خطبة الجمعة ابتلاء أيوب عليه السلام دروس وعبر

عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1438/06/17 - 2017/03/16 17:56PM
خطبة الجمعة
ابتلاء أيوب عليه السلام
دروس وعبر
جمع وترتيب
عبدالوهاب المعبأ
الخطبة الأولى
الحمد لله مجيب من دعاه، وراحم من رجاه، أغاثه حين ناداه، وأحبه واجتباه. وأشهد ألا إله إلا الله، لا رب سواه، ولا نعبد إلا إياه. وأصلي وأسلم على رسوله ومصطفاه محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى هداه.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 278].

أيها المسلمون، اعلموا أن الله تعالى حينما يقص علينا كثيرا من القصص في القرآن سواء كانت قصصا لأقوام سبقونا أو كانت قصصا للأنبياء عليهم السلام، كل هذا -أيها الإخوة- لا يعرض علينا لنتسلى به ونتفكه بقراءته. إن قصص القرآن يا -عباد الله- إنما تعرض من أجل العبرة والاتعاظ، ومن أجل استيعاب الدروس التربوية والأخلاقية، يقول تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
اقتضت حكمة الله أن يبتلي عباده بأنواع الابتلاءات، كل حسب إيمانه ويقينه بالله، ففي قصة من قصص القرآن نجد أن الله تعالى ابتلى نبيا من أنبيائه ابتلاء شديدا، وصبر على هذا الابتلاء الشديد حتى أصبح يضرب بصبره المثل فيقال: "صبر أيوب"، وإذا ما ذكر الصبر ذكر معه أيوب عليه السلام؛ لأنه حصل له من أنواع البلاء ما لا يصبر عليه إلا من ثبته الله تعالى.
وخلاصة قصة أيوب عليه السلام أنه كان رجلا كثير المال في كل أنواعه، فعنده الذهب، وعنده العبيد والأنعام والمواشي والأراضي المتسعة، ولديه فوق هذا من الأولاد والخدم والحشم والزوجات الشيء الكثير، فأي نعمة -يا عباد الله- بعد هذا؟! وماذا بقي من متاع الدنيا بعد كثرة الأهل والمال والولد؟!
ولكن الله بحكمته البالغة أراد أن يختبر عبده ونبيه أيوب ليرى كيف يصبر على الابتلاء، فابتلاه الله تعالى أن سلب منه جميع ماله، فأمسى وأصبح لا يملك شيئا. تصور حاله حينما يأتيه أهله وأولاده ولا يجد ما يعطيهم للأكل أو للشرب، مصيبة كبرى لا شك، فأصبح فقيرا معدما. ثم فقد جميع أولاده وأهله، ومن ثم ابتلي في جسده، فأصيب بأنواع من البلايا وأنواع من الأمراض، وطال عليه المرض
ولم يبق له من أعضائه صحيحٌ إلا قلبَه ولسانَه،

حتى عافه الجليس وأوحش منه الأنيس، وانقطع عنه الناس، وأخرج من بلده، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، فلقد كانت زوجة صالحة، كانت ترعى حقه وتقوم بما يصلحه مع ضعف حالها وقلة مالها، حتى وصل بها الحال -رحمها الله- أنها كانت تخدم الناس بالأجر لتطعم زوجها وتقوم بأمره، وهي صابرة محتسبة على ما حل بها من فقدان المال والولد ومصيبتها بهذا الزوج المصاب بعد السعادة والنعمة والخدمة التي كانت تعيش فيها. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن أشد من أصابها من البلاء أن الناس حينما علموا أنها امرأة أيوب عليه السلام ذاك الرجل المريض المبتلى رفضوا أن تعمل لديهم خوفا من انتقال الأمراض من زوجها لهم بسبب مخالطتهم، فأصبح حالها أسوأ، فلم تعد تجد ما تشتري لزوجها من طعام، عند ذلك باعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب، فأتت به إلى أيوب عليه السلام، فسألها: من أين لك هذا؟ فقالت: خدمت به أناسا. فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الضفيرة الأخرى بطعام، فأتته به، فأنكره وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام، فكشفت عن رأسها، فلما رأى رأسها محلوقا حلف بالله ليضربنها مائة سوط على هذا التصرف.
ذكر ابن جرير عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((إن نبي الله أيوب لبث به بلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب: لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق)).
وعودا لما سبق حين رأى ايوب رأس زوجته محلوقا قال في دعائه: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]
قال الله تعالى في سورة الأنبياء: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ،
نعم جاء الفرج من الله: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42] أي اضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أمر به، فأنبع الله عينًا باردة الماء، وأمره أن يغتسل فيها، ويشرب من مائها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم الذي كان في جسده ظاهرًا وباطنًا، وأبدله الله بعد ذلك صحة ظاهرة وباطنة، وجمالًا تامًا، ومالًا كثيرًا، حتى صب له من المال مطرًا عظيمًا، جراد من ذهب، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: "بينما أيوب يغتسل عريانًا خر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه تبارك وتعالى: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك و لكن لا غنى بي عن بركتك"
وأخلف الله له أهله، كما قال سبحانه: ﴿ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84].

