خطبة الجمعة أهمية الإصلاح بين الناس
عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1438/06/24 - 2017/03/23 15:43PM
خطبة الجمعة
أهمية الإصلاح بين الناس
جمع واعداد عبدالوهاب المعبـأ
الحمد لله؛ شرح قلوب من شاء من عباده بالإسلام، وألف بينهم بالإيمان، فكانوا إخوة في الله تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام بإزالة الشحناء من قلوب أصحابه، وملئها محبة ومودة ووئاما (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:63]
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أمر بالصلح بين الناس، ودعا إليه، ورغب فيه، وبين ما رتب عليه من عظيم الأجر والثواب؛ حتى أخبر عليه الصلاة والسلام أن السعي في إصلاح ذات البين أفضل من نوافل الصلاة والصدقة والصيام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وطَيِّبُوا قلوبكم على إخوانكم، ولينوا لهم، واحذروا الخصومة والشحناء فإنها الحالقة التي تحلق الدين (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10 ].
لا ريب أن الشقاق والخلاف من أخطر أسلحة الشيطان الفتاكة الَّتي يوغر بها صدور الخلق ، لينفصلوا بعد اتحاد ، ويتنافروا بعد اتفاق ، ويتعادوا بعد أُخوَّة ، وقد اهتمَّ الإسلام بمسألة احتمال وقوع الخلاف بين المؤمنين وأخذها بعين الاعتبار ؛ وذلك لأن المؤمنين بَشَر يخطئون ويصيبون ، ويعسر أن تتَّفق آراؤهم أو تتوحَّد اتجاهاتهم دائماً ، ولهذا عالج الإسلام مسألة الخلاف على اختلاف مستوياتها بدءاً من مرحلة المشاحنة والمجادلة ، ومروراً بالهجر والتباعد ، وانتهاءً بمرحلة الاعتداء والقتال ، والإسلام دين يتشوّف إلى الصلح ويسعى له وينادي إليه ، وليس ثمة خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة يصلح فيها العبد بين اثنين ويقرب فيها بين قلبين ، فبالإصلاح تكون الطمأنينة والهدوء والاستقرار والأمن وتتفجر ينابيع الألفة والمحبة .
ومَن تأمل في حال المسلمين أفراداً وجماعات وجد كثرة الخصومات والنزاعات والهجر والمقاطعات، حتى بين الأصحاب والجيران والأقارب والإخوان، نعم؛ بين الإخوان في البيت الواحد، وربما بين الوالد وولده والجار وجاره، وقد يكون من أجل الدنيا الدنية؛ ففي البيوت أسرار وخفيات، وفي المحاكم خصومات، وفي مراكز الأمن مشكلات، وفي السجون أزمات ومعضلات، وحوادث في المستشفات. بل وفي المقابر قصص وحكايات
أيها المسلمون؛ لقد منَّ الله علينا بالدين الإسلامي الحنيف، وأرسل إلينا خير خلقه رحمة للعالمين؛ ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين، ويزيل من قلوبهم كل أفكار الجاهلية البغيضة التي تؤدي إلى الشحناء، ويطهِّر نفوسهم من كل أسباب البغضاء؛ ليكونوا إخوانًا متحابين، فإذا وُجد بين بعضهم خصومة وشحناء أمروا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم.
قال الله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: 1] أي: أصلحوا ما بينكم من أحوال الشقاق والفرقة حتى تكون أحوال ألفة ومحبة ليحصلوا على مغفرة ذنوبهم كل أسبوع، كما في الحديث الصحيح؛ قال صلى الله عليه وسلم : ((تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله عز وجل لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء؛ فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا)) سبحان ربي! ما أرحمه بنا! يقول: أنظروا هذين المتخاصمين حتى يتصالحا، ثم أغفر لهما.
أيها الإخوة: لقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين؛ حفاظاً على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم, واعتبر الإصلاحَ من أعظم وأجل الطاعات وأفضل الصدقات، وادخر الله للمصلح الأجر العظيم والثواب الجزيل إذا ابتغى بإصلاحه وجه الله -تعالى-؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ"؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: "صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ". وفي رواية أَنَّهُ قَالَ: "هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ". رواه الترمذي وصححه الألباني.
