خطبة الجمعة الأخيرة من رمضان 27/9/1435 للشيخ أحمد الحزيمي
الفريق العلمي
1435/09/25 - 2014/07/22 11:40AM
الحمد لله الخلاَّقِ العليم؛ خلق الزمان، وكوَّر الليل على النهار، وكُلُّ شيءٍ عنده بمقدار، نحمده على إدراك هذا الشهر الكريم، ونشكره على ما حبانا فيه من الخير العظيم، ونسأله -سبحانه- صلاح نياتنا، وقبول أعمالنا، واستقامتنا على أمره، واستمرارنا على عهده، وإعانتنا على ما يرضيه، واجتنابنا لما يسخطه؛ . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ كان يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا يصوم، وصلى من الليل كله، وكان يتهجد بالقرآن، فيطيل القيام، ويرتل القرآن، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أما بعد فاتقوا الله حق التقوى فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته0 عباد الله أحسنوا ختام شهركم بخير عملكم، وألزموا أنفسكم بعهدكم، والاستمرار على طاعة ربكم، وأكثروا من الاستغفار؛ فإنه مرقِّعٌ لما تخرَّق من صيامكم، والهجوا لله -تعالى- بالحمد والشكر على رحمته بكم، وفضله عليكم؛ فلقد أدركتم بخير حال. فصمتم وقمتم وقرأتم وتصدقتم، وفعلتم من الخير ما دُوِّن في صحائفكم، وأتيتم من البر ما لم يوفق له غيركم؛ وذلك محض فضل الله -تعالى- عليكم: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) عباد الله..
نحمد الله تعالى أن مد في أعمارنا ونسأ في أجالنا حتى أدركنا هذا الشهر الكريم ثم أنعم علينا بدخول هذه العشر المباركة وهانحن الآن في خاتمة هذه الشهر الكريم الذي نسأل الله تعالى أن يتقبله منا بقبول حسن
أيها الناس: لنتأَمل أحوال غيرنا في هذا الشهر الكريم؛ لِنعرف فضل الله -تعالى- علينا، فنشكرَه على نِعَمه، ونلهج بذكْره وحمْده.
في هذا الشهر الكريم حُرِم هذه اللذة العظيمة مليارات البشر ممن كفروا بالله -تعالى- جهلاً به، أو استكبارًا عن عبادته، فلم يعرفوا رمضان، ولم يعيشوا لذة الصيام والقيام والقرآن،
وفي رمضان، ونحن ننعم بالأمن والاستقرار، قضى الملايين من المسلمين رمضان في رعب وخوف فهو بين حروب طاحنة وقلاقل مستمرة ومحن دائمة.
وبعضهم لاجئين في غير بلدانهم، مشردين في غير بيوتهم، قضوا حَرَّ رمضان في مخيمات يلفها البؤس والشقاء من كل جانب، كبت الله -تعالى- عدوهم، وانتقم لهم ممن آذاهم بمنه وكرمه.
وفي رمضان، وفي لحظات الغروب، أو السَحَر موائدنا تبسط وتملأ من نعم الله تعالى فما تدري نفس ماذا تأكل وماذا تترك، بينما يفطر قوم من المسلمين وما أفطروا، ويأكلون وما أكلوا، لا يجدون ما يفطرون عليه إلا شيئاً يسيراً وقد شاهدنا هذا كثيراً عبر رسائل التواصل الاجتماعي
وفي رمضان، متعنا الله -تعالى- بأجسادنا، وأكمل صحتنا وعافيتنا في حين أن في المستشفيات والبيوت من يئنون من آلامهم، ويعالجون أمراضهم، قد ألهاهم ما هم فيه, عن الفرح برمضان ومظاهره، وحرموا إقامة شعائره، شفى الله -تعالى- مرضى المسلمين أجمعين، وأدام علينا الصحة والعافية. آمين.
ومنهم من حبسوا في ديونهم، أو في جنايات كانت عليهم؛ فلنشكر الله -تعالى- حين عافانا من البلاء، عباد الله..