قيل: أحياهم الله بأعيانهم، وقيل: عوضه الله عنهم في الدنيا بدلهم، وقيل غير ذلك، رحمة منا ورأفة وإحسانًا وذكر للعابدين
وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ أن أيوب -عليه السلام- لما توفي كان عمره ثلاثاً وتسعين سنة، وقيل إنه عاش أكثر من ذلك.

الخطبة الثانية
من الدروس والعبر المستفادة من قصة نبي الله أيوب - عليه السلام -:
أولًا: ابتلاء الله تعالى لنبيه أيوب - عليه السلام -، وأن هذا البلاء لم يزده إلا صبرًا، واحتسابًا، وحمدًا، وشكرًا، حتى إن المثل ليضرب بصبره - عليه السلام -، ويضرب المثل بما حصل له من أنواع البلاء. قال السدي: "تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم، والعصب"،
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة..
قال صلى الله عليه وسلم : ((إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)) رواه الترمذي. فإذا كنت -أيها المسلم- تعمل المنكرات ولا يعاقبك الله فلا تظنن أنك معافى، فقد يكون استدراجا من الله لك، نعوذ بالله من الخذلان.

ثانيًا: أن يقال: يا أهل البلاء، يا من ابتليتم في أموالكم، أو أولادكم، أو أنفسكم اصبروا، واحتسبوا، فإن العوض من الله، قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].

قال ابن كثير: "هذه تذكرة لمن ابتلي في جسده، أو ماله، أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب، حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك، فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه"
قال الشاعر:
إذا بليتَ فثِقْ باللهِ وارضَ به
إنّ الذي يكشفُ البلْوى هوَ الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته
فما ترى حيلة فيما قضى الله

ثالثًا: أن من أصيب بمصيبة فصبر واحتسب واسترجع عوضه الله خيرًا مما فاته، كما حصل لأيوب - عليه السلام -، روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها إلا أخلق الله له خيرًا منها" قالت: فلما توفى أبوسلمة قلت: من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم عزم الله لي فقلتها، قالت: فتزوجت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رابعًا: أن في هذا رسالة للزوجات المؤمنات بأن يصبرن على مرض أزواجهن، أو فقرهم، أو غير ذلك مما يحصل لهم، ولهن في ذلك قدوة امرأة أيوب - عليه السلام -، وكيف صبرت واحتسبت حتى كشف عن زوجها الغمة،
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها"
وفي رواية: أن امرأة قالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حق الزوج على زوجته أن لو كانت قرحة فلحستها ما أدت حقه"
فأين نساء هذا الزمان من زوجة أيوب عليه السلام، أم أن حالهن كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، هو كفران العشير، أين تلك المرأة التي تعرف حقيقة قدر الزوج، أين تلك المرأة التي تحتسب كل ما يصيبها عند الله عز وجل.

خامسًا: أن الله تعالى يجعل لأوليائه المتقين فرجًا ومخرجًا، فإن أيوب حلف أن يضرب امرأته مئة سوط، قال ابن كثير:في قوله تعالى-: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:44]
قال فلما عافاه الله - عز وجل- أفتاه أن يأخذ الضغث، وهو شمراخ النخل، فيضربها ضربة واحدة، ويكون هذا بمنزلة الضرب بمئة سوط، ويبر ولا يحنث، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله، وأطاعه، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة الصِّدِّيقة البارة الراشدة؛ ولهذا عقب الله هذه الرخصة وعللها بقوله: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]
عباد الله: إن أيوب -عليه السلام- قدوة عظيمة في الصبر على الابتلاءات والصبر على كل ما يأتي من الله -عز وجل- من أقدار، وعلى المسلم أن يصبر ولا ييأس ولا يقنط من رحمة الله -عز وجل-، فهو القادر على كشف الضر، وهو الذي يستجيب الدعاء، وهو أرحم الراحمين.

فاحمدوا الله واشكروه في كل الأحوال، وصلوا وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-. فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولا كريما: ] إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما
[، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبدالله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، ذوي المقام العلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفِّقْنا لما يرضيك، ووفقنا لاحتساب أجرك وثوابك، واجعلنا من الصابرين الشاكرين يا أرحم الراحمين.
اللهم عافنا في أجسادنا وأولادنا وأموالنا, اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ويسر أمرهم، وعافهم.
اللهم اشف مرضى المسلمين، وعافهم في أبدانهم، وقوهم في عزائمهم، واجعل ما قدَّرته عليهم تكفيراً لسيئاتهم ورفعة في درجاتهم، تعظم به أجورهم وأجور ذويهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اخوكم عبدالوهاب المعبأ
دعواتكم لي باالعافية
773027648
المشاهدات 12007 | التعليقات 1

جزاك الله كل خير