ومعنى إصلاح ذات البين أي إصلاح ما بين المتخاصمين أو المتهاجرين حتى يزول ما بينهما من البين وهو الفرقة. وفساد ذات البين هي التي تحلق الدين -أي تستأصله وتزيله-
فالاشتغال بالصلح بين المتخاصمين أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات؛ لما في الإصلاح بين الناس من النفع المتعدي الذي يكون سببا في وصل أرحام قطعت، وزيارة إخوان هُجِروا، ونظافة القلوب مما علق بها من أدران الحقد والكراهية، وذلك يؤدي إلى متانة المجتمع وقوته بتآلف أفراده وتماسكهم،
والإصلاح بين الناس معدود في الصدقات بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة" رواه الشيخان. قال النووي -رحمه الله تعالى-: "ومعنى تعدل بينهما تصلح بينهما بالعدل".
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "إِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ". رواه الطبراني والبزار وهو حديث صحيح لغيره كما قاله الألباني -رحمه الله-.
قال الشيخ السعدي: "والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.
وعن أنسٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي أيوب: "ألا أدُلُّكَ على تجارةٍ؟" قال: بلى، قال: "صِلْ بينَ الناسِ إذا تفاسَدُوا، وَقَرِّبْ بينهُمْ إذا تباعدوا" [صحيح الترغيب والترهيب(2818)].
فأين الراغبون في هذه التجارة الرابحة؟
وعن أبي إدريس الخولاني قال: سمعت أبا الدرداء يحلف-والله ما سمعته يحلف قبلها- "ما عمل آدمي عملا خيرا من إصلاح ذات بين".
وقال الأوزاعي -رحمه الله-: "ما خطوة أحب إلى الله -عز وجل- من خطوة في إصلاح ذات البين".
وقال أنس رضي الله عنه: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة (تفسير القرطبي)
وعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَرَادَ فَضْلَ الْعَابِدِينَ فَلْيُصْلِحْ بَيْنَ النَّاسِ
قال محمد بن المنكدر: تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما، فلم أزل بهما حتى اصطلحا، فقال أبو هريرة: من أصلح بين اثنين استوجب ثواب الشهيد .
سبحان الله! لماذا احتل الصلح هذه المنزلة وهذا الأجر العظيم؟ لأنه بالصلح تستجلب المودات، وتعمر البيوتات، وتحفظ به المجتمعات ومن ثم يتفرغ الرجال للبناء والإعمار والإصلاحات، بدلا من إفناء السنوات في المنازعات والكيد والخصومات،على اشياء قد تكون تافهات
يا أهل الفضل والمروءات! ألم تسمعوا لقول الحق -عز وجل-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]، إنه أجر عظيم، من رب كريم، لمن أراد بإصلاحه وجه الله وابتغاء رضاه.
أيها المسلم: إذا علمت أن بين اثنين من إخوانك أو قرابتك أو أرحامك أو أصحابك أو جيرانك شحناء أو قطيعة، فعليك أن تبذل وسعك وغاية جهدك في الإصلاح بينهما، وإياك أن تتكاسل عن هذا العمل الجليل من أجل الاستماع إلى إيحاءات الشيطان، وأقوال المخذولين الذين يقولون: أنت في عافية فلا تكلف نفسك فيما لا شأن لك به، بل عليك – وأنت تقدر على ذلك – أن تسعى لإزالة أسباب التفرق والشحناء بين أخويك، فالصلح خير وذلك رحمة بهما وشفقة عليهما وطمعا في فضل الله ورحمته التي وعدها من أصلح بين الناس، قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
أيها المسلمون: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فلقد كان يسعى بنفسه للصلح بين المتشاحنين مؤكدا بذلك أهمية الإصلاح بين الإخوة المؤمنين، فعن سهل بن سعد أن ناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي في أناس من أصحابه يصلح بينهم حتى أوشك أن تفوته صلاة الجماعة، وفي رواية قال: ((اذهبوا بنا نصلح بينهم)).
عباد الله وقد يحتاج المصلح إلى بعض الكذب ليُقَرِّب بين المتخاصمين، ويزيل ما بينهما من الضغينة، ويهيئ قلبيهما لقبول الصلح والعفو؛ وذلك كأن يخبر أحد الخصمين بأن صاحبه لا يذكره إلا بخير، وأنه متشوف لمصالحته، حريص على قربه ومودته مع عدم حقيقة ذلك، أو يسأله أحد الخصمين إن كان خصمه ذكره بسوء عنده فينفي ذلك مع وقوعه منه، وما قَصَدَ بكذبه إلا إطفاء نار الخصومة، وإزالة أسباب الشحناء، فَرُخِّص له في ذلك مع قبح الكذب، وعموم المنع منه؛ كما جاء في حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرا أو يقول خيرا" متفق عليه.
بل إن المصلح بين الخصمين منهي عن الصدق إذا كان صدقه يشعل نار الفتنة بينهما، ويزيد فرقتهما. والذي ينقل الكلام بين الناس على وجه الإفساد يسمى نماما ولو كان صادقا فيما ينقل، والنميمة من كبائر الذنوب، ولا يدخل الجنة نمام كما جاء في الحديث المتفق عليه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلربما نُهِي المصلح عن الصدق إن كان يضر بمهمته كمصلح بين خصمين، ويُرَخَّصُ له في الكذب إن كان الكذب يؤدي إلى إصلاح ذات البين،
فاتقوا الله أيها المؤمنون وأصلحوا بين إخوانكم عند الإختلاف، وتوسطوا بينهم عند النزاع والبغي، ولا سيما قراباتكم، ولا تتركوهم للشيطان وقرناء السوء يضلونهم عن سواء السبيل، ويهدونهم طريق الجحيم، أصلحوا بينهم تحفظوا لهم دينهم، وتحافظوا على نعمتهم قبل زوالها، وتفوزوا من الله بالأجر العظيم والثواب الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين [سورة الحجرات:9].
الخطبة الثانية
عباد الله: ومن مجالات الإصلاح المحبوبة في دين الله -عز وجل-:الإصلاح الاسري
وقد أمرنا ربّنا أن نُصلحَ بين الزّوجين إذا تنازعا: قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35]، وقال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128].
والإصلاحُ بين الزوجَين يُحافظُ على كِيان الأسرة من التصدُّع ومن الضياع، وتدومُ به الرعايةُ الأُسرية، وتقوَى به الروابطُ بين الزوجَين، وتستمرُّ العِشرة، ويجدُ الأولاد في اجتماع الأبوَين المحضَن الآمِن المُستقرَّ، والمأمَن من الانحِراف، والعطف الأبوِيّ، والنشأة الصالحة.
وإذا ازداد الخلافُ بين الزوجَين، وتُرِك الإصلاح؛ تصدَّعَت الأسرة، وضاع الأولاد، وتعرَّضُوا للفساد والفشل في الحياة بعد الطلاق، وتقطَّعَت علائِقُ الرَّحِم، وتضرَّر الزوجان.
والإصلاحُ يكون أيضًا بين الأقرباء فيما وقع بينهم من خلاف؛ لتتمَّ صِلةُ الأرحام وتدوم، ولئلا تكون قطيعةٌ بين ذوي القَرابة؛ فصِلةُ الأرحام بركةٌ وخيرٌ وفضائل، وسببٌ من أسباب دخول الجنة، ومن أسباب صلاح الدين والدنيا وبركة العُمر.
كما أن قطيعةَ الأرحام شرٌّ وشُؤمٌ في الدنيا والآخرة؛ فكم هناك من خلافات بين الإخوة وأبناءِ العمومة على ميراث وغيره خلافاً أحال الصلةَ إلى قطيعة، والمحبة إلى بغضاءَ وضغينة، والألفةَ إلى فُرقةٍ، والتوقيرَ والتقدير إلى ازدراء،
فإصلاحُ ذات البَين بين الأقرباء من أعظم الحسنات.
والإصلاحُ أيضًا يكونُ بين الجيران؛ لِلوفاء بحقِّ الجار، والقيام بواجباته التي أوجبَها الله؛
وكم هناك من نزاع بين الجيران بسبب نزاع بين الأطفال ربما اصطلحوا بعده، أو بسبب مواقف السيارات أو غيرها من الأسباب التافهة، ونسوا في خِضَمها قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ".
والإصلاحُ يكونُ بين المُتخاصِمَين من المُسلمين، كما سبق ذكره قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10].