كل هذه كانت ابتلاءات أذهبت عن كثير من الناس فرحة رمضان، وحالت بينهم وبين لذته، فما فرحوا به فرحنا، ولا وجدوا له لذة كما وجدنا، وهذا موجب لشكر الله -تعالى- على نعمه وعافيته، والإقرار بفضله وإحسانه، وختام الشهر بذكره وشكره.
عبد الله
لقد أوشكت هذه الأيام على الرحيل بعد أن سَعِد بها أهل الإيمان وأودعوا فيها ما استطاعوا من عمل صالح كانوا يتنافسون فيه على ما يقربهم إلى ربهم ويرفع درجتهم ويعلي مكانتهم0
إن لهذه الأيام العظيمة روحانية لمن عرفها وأدركها وعمل فيها بما استطاع من جهد0
أقول الذي عرفها. عرف أنها أغلى الأيام. وأثمن الأوقات. والله سبحانه يسدي لعباده الفرص فمن اهتبلها ونافس فيها بورك له في عمره وعظم فيه أجره فالصيام والقيام وقراءة القرآن والعمرة إلى بيت اله الحرام والعشر الأواخر وليلة القدر وزكاة الفطر كلها فرص عظيمة من نافس فيها ربح ربحاً لا خسارة بعده ومن تهاون وتقاعس ورضي بحطام الدنيا الفاني فهو الخاسر
عباد الله:
فوائد الاستغفار لا تحد. وآثاره لا تعد. لكن في هذا الوقت يحمد الاستغفار فمن فوائد الاستغفار ترقيع ما قد يحصل في هذه العبادات من الخلل والتقصير ثم هو علامة على قبول العمل إن شاء الله تعالى
فأكثر يا عبد الله من الاستغفار يكن تاج حسناتك وماحيا لقبيح زلاتك كان بعض السلف الصالح إذا صلى صلاة استغفر الله من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه. فيا أيها المسلمون أكثروا من الاستغفار فإنه ختام الأعمال الصالحة تختم به الصلاة والحج وقيام الليل والمجالس وكذلك ينبغي أن يختم الصيام ليرقع ما نقص من الغفلة والنسيان والزلل والتقصير فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى سائر الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار.
أكثروا من شكره وحمده فإن الله قال في آخر آية الصيام( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)
ثم إن هناك علامة أخرى لقبول العمل وهي أنك ترى أصحاب الطاعات عندما يقدِّمون ما يستطيعون من أعمال جليلة. وعبادات عظيمة. مع هذا تجدهم خائفون مخبتون فلماذا الخوف ؟ إنهم يا عبد الله خائفون من عدم القبول. خائفون أن ترد عليهم أعمالهم. ويكون ما صرفوه من جهد ووقت هباء منثورًا0
سألت الصديقة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة ) فقالت أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال : " لا يا ابنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات " . رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني رحمه الله
والسر في خوف المؤمنين ان لا تقبل منهم عبادتهم أن القبول متعلق بالقيام بالعبادة كما أمر الله عز وجل وهم لا يستطيعون الجزم بأنهم قاموا بها على مراد الله
إن أصحاب الطاعات لا يفخرون أبدا بأعمالهم أمام الناس ولا يتباهون بها أمام الخلق بل يُخْفونها أشد الخفاء حتى من أقرب الناس إليهم0
أصحاب الطاعات أيضاً لا يقفون. نعم لا يقفون عن العمل. بمجرد انتهاء موسم عظيم كرمضان. بل هم في تواصل مستمر مع ربهم قدوتهم في ذلك حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهم يعلمون أن الصيام مشروع على مدار العام
فمن صامَ رمضان ثم أتبعه بصيام ستّ من شوال كان كصيام الدّهر)) رواه مسلم.
