خطبة الجمعة بين تحضير الخطيب لها وارتجاله بها (2-2)
الفريق العلمي
أ. : زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
استكمال -أيها الفضلاء- لما تطرقنا إليه في الجزء الأول من الحديث حول ضرورة تحضير الخطيب خطبته وإعداده المسبق لها واهتمامه البالغ بمناسبة موضوعها وحرصه على ارتباط موضوعها بمجتمعه حالاً وزماناً ومكاناً، إذ أن غير ذلك يعني هشيماً تذروه الرياح، ولا يعدو أن يكون حديثاً يسقط به الواجب وكلاماً يجزئ فيمن توجبت في حقهم الجمعة لا غير..
أيها الخطباء الفضلاء: الناظر في طبيعة دعوة الأنبياء والرسل كلهم، -وإن كان جميعهم اتفقوا على عقيدة واحدة وتوحيد واحد-، يجد أنهم مختلفون في الشرائع والمناهج ومتغايرون في الطريقة والأسلوب بما يتناغم مع أحوال أقوامهم الذين أرسلوا إليهم، كما كانت دعوتهم حسب حاجتهم متدرجين بالأهم ثم المهم. وهذا الاختلاف والتغاير يجعلنا على عجالة نستوحي شواهد مهمة ونستحضر أدلة جلية، تفيدنا في مضمون المقال، وإليكم بعضاً من تلك الشواهد:
- من حِكم الله في تعدد الرسل وتنوعهم هو اختلاف أممهم وتنوعها، قال الله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) [فاطر: 24]، وهذا حاصل بالنسبة لزماننا؛ فتعدد الأحياء والمناطق والبلدان حاصلة، ومنه تعددت الجوامع وتنوعت نظراً لتعدد البلدان؛ وعليه ينبغي أن يكون هذا التنوع والتعدد داعياً الخطباء إلى تلبية حاجة المستمعين كل بحسبه.
- اختلاف دعوة الرسل في الشرائع والأحكام والمعاملات والمناهج جاء متوافقاً مع حاجة المدعوين وعلاجاً لمشكلاتهم التي يمارسونها -رغم توافقهم في التوحيد والعقائد والسلوك والأخلاق-، قال الله (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48]، ومن هذا نستلهم أن كل مجتمع يحتاج من المواضيع ما لا يحتاجه مجتمع آخر؛ وبالتالي كون الخطيب يخطب بخطبة خطيب آخر تصرف غير مقبول وعمل غير مستساغ إلا أن يشترك المستمعون في الحاجة أو المشكلة أو يكون هناك تعميم من الجهات العليا.
- اختلاف معجزات الأنبياء والرسل وتنوعها لم تكن على سبيل الصدفة أو لإثبات نبوة نبي أو رسول فقط؛ بل كانت تحمل معانٍ أخرى؛ من أعظمها معالجة مظاهر الانحراف الشهيرة لدى الأمم والعمل على تعديلها وإصلاحها.
- توافق جميع من أرسل الله وبعث في التدرج في دعوة الناس والبدء بالأهم ثم المهم؛ فكان دعوتهم تتصدرها الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، قال الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]، ثم يثنون بمعالجة مشكلاتهم على مختلف أنواعها: الفكرية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية والمالية والأسرية وغيرها، ومن هنا نستلهم أنه على الخطيب رسم خطة تنفيذية يتم من خلالها رصد المخالفات الشرعية في مجتمعه المحيط وشخيص كافة المشكلات، سواء كانت تلك المخالفات ترك المأمورات أو ارتكاب المنهيات، ثم يقوم بعلاجها متدرجا في عرضها وتنفيذها بالأهم ثم المهم.
أيها الخطباء الأفاضل: ليس هناك من مشكلة قائمة إلا ويسبقها أسباب ولا كانت هناك قضية إلا كان قبلها مقدمات؛ ولعلنا في هذه النقطة سنتلمس وإياكم بعضاً من تلك الأسباب التي جعلت من خطيبنا الموقر يمارس هذه العشوائية ويتصف بهذه الصفة، ومن ذلك ما يلي:
- التربية الأسرية والبيئية التي نشأ الخطيب فيها وتلقى فيها تعليمه؛ سواء النظامي أو غيره.