أيها المسلمون: من تصدى للإصلاح بين الناس فعليه أن يخلص نيته لله -تعالى-، ولا يتطلع ثناء الناس وشكرهم؛ فإن هذه المهمة الجليلة مظنة للسؤدد والرفعة والثناء، وقد يدخل الشيطان من خلالها على العبد فيفسد نيته، والله -تعالى- يقول في الإصلاح بين الناس: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
وعليه أن يستعين بالله سبحانه على مهمته، ويسأله تأليف قلبي صاحبيه، وإلانتهما لقبول مبادرته؛ فإن القلوب بيده -عز وجل- يقلبها كيف يشاء، وهو يقربها ويباعدها، ولا عون له في صلحه إلا بالله -تعالى-.
وعلى الساعي بالإصلاح أن يتحرى العدل في صلحه؛ فلا يميل لأحد الخصمين لقوته ونفوذه، أو لإلحاحه وعناده، فيظلم الآخر لحسابه، فيتحول من مصلح إلى ظالم، ولا سيما إذا ارتضاه الخصمان حكما بينهما فمال إلى أحدهما، وقد أمر الله -تعالى- بالعدل بين الخصوم في قوله سبحانه: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) [الحجرات:9] .
ومن فقه المصلح أن يختار الوقت المناسب للصلح، فلا يبادر إلى الصلح عقب التشاتم والتعارك والتقاتل، بل يتربص بقدر ما يسكن الخصمان، ويعودان إلى رشدهما، وتذهب سورة الغضب، وتضعف دواعي الانتقام، فيلقي بمبادرته إليهما.
وعلى المصلح أن يَجِدَّ في قطع الطريق على النمامين ونقلة الكلام الذين يعجبهم أن تسود البغضاء بين الناس؛ فإنهم ينشطون في الأزمات لبث الشائعات، ونقل الكلام، فَيُحَذِّر الخصمين من الاستماع إلى أراجيفهم، ويثبت لهما كذبهم، وما يريدونه من الإفساد والوقيعة بينهما.
وعليه أن يختار من الكلام أحسنه، ويرقق قلبيهما، ويبين لهما حقارة الدنيا وما فيها فلا تستحق أن يتعادى الإخوان من أجلها، ولا أن تقطع القرابة بسببها، ويذكرهما بالموت وما بعده من الحساب، وعليه أن يعظهما بنصوص الكتاب والسنة فإنهما أعظم زاجر للمؤمن، فيذكرهما بأن أعمالهما الصالحة موقوفة عن العرض على الله -تعالى-، وأنه سبحانه يُنْظرُهما إلى أن يصطلحا
والمصلح الناجح هو الذي يسهّل المشكلة على الطرفين، ويكون مع الحقّ
المصلح الناجح يدرك أهمية سعة الصدر واستيعاب الناس وقبولهم وتحمل خشونتهم في تعاملهم، فإن صاحب الحاجة أعمى حتى تقضي حاجته.
المصلح الناجح هو الذي لا يستعجل في طرح الحلول الارتجالية؛ بل يعطي المشكلة عصفًا ذهنيًا، ويستشير أهل الخبرة والاختصاص.
المصلح الناجح الذي يبني الفأل الحسن في قلوب الناس، ويقنعهم بأن الحياة ما زالت فسيحة والبدائل والعوض قائم، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40].
وإياك ـ أخي في الله ـ أن تخرج عن وساطة الخير حتى وإن بدا لك الغبن، فإن الله تعالى يقول: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ[النساء: 128
أخي المسلم اذا كان بينك وبين انسان اخرمشكلة ودعيت للصلح فأجب اياك والاعراض واحذر الكبر والسخرية
فالصلح خير لك من اطالة المشاكل وعواقبها
والصلح خير لك من الشكوى والقضاء
والصلح خير لك من البغضاء والعداوة، والحسد، والغيبة والنميمة، والتجني والظلم، والقيل والقال والإكثار من الكلام على الخصم والطعن فيه،
ومن سعى إليه أخوه بالإصلاح فليقبل منه، وليعنه عليه، وليكن خير الخصمين، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
فكن على يقين -أخي في الله- أنّ قبولك للصلح هو في مصلحتك دنيا وآخرة؛ قال عمر -رضي الله عنه-: "أعقل الناس أعذرهم لهم,
وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "لو أن رجلا شتمني في أذني هذه واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره".