صيام الاثنين والخميس قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
( تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله) كما في الحديث المتفق عليه
وصيام أيام عشر ذي الحجة ويوم عرفة وتاسوعاء وعاشوراء كلها أيام مباركة
ويعلمون كذلك أن صلاة الليل ليست حكرا على رمضان بل تشرع كل ليلة من أيام العام ولم يكن يدعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضر ولا سفر قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فصلوها فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني
وهكذا سائر العبادات تشرع في سائر العام كقراءة القرآن والذكر والعمرة والصدقة0
أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر
من وفقهم الله في هذا الشهر لمنافسة الصالحين ومسابقة المحسنين بأعمال شتى. وعبادات فضلى . سموا فيها بأرواحهم إلى الفضائل. ومنعوا عنها الرذائل فإن من تمام نعمة الله عليه أن تسير نفسه على هذا النهج بعد رمضان.
نرى من بعض شبابنا من لم يعرف بعد رمضان. ولم يدركه الإدراك الحقيقي. تراهم في لهو وعبث. عبث بالأموال والأوقات والسيارات. وربما أيضا عبث بالأعراض. في حين ترى ولله الحمد فتية سلكوا طريق الهدى والخير واستغلوا ما في هذا الشهر من المنح والفرص فسابقوا عليها ونافسوا عليها. سواء كان في التبكير للصلوات. او الجلوس بعدها الساعات. أو في ختم القرآن مرات ومرات. أو في أداء العمرة. مع ما فيها من الجهد والمشقة. وخوف العدوى. أو في لزوم الاعتكاف الأيام ذوات العدد
هؤلاء الفتية جعلوا رضا ربهم. فوق أهوائهم. وطاعته فوق رغباتهم0فيالله كم نفخر بهم. وكم نفرح بأمثالهم. إنهم يعيدون الأمل لهذه الأمة. والصلاح في أبناء الملة. فليُحذَ حذوهم في الاستقامة والنقاء. ولتقر بهم عين الآباء. وليهنئوا فهذا فعل النبلاء. (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)
أخي الكريم
اغتنم آخر ساعات هذا الشهر بالدعاء وسل الكريم فخزائنه ملأى ويديه سحاء الليل والنهار اسأل الله كثيرا كثيرا أن يتقبل منك هذه الأعمال واسأله أن يجعل هذا الشهر شاهداً لك تفرح به يوم تلقى ربك أدعو الله أن يجعلك ممن وفق لقيام ليلة القدر فإن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ادعو الله بالثبات على دينه حتى تلقاه
ادعوا الله أن يعيد عليك هذه الأيام الجميلة وهذه الساعات الغالية أعوما عديدة وأزمنة مديدة وأنت ومن تحب في صحة وحياة سعيدة0
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)
الخطبة الثانية
وما يبغي التذكير به في ختام هذا الشهر صدقة الفطر وهي فريضة فرضها الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته شرعت هذه الزكاة لتكون طهرة للصائم مما عسى أن يكون وقع فيه من اللغو والرفث، وتكون جابرة ما فيه من قصور، فإن الحسنات يذهبن السيئات، ولتكون عوناً للفقراء، والمعوزين، وطعمة لهم في هذا اليوم الذي هو يوم عيد وفرح وسرور، ليشاركوا الأغنياء في الفرح والسرور.
وتجب هذه الزكاة على كل مسلم فضُل له يوم العيد وليلته عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية، لا فرق بين ذكر وأنثى ولا بين صغير وكبير، بل لا فرق بين غني وفقير ، ولا بين ولا بين صائم وغير صائم.
ويجب إخراجها عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها عن أنفسهم ، لأنهم المخاطبون بها أصلاً.
وأما الجنين في بطن أمه إذا أكمل أربعة أشهر استحب بعض أهل العلم أن يخرج عنه زكاة الفطر تطوعاً من غير وجوب
والواجب في صدقة الفطر صاع، والمراد بالصاع: الصاع النبوي ، وصاع المدنية ، وهو ما يساوي بالكيلو في زماننا الحاضر كيلوين وأربعين جراماً من البر الجيد وأما الرز وما أشبه ذلك من الأطعمة الثقيلة فيزيد وزنه، والوزن المعتدل ثلاث كيلو تقريباً.
فاعتبار الصاع هو الأساس وهو الأحوط في الأحوال والأطمعة كلها، خروجاً من الخلاف واتباعاً للنص الثابت بيقين.
تؤدى صدقة الفطر من غالب قوت البلد، وإن لم ينص عليه في الحديث، كالأرز مثلاً.
وعلى هذا فلا تجزئ إخراجها من الدراهم والفرش واللباس وأقوات البهائم والأمتعة وغيرها لأن ذلك خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم،
وأما زمن إخراجها فله وقتان : وقت فضيلة، ووقت جواز.
فأما وقت الفضيلة : فهو صباح العيد قبل الصلاة، "
ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد ، فإن أخَّرها عن صلاة العيد بلا عذر لم تُقبل منه لأنه خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن " من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
أما إن أخَّرها لعذر فلا بأس،
وأما مكان دفعها فتدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه .
عباد الله
أكثرو من التكبير ليلة العيد إلى صلاة العيد تعظيماً لله وشكراً له على إتمام النعمة يقول جل وعز يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
عباد الله
لقد أوشك شهركم على الرحيل وختم فيه ما أودعتموه من أعمال وأقوال فمن أحسن فيه وجود فهو الآن يحصد آثاره المشرقة وأنواره المبهجة فإن للطاعة أثراً على صاحبها في وقته وماله وصحته وعياله0
يليت شعري من المقبول منا فنهنيه بحسن عمله أم ليت شعري من المطرود منا فنعزيه بسوء عمله
فياأيها المقبول هنيئا لك بثواب الله عز وجل ورضوانه ورحمته وغفرانه وقبوله وإحسانه وعفوه وامتنانه ويا أيها المطرود بإصراره وطغيانه وغفلته وخسرانه وتماديه وعصيانه لقد عظمت مصيبتك بغضب الله وهوانه
عباد الله
من كان منع نفسه في شهر رمضان من الحرام فليمنعها فيما بعده من الشهور والأعوام فإن إله الشهرين واحد وهو على الزمانين مطلع وشاهد جزانا الله وإياكم على فراق شهر البركة وأجزل أقسامنا وأقسامكم من رحمته المشتركة وبارك لنا ولكم في بقيته وسلك بنا وبكم طريق هدايته بفضله ورحمته0
هذا وصلوا
أما بعد:
أما بعد فاتقوا الله حق التقوى فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته0 عباد الله أحسنوا ختام شهركم بخير عملكم، وألزموا أنفسكم بعهدكم، والاستمرار على طاعة ربكم، وأكثروا من الاستغفار؛ فإنه مرقِّعٌ لما تخرَّق من صيامكم، والهجوا لله -تعالى- بالحمد والشكر على رحمته بكم، وفضله عليكم؛ فلقد أدركتم بخير حال. فصمتم وقمتم وقرأتم وتصدقتم، وفعلتم من الخير ما دُوِّن في صحائفكم، وأتيتم من البر ما لم يوفق له غيركم؛ وذلك محض فضل الله -تعالى- عليكم: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) عباد الله..
نحمد الله تعالى أن مد في أعمارنا ونسأ في أجالنا حتى أدركنا هذا الشهر الكريم ثم أنعم علينا بدخول هذه العشر المباركة وهانحن الآن في خاتمة هذه الشهر الكريم الذي نسأل الله تعالى أن يتقبله منا بقبول حسن
أيها الناس: لنتأَمل أحوال غيرنا في هذا الشهر الكريم؛ لِنعرف فضل الله -تعالى- علينا، فنشكرَه على نِعَمه، ونلهج بذكْره وحمْده.
في هذا الشهر الكريم حُرِم هذه اللذة العظيمة مليارات البشر ممن كفروا بالله -تعالى- جهلاً به، أو استكبارًا عن عبادته، فلم يعرفوا رمضان، ولم يعيشوا لذة الصيام والقيام والقرآن،
وفي رمضان، ونحن ننعم بالأمن والاستقرار، قضى الملايين من المسلمين رمضان في رعب وخوف فهو بين حروب طاحنة وقلاقل مستمرة ومحن دائمة.