- برودة الإحساس وعدم الشعور بالآخرين وتقدير المستمعين واحترام المخاطبين.
- ضعف الهمة العالية لدى الخطيب في الارتقاء بثقافته وأسلوبه وتحسين أدائه.
- عدم تقدير المسؤولية التي التزم بها الخطيب وقبِل أن يكون متصدراً لها، وهذا من قلة الدين وضعف الأمانة.
- ضعف معايير الاختيار والترشيح لدى الجهات المخولة أو التساهل في تطبيق معايير القبول.
- قلة الكوادر المعتبرة وشحة البدائل المتوفرة المميزة؛ مما ساهم في تقدم غير المؤهلين وتسبب في تصدر غير المعتبرين.
خطيبنا الكريم: اسمح لي أصارحك القول إنه لمن المؤسف جداً أن ترى خطيباً لا يعي خطبته اهتماماً ولا يلقي لها بالاً، ومحزن جداً أن تجد خطيباً يمضي عليه أسبوع دون أن يفكر في موضوع خطبته؛ فضلاً عن مضمونها ومادتها تحت أي مسوغ ومهما كانت الأعذار، فليس من الأمانة والحكمة ولا من الخلق والمروءة أن تطرق الشمس صبيحة جمعتك وأنت لم تحدد عنواناً لجماعة مسجدك أو تحضر موضوعاً لمستمعيك.
هناك عددٌ ليس بالقليل للأسف من تأتي عليه جمعته ليلها أو صبيحتها حتى يهرع إلى المواقع الإلكترونية والشبكات العنكبوتية يتلمس مادة جاهزة أو يجد معدة ليلقيها على جمهوره؛ فيتفاجأ أن تلك المواقع معطلة أو خدمة البحث لا تعمل بشكلٍ جيد.
ومنهم من يسارع إلى قروبات الأصدقاء يسألهم عن مواضيع خطبهم، فلا يجد شيئاً مناسباً يسعفه ويلبي حاجته.
ومنهم من يتابع صفحات التواصل الأخرى عله يجد موضوعاً وافياً أو عنواناً مخدوماً، فلا يجد شيئاً مرضياً.
ومنهم من يفتش في أوراقه القديمة ودفاتره السابقة لخطبه الماضية، فلا يجد سوى قصاصات لرؤوس أقلام في موضوعات؛ لكن للأسف مع مرور الأيام لم يفهم عناصرها أو يتذكرها، أو كانت تلك الخطب من قدمها صعبة قراءتها لقبح الكتابة، فيلجأ مضطراً أن يأخذ المتوفر على عجل، وفيما يلي جملة من صور ومظاهر العشوائية في خطبة الجمعة:
- غياب الموضوعية والمحورية في الخطبة؛ فلا تجد موضوعاً معيناً ولا مركزاً.
- كثرة ترديد العبارات وتكرار المرادفات مع التحديق في المكتوب دون أدنى التفات للمستمعين.
- قلة الاستدلالات وضعف الاستشهادات التي تعطي المادة قوة وتمنحها نضجاً.
- عدم ربط الموضوع بواقع الخطيب وتنزيله على مجتمعه.
- التلكؤ والتعتعة والتقطعات الناتجة عن الاضطراب النفسي بسبب عدم التحضير المسبق، أو الكتابة الرديئة أو أن الخطبة التي أخذها لم يقرأها قبل إلقائها.
- كثرة الشتات والتشعبات والخروج عن الموضوع والإسهاب في الشروح.
- الاعتذار الفصيح أو المبطن للمستمعين من الخطيب في مقدمة الخطبة أو مؤخرتها.
وحينها عدِّد صوراً كثيرة محرجة واستعرض مظاهر عديدة مخزية بسبب الارتجال الذي لا يسبقه تحضير ولا إعداد:
فمنها ما تفاجئ الخطيب أثناء الإلقاء: يجدها في نفسه أو قرأها في عيون مستمعيه وملامحهم وكثرة حركاتهم التي تبرهن تذمرهم وتظهر مللهم.
ومنها ما يكون بعده: مثل الانتقاد المباشر من المستمعين أو عن طريق الرسالة أو النقل أو عن طريق صندوق المقترحات أو عن طريق الإمام أو المؤذن، وما يتلو ذلك من شعور بالذنب وإحساس بالتقصير؛ نتيجة الإهمال في التحضير الذاتي والاعتماد على جهد الآخرين.
