زكيَّة، وقلوبٍ مُخبِتة، ودعاء صادق خالص.

استَغفِروا الرحمن في يوم الرحمة على ما مضى وكان، فإنَّ ربَّكم غفورٌ رحيم، جواد كريم، يستَحي من عباده إذا رفَعُوا إليه أيديهم أنْ يردَّهم صفرًا.

وهو - سبحانه - يحبُّ ندَم التائبين، وتوبة النادِمين، يعفو عن الزلاَّت، ويَغفِر السيِّئات.
حتى ولو كانت تلك الخطيئات مثلَ زبَدِ البحر أو مثل رمل عاج، أو كعدد أيَّام الدنيا - لَمَحاها الرحيم كما يمحو الليلَ النهارُ.
وصلو وسلمو.....
أخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648جوال
المشاهدات 1653 | التعليقات 0