وقد حاز الحسنُ بن علي رضي الله عنهما فضيلةَ حقنِ دماء المسلمين، وأخمد الله تعالى نار الفتنة على يديه، حين صالح معاويةَ رضي الله عنه، وتنازل عن الخلافة له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "إِنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بين فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ من الْمُسْلِمِينَ" رواه البخاري.
ومن سعى بإصلاح ذات البين فإنه يجب على الناس تأييده وتشجيعه بالقول والفعل، ومعونته بما يحتاج من الجاه والمال؛ فإن إصلاح ذات البين يعود على الجميع بالخير والمحبة والألفة، كما أن فساد ذات البين يضر المجتمع عامة بما يسود فيه من الأحقاد والضغائن والجرائم والانتقام.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واسعوا في الصلح بين المتخاصمين من إخوانكم وقرابتكم وجيرانكم وزملائكم؛ فإن في ذلك خيرا عظيما (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
نسأل الله أن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يصلحنا ويُصلح بنا، ونسأله سبحانه أن يصلح لنا قلوبنا، ويهدي لنا نفوسنا، ويصلح لنا أحوالنا.
اللهم ألِّف بين قلوبنا، اللهم أصلح ذات بيننا. اللهم ارزقنا المحبة الصادقة لإخواننا المؤمنين. اللهم اجعلنا من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، واجعلنا يا ربنا من المحسنين.
اللهم ألف بين قلوبنا , وأصلح ذات بيننا , واهدنا سبل السلام , ونجنا من الظلمات إلى النور ,وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن , وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم , واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها علينا يا كريم .
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...
أخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648
أهمية الإصلاح بين الناس
جمع واعداد عبدالوهاب المعبـأ
الحمد لله؛ شرح قلوب من شاء من عباده بالإسلام، وألف بينهم بالإيمان، فكانوا إخوة في الله تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام بإزالة الشحناء من قلوب أصحابه، وملئها محبة ومودة ووئاما (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:63]
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أمر بالصلح بين الناس، ودعا إليه، ورغب فيه، وبين ما رتب عليه من عظيم الأجر والثواب؛ حتى أخبر عليه الصلاة والسلام أن السعي في إصلاح ذات البين أفضل من نوافل الصلاة والصدقة والصيام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وطَيِّبُوا قلوبكم على إخوانكم، ولينوا لهم، واحذروا الخصومة والشحناء فإنها الحالقة التي تحلق الدين (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10 ].
لا ريب أن الشقاق والخلاف من أخطر أسلحة الشيطان الفتاكة الَّتي يوغر بها صدور الخلق ، لينفصلوا بعد اتحاد ، ويتنافروا بعد اتفاق ، ويتعادوا بعد أُخوَّة ، وقد اهتمَّ الإسلام بمسألة احتمال وقوع الخلاف بين المؤمنين وأخذها بعين الاعتبار ؛ وذلك لأن المؤمنين بَشَر يخطئون ويصيبون ، ويعسر أن تتَّفق آراؤهم أو تتوحَّد اتجاهاتهم دائماً ، ولهذا عالج الإسلام مسألة الخلاف على اختلاف مستوياتها بدءاً من مرحلة المشاحنة والمجادلة ، ومروراً بالهجر والتباعد ، وانتهاءً بمرحلة الاعتداء والقتال ، والإسلام دين يتشوّف إلى الصلح ويسعى له وينادي إليه ، وليس ثمة خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة يصلح فيها العبد بين اثنين ويقرب فيها بين قلبين ، فبالإصلاح تكون الطمأنينة والهدوء والاستقرار والأمن وتتفجر ينابيع الألفة والمحبة .
ومَن تأمل في حال المسلمين أفراداً وجماعات وجد كثرة الخصومات والنزاعات والهجر والمقاطعات، حتى بين الأصحاب والجيران والأقارب والإخوان، نعم؛ بين الإخوان في البيت الواحد، وربما بين الوالد وولده والجار وجاره، وقد يكون من أجل الدنيا الدنية؛ ففي البيوت أسرار وخفيات، وفي المحاكم خصومات، وفي مراكز الأمن مشكلات، وفي السجون أزمات ومعضلات، وحوادث في المستشفات. بل وفي المقابر قصص وحكايات
أيها المسلمون؛ لقد منَّ الله علينا بالدين الإسلامي الحنيف، وأرسل إلينا خير خلقه رحمة للعالمين؛ ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين، ويزيل من قلوبهم كل أفكار الجاهلية