إن العاقل اللبيب ليدرك جلياً أن واحدة من هذه المظاهر تكفي لتجنب الارتجالية، وأن صورة واحدة كفيلة للبعد عن هذه الرزية، وهذا بدوره كفيل بأن يحدث في الخطيب تغيراً ملحوظاً في قضية اهتمامه بخطبته وإعطائها أولوياته، وإليكم أسوق -أيها الخطباء- عدداً من الآثار السيئة المترتبة على عشوائية الخطيب وعدم استعداده المسبق:
- هوان الخطيب في أعين مستمعيه بسبب انعدام الفائدة المحققة.
- الانهزام النفسي مستقبلا نتيجة لفشله في خطبه السابقة.
- الشعور السيئ والاحباط لدى المستمعين من الخطيب كونه لا يقدر عقولهم ولا يحترم حضورهم.
- تراكم مشاكل المجتمع العقدية والفكرية والاجتماعية وغيرها ومضاعفتها نتيجة لغياب الخطة الاستراتيجية والنظرة الثاقبة في تشخيص حاجات المجتمع وتحديد أولوياته للبدء في تنفيذها.
- عدم تحقق المقصود الشرعي والمجتمعي من مشروعية الخطبة وحضور المستمعين لها وإنصاتهم فيها.
- تفشي هذا المرض بين أتباع ومستمعي وطلاب من هذه حالته وصفته؛ فلا شك أن هذه الخلق الذميم سيلازمه في محاضراته الجامعية ودروسه المسجدية وغيرها من المجالات التي يعمل فيها؛ وبالتالي من يلازمه حيث كانوا سيكونون نسخة كربونية منه.
- غياب القدوات المخلصة والنماذج المبدعة والكوادر الحريصة التي تستشعر الواجب وتقدِّر الآخرين وتعظِّم المسؤولية وتعطي المهمة حقها ونصيبها من الجهد البدني والفكري والمالي والاستشاري والزمني.
- التفريط في الأمانة الموكلة إليه؛ فعدم التحضير المسبق والإعداد الجيد بإتقان واستشعار يجعل المعلومة ركيكة والفائدة منعدمة والأداء ضعيف، وفي هذا إخلال بالمهمة وبالتالي يكسب إثماً ويحمل وزراً بدلاً من أن يثاب ويؤجر.
- ضياع الأوقات دون فائدة مذكورة والتسبب في تبرم الناس وضيق نفوسهم في بيوت الله نتيجة الطرح الركيك والعشوائي والمادة الضعيفة في مجتمع به المثقف والداعية والواعي وغيرهم.
- مزاحمة الخطباء المعتبرين وإقصاء النماذج المتميزة ذوات الهمم العالية والطرح المميز المتقن.
- النقد المستمر من قبل المستمعين؛ بحيث يصبح الخطيب حديث مجالسهم وغيبتهم.
خطباؤنا الكرام: لا يسعني في نهاية هذا التطواف السريع وهذه الإطلالة العجلى، إلا أن أهدي لمقامكم عظيم شكري على تفضلكم بقراءة هذه المقالة (1،2) وتكرمكم بأوقاتكم لنفيسة للاطلاع عليها .. أسأل الله أن أكون قد قدمت فيها ذكرى حسنة ولفتة مهمة لشريحة غالية القدر حاضرة القلب وعالية المكانة في مجتمعنا المسلم بخصوص تطوير مضمون هذا اللقاء الأسبوعي الجميل (خطبة الجمعة)، والذي يتصدره خطيبنا الموفق وعلى شرف حضوره تلتقي جموع المسلمين ولما يقوله تصغي وعلى قدر اهتمامه وحرصه وكفاءته وأسلوبه وطرحه تستفيد..
__________
- معجم المعاني الجامع، المعجم الوسيط.
- انظر (الخطابة) لأبي زهرة ص 21 ، 22
- مقابلة للشيخ سلمان العودة في (الإسلام اليوم).
- أهمية خطبة الجمعة ودورها في النهوض بالأمة لمحمد محمود إبراهيم عطية.
للمزيد/ يرجى تصفح المقال الأول من عنوان هذه المقالة
خطبة الجمعة بين تحضير الخطيب لها وارتجاله بها (1-2)