وبعضهم لاجئين في غير بلدانهم، مشردين في غير بيوتهم، قضوا حَرَّ رمضان في مخيمات يلفها البؤس والشقاء من كل جانب، كبت الله -تعالى- عدوهم، وانتقم لهم ممن آذاهم بمنه وكرمه.
وفي رمضان، وفي لحظات الغروب، أو السَحَر موائدنا تبسط وتملأ من نعم الله تعالى فما تدري نفس ماذا تأكل وماذا تترك، بينما يفطر قوم من المسلمين وما أفطروا، ويأكلون وما أكلوا، لا يجدون ما يفطرون عليه إلا شيئاً يسيراً وقد شاهدنا هذا كثيراً عبر رسائل التواصل الاجتماعي
وفي رمضان، متعنا الله -تعالى- بأجسادنا، وأكمل صحتنا وعافيتنا في حين أن في المستشفيات والبيوت من يئنون من آلامهم، ويعالجون أمراضهم، قد ألهاهم ما هم فيه, عن الفرح برمضان ومظاهره، وحرموا إقامة شعائره، شفى الله -تعالى- مرضى المسلمين أجمعين، وأدام علينا الصحة والعافية. آمين.
ومنهم من حبسوا في ديونهم، أو في جنايات كانت عليهم؛ فلنشكر الله -تعالى- حين عافانا من البلاء، عباد الله..
كل هذه كانت ابتلاءات أذهبت عن كثير من الناس فرحة رمضان، وحالت بينهم وبين لذته، فما فرحوا به فرحنا، ولا وجدوا له لذة كما وجدنا، وهذا موجب لشكر الله -تعالى- على نعمه وعافيته، والإقرار بفضله وإحسانه، وختام الشهر بذكره وشكره.
عبد الله
لقد أوشكت هذه الأيام على الرحيل بعد أن سَعِد بها أهل الإيمان وأودعوا فيها ما استطاعوا من عمل صالح كانوا يتنافسون فيه على ما يقربهم إلى ربهم ويرفع درجتهم ويعلي مكانتهم0
إن لهذه الأيام العظيمة روحانية لمن عرفها وأدركها وعمل فيها بما استطاع من جهد0
أقول الذي عرفها. عرف أنها أغلى الأيام. وأثمن الأوقات. والله سبحانه يسدي لعباده الفرص فمن اهتبلها ونافس فيها بورك له في عمره وعظم فيه أجره فالصيام والقيام وقراءة القرآن والعمرة إلى بيت اله الحرام والعشر الأواخر وليلة القدر وزكاة الفطر كلها فرص عظيمة من نافس فيها ربح ربحاً لا خسارة بعده ومن تهاون وتقاعس ورضي بحطام الدنيا الفاني فهو الخاسر
عباد الله:
فوائد الاستغفار لا تحد. وآثاره لا تعد. لكن في هذا الوقت يحمد الاستغفار فمن فوائد الاستغفار ترقيع ما قد يحصل في هذه العبادات من الخلل والتقصير ثم هو علامة على قبول العمل إن شاء الله تعالى
فأكثر يا عبد الله من الاستغفار يكن تاج حسناتك وماحيا لقبيح زلاتك كان بعض السلف الصالح إذا صلى صلاة استغفر الله من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه. فيا أيها المسلمون أكثروا من الاستغفار فإنه ختام الأعمال الصالحة تختم به الصلاة والحج وقيام الليل والمجالس وكذلك ينبغي أن يختم الصيام ليرقع ما نقص من الغفلة والنسيان والزلل والتقصير فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى سائر الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار.
أكثروا من شكره وحمده فإن الله قال في آخر آية الصيام( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)
ثم إن هناك علامة أخرى لقبول العمل وهي أنك ترى أصحاب الطاعات عندما يقدِّمون ما يستطيعون من أعمال جليلة. وعبادات عظيمة. مع هذا تجدهم خائفون مخبتون فلماذا الخوف ؟ إنهم يا عبد الله خائفون من عدم القبول. خائفون أن ترد عليهم أعمالهم. ويكون ما صرفوه من جهد ووقت هباء منثورًا0
سألت الصديقة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة ) فقالت أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال : " لا يا ابنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات " . رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني رحمه الله
والسر في خوف المؤمنين ان لا تقبل منهم عبادتهم أن القبول متعلق بالقيام بالعبادة كما أمر الله عز وجل وهم لا يستطيعون الجزم بأنهم قاموا بها على مراد الله
إن أصحاب الطاعات لا يفخرون أبدا بأعمالهم أمام الناس ولا يتباهون بها أمام الخلق بل يُخْفونها أشد الخفاء حتى من أقرب الناس إليهم0
أصحاب الطاعات أيضاً لا يقفون. نعم لا يقفون عن العمل. بمجرد انتهاء موسم عظيم كرمضان. بل هم في تواصل مستمر مع ربهم قدوتهم في ذلك حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهم يعلمون أن الصيام مشروع على مدار العام
فمن صامَ رمضان ثم أتبعه بصيام ستّ من شوال كان كصيام الدّهر)) رواه مسلم.
صيام الاثنين والخميس قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
( تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله) كما في الحديث المتفق عليه
وصيام أيام عشر ذي الحجة ويوم عرفة وتاسوعاء وعاشوراء كلها أيام مباركة
ويعلمون كذلك أن صلاة الليل ليست حكرا على رمضان بل تشرع كل ليلة من أيام العام ولم يكن يدعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضر ولا سفر قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فصلوها فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني
وهكذا سائر العبادات تشرع في سائر العام كقراءة القرآن والذكر والعمرة والصدقة0
أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر
من وفقهم الله في هذا الشهر لمنافسة الصالحين ومسابقة المحسنين بأعمال شتى. وعبادات فضلى . سموا فيها بأرواحهم إلى الفضائل. ومنعوا عنها الرذائل فإن من تمام نعمة الله عليه أن تسير نفسه على هذا النهج بعد رمضان.
نرى من بعض شبابنا من لم يعرف بعد رمضان. ولم يدركه الإدراك الحقيقي. تراهم في لهو وعبث. عبث بالأموال والأوقات والسيارات. وربما أيضا عبث بالأعراض. في حين ترى ولله الحمد فتية سلكوا طريق الهدى والخير واستغلوا ما في هذا الشهر من المنح والفرص فسابقوا عليها ونافسوا عليها. سواء كان في التبكير للصلوات. او الجلوس بعدها الساعات. أو في ختم القرآن مرات ومرات. أو في أداء العمرة. مع ما فيها من الجهد والمشقة. وخوف العدوى. أو في لزوم الاعتكاف الأيام ذوات العدد
هؤلاء الفتية جعلوا رضا ربهم. فوق أهوائهم. وطاعته فوق رغباتهم0فيالله كم نفخر بهم. وكم نفرح بأمثالهم. إنهم يعيدون الأمل لهذه الأمة. والصلاح في أبناء الملة. فليُحذَ حذوهم في الاستقامة والنقاء. ولتقر بهم عين الآباء. وليهنئوا فهذا فعل النبلاء. (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)
أخي الكريم
اغتنم آخر ساعات هذا الشهر بالدعاء وسل الكريم فخزائنه ملأى ويديه سحاء الليل والنهار اسأل الله كثيرا كثيرا أن يتقبل منك هذه الأعمال واسأله أن يجعل هذا الشهر شاهداً لك تفرح به يوم تلقى ربك أدعو الله أن يجعلك ممن وفق لقيام ليلة القدر فإن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ادعو الله بالثبات على دينه حتى تلقاه
ادعوا الله أن يعيد عليك هذه الأيام الجميلة وهذه الساعات الغالية أعوما عديدة وأزمنة مديدة وأنت ومن تحب في صحة وحياة سعيدة0
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)
الخطبة الثانية
وما يبغي التذكير به في ختام هذا الشهر صدقة الفطر وهي فريضة فرضها الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته شرعت هذه الزكاة لتكون طهرة للصائم مما عسى أن يكون وقع فيه من اللغو والرفث، وتكون جابرة ما فيه من قصور، فإن الحسنات يذهبن السيئات، ولتكون عوناً للفقراء، والمعوزين، وطعمة لهم في هذا اليوم الذي هو يوم عيد وفرح وسرور، ليشاركوا الأغنياء في الفرح والسرور.
