خطبة الجمعة بعد العيد: الحَجُّ قَصَصٌ ومشاعرُ وشعائر.
وليد بن محمد العباد
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم
خطبة: الحَجُّ قَصَصٌ ومشاعرُ وشعائر.
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ يَصطفي مِن الملائكةِ رسلًا ومِن النّاسِ إنّ اللهَ سميعٌ بصير، له الحمدُ في الأولى والآخرةِ وله الحكمُ وإليه المصير، وأصلي وأسلمُ على البشيرِ النّذيرِ والسّراجِ المنير، نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه إلى يومِ النّشور، أمّا بعدُ عبادَ الله
أمامَ مشاهدِ الحجيجِ ومظاهرِ العقيدةِ والتّوحيد، تَأخذُنا الذّكرياتُ إلى زمنٍ بعيد، طغى فيه الشّركُ وانتشرتِ الأصنام، فقامَ أبو الأنبياءِ إبراهيمُ عليه السّلام، فدعا قومَه إلى التّوحيدِ وعبادةِ اللهِ وحدَه ونَبذِ ما كانَ يَعبدُ آباؤُهم، ولكنّهم لم يَستجيبوا له وقَرّروا أنْ يَقتلوه (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) فتلقّى إبراهيمُ ذلك الحكمَ بقلبٍ ثابتٍ ويقينٍ راسخٍ وهو يُردّدُ (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وأمامَ تقديراتِهم البشريّة، يأتي الأمرُ مِن اللهِ تعالى إلى النّارِ أنْ كوني بردًا وسلامًا، لا نارًا فتُحرقُه ولا بَرْدًا فتُؤذيه، قالَ بعضُ السّلف: لمّا أُلقِيَ إبراهيمُ في النّار، جاءَ ملكُهم ليَنظرَ إليه فطارتْ شرارةٌ فوقعتْ على إبهامِه فأَحرقتْه مثلَ الصّوفة (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) هاجرَ إبراهيمُ عليه السّلامُ إلى فلسطين، وكانتْ نفسُه تَرغبُ في الولد، فدعا ربَّه (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فتَزوّجَ بهاجرَ فرزقَه اللهُ منها إسماعيل، وأمرَه اللهُ أنْ يَذهبَ بها وبابنِها إلى مكّة، وهي صحراءُ قاحلةٌ ليسَ فيها بشرٌ ولا شجر، فوضعَهما هناك، ووضعَ عندَهما جِرابًا فيه تمرٌ وسقاءً فيه ماء، ثمّ قفّى إبراهيمُ منطلقًا فتبعتْه أمُّ إسماعيل، فقالتْ: يا إبراهيمُ أين تَذهبُ وتَتركُنا بهذا الوادي الذي ليسَ فيه إنسٌ ولا شيء؟ فقالتْ له ذلك مِرارًا وجعلَ لا يَلتفتُ إليها، فقالتْ له: آللهُ أَمَرَك بهذا؟ قالَ: نعم، قالتْ إذنْ لا يُضيّعُنا. ثمّ رَجَعَتْ. فانطلقَ إبراهيمُ حتّى إذا كانَ عندَ الثّنيّةِ حيثُ لا يَروْنَه، استقبلَ بوجهِه البيتَ ثمّ رفعَ يَديْهِ ودعا بهؤلاءِ الكلماتِ (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) وجَعَلَتْ أمُّ إسماعيلَ تُرضعُ ولدَها وتَشربُ مِن ذلك الماء، حتّى إذا نَفَدَ ما في السّقاءِ عَطِشتْ وعَطِشَ ابنُها، وجَعَلَتْ تَنْظرُ إليه يَتَلَوّى، فانطلقَتْ كراهيةَ أنْ تَنظرَ إليه، فأَخذَتْ تَسعى بينَ جبلينِ هما الصّفا والمروةُ سبعَ مرّات، وذلك سَعْيُ النّاسِ اليوم، فأَرسلَ اللهُ لها ملكًا فضربَ الأرضَ بجناحِهِ فظهرَ الماء، فجعلتْ تُحوِّضُه وتَغْرِفُ مِن الماءِ في سقائِها وهو يَفورُ، فشَرِبَتْ وأَرْضَعَتْ ولدَها، فقالَ لها المَلَك: لا تَخافوا الضّيعةَ فإنّ هاهنا بيتُ اللهِ يَبني هذا الغلامُ وأبوه، وإنّ اللهَ لا يُضيّعُ أهلَه، فلمّا شَبَّ إسماعيلُ وتَرَعْرَعَ رأى إبراهيمُ في منامِه أنّ اللهَ يَأمرُه بذَبْحِ ولدِه إسماعيل، ورؤيا الأنبياءِ حقٌّ فهي وحيٌ مِن اللهِ تعالى، ابتلاءٌ عظيم، إنّه ابْنُه الوحيدُ الذي طالما انتظرَه وتَطلّعَ إلى نفعِه، وقد جاءَه على كِبَرٍ وهو على رأسِ ستٍّ وثمانينَ سَنَة، وإذا بإبراهيمَ يَمْتثلُ أمرَ ربِّه ويَعزمُ على ذَبْحِ ولدِه، وأخبرَه بذلك فبادرَ الغلامُ الحليمُ أباه قائلًا (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فألقى إبراهيمُ ولدَه إسماعيلَ على الأرضِ وصَرَعَه على وجهِه، ليَذبحَه مِن قفاه، لئلّا يُشاهدَ وجهَه حالَ ذبحِه (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) فلمّا أَخَذَ الأبُ السّكينَّ وسمّى وكبّرَ وتَشهّدَ الولدُ للموت، أَمَرَّ السّكينَ على رقبتِه فلم تَقطعْ شيئًا (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) فالتفتَ إبراهيمُ فإذا هو بكبشٍ مِن الجنّةِ أبيضَ أقرن، قد رعى فيها أربعينَ خريفًا (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فاتّقوا اللهَ رحمَكم الله، فكم في تلك القَصَصِ مِن العِظات، اللهمّ اجعلْنا بها مِن المعتبرينَ المنتفعين (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأصلي وأسلمُ على خاتمِ النبيّين، نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمّا بعد عبادَ الله اتّقوا اللهَ حقَّ التّقوى (يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقوا اللهَ حقَّ تقاتِهِ ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون) وفي غَمْرَةِ تلك المشاعر، وأمامَ تلك الشّعائر، تَعودُ بنا الذّاكرةُ إلى أعماقِ التّاريخ، حيثُ أبو الأنبياءِ وإمامُ الحنفاء، إبراهيمُ الخليلُ عليه الصّلاةُ والسّلام، يَقِفُ وحيدًا أمامَ بيتِ اللهِ في تلك الصّحراءِ القاحلة، يَدعو ربَّه قائلًا: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) وليسَ حولَه شيءٌ مِن مقوّماتِ الحياة، لتَتَحَقَّقَ بإذنِ اللهِ معجزةٌ مِن معجزاتِ هذا الدّينِ الخالدة، وآيةٌ مِن آياتِه الباهرة، إذ أَمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه إبراهيمَ أنْ يُناديَ في النّاسِ بالحجِّ إلى بيتِه العتيق: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) فقالَ إبراهيمُ: يا ربِّ كيفَ أُبَلّغُ النّاس؟ صوتي لا يَنفُذُهم. فقالَ تباركَ وتعالى: نادِ وعلينا البلاغ. فقامَ على مَقامِه، وقالَ: يا أيّها النّاس، إنّ ربَّكم قد اتّخذَ بيتًا فحجُّوا، فيُقالُ: إنّ الجبالَ تَواضعتْ حتّى بَلَغَ الصّوتُ أرجاءَ الأرض، وأَسْمَعَ مَن في الأرحامِ والأصلاب، وأجابَه كلُّ شيءٍ سمعَه مِن حجرٍ ومدرٍ وشجر، وممّن كتبَ اللهُ أنّه يَحُجُّ إلى يومِ القيامة: لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك. فلبّى بها إبراهيمُ عليه السّلام، ولا تَزالُ الأممُ تُلبِّي بها وتُعلنُ التّوحيدَ للهِ عزَّ وجلّ. وها هو العالمُ هذه الأيّام، يَقِفُ في ذهولٍ وخشوع، وهو يُتابعُ ويُشاهدُ وُفودَ الحجيجِ التي تُقَدَّرُ بالملايين، وهي تَهوي إلى بيتِ اللهِ العتيق، مِن كلِّ فجٍّ عميق، ما بينَ شيخٍ كبيرٍ وطفلٍ صغير، وغنيٍّ وفقير، ورجالٍ ونساء، ومرضى وأصحّاء، وعربٍ وعجم، وهم سواسيةٌ لا فرقَ بينَهم إلا بالتّقوى، وقد بذلوا مُهَجَهم وأعمارَهم وأموالَهم، ليَصلوا إلى تلك الرّحابِ المقدّسةِ والبقاعِ الطّاهرة، جاؤوا بشوقٍ وحبٍّ وبكاء، بدِينٍ واحدٍ ولباسٍ واحدٍ وحداءٍ واحد: لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنّعمةَ لك والملك، لا شريكَ لك. إنّها دعوةُ إبراهيم، وشريعةُ محمّد، عليهما الصّلاةُ والسّلام، ودِينُ ربِّ العالمين، فالحمدُ للهِ ربِّ العالمين، اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وعلى آلِ محمّد، كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنّك حميدٌ مجيد، وباركْ على محمّدٍ وعلى آلِ محمّد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنّك حميدٌ مجيد.
إعداد/ وليد بن محمد العباد غفر الله له ولوالديه وأهله وذريته والمسلمين
جامع السعيد بحي المصيف شمال الرياض 12/ 12/ 1444هـ