وتجب هذه الزكاة على كل مسلم فضُل له يوم العيد وليلته عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية، لا فرق بين ذكر وأنثى ولا بين صغير وكبير، بل لا فرق بين غني وفقير ، ولا بين ولا بين صائم وغير صائم.
ويجب إخراجها عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها عن أنفسهم ، لأنهم المخاطبون بها أصلاً.
وأما الجنين في بطن أمه إذا أكمل أربعة أشهر استحب بعض أهل العلم أن يخرج عنه زكاة الفطر تطوعاً من غير وجوب
والواجب في صدقة الفطر صاع، والمراد بالصاع: الصاع النبوي ، وصاع المدنية ، وهو ما يساوي بالكيلو في زماننا الحاضر كيلوين وأربعين جراماً من البر الجيد وأما الرز وما أشبه ذلك من الأطعمة الثقيلة فيزيد وزنه، والوزن المعتدل ثلاث كيلو تقريباً.
فاعتبار الصاع هو الأساس وهو الأحوط في الأحوال والأطمعة كلها، خروجاً من الخلاف واتباعاً للنص الثابت بيقين.
تؤدى صدقة الفطر من غالب قوت البلد، وإن لم ينص عليه في الحديث، كالأرز مثلاً.
وعلى هذا فلا تجزئ إخراجها من الدراهم والفرش واللباس وأقوات البهائم والأمتعة وغيرها لأن ذلك خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم،
وأما زمن إخراجها فله وقتان : وقت فضيلة، ووقت جواز.
فأما وقت الفضيلة : فهو صباح العيد قبل الصلاة، "
ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد ، فإن أخَّرها عن صلاة العيد بلا عذر لم تُقبل منه لأنه خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن " من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
أما إن أخَّرها لعذر فلا بأس،
وأما مكان دفعها فتدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه .
عباد الله
أكثرو من التكبير ليلة العيد إلى صلاة العيد تعظيماً لله وشكراً له على إتمام النعمة يقول جل وعز يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
عباد الله
لقد أوشك شهركم على الرحيل وختم فيه ما أودعتموه من أعمال وأقوال فمن أحسن فيه وجود فهو الآن يحصد آثاره المشرقة وأنواره المبهجة فإن للطاعة أثراً على صاحبها في وقته وماله وصحته وعياله0
يليت شعري من المقبول منا فنهنيه بحسن عمله أم ليت شعري من المطرود منا فنعزيه بسوء عمله
فياأيها المقبول هنيئا لك بثواب الله عز وجل ورضوانه ورحمته وغفرانه وقبوله وإحسانه وعفوه وامتنانه ويا أيها المطرود بإصراره وطغيانه وغفلته وخسرانه وتماديه وعصيانه لقد عظمت مصيبتك بغضب الله وهوانه
عباد الله
من كان منع نفسه في شهر رمضان من الحرام فليمنعها فيما بعده من الشهور والأعوام فإن إله الشهرين واحد وهو على الزمانين مطلع وشاهد جزانا الله وإياكم على فراق شهر البركة وأجزل أقسامنا وأقسامكم من رحمته المشتركة وبارك لنا ولكم في بقيته وسلك بنا وبكم طريق هدايته بفضله ورحمته0
هذا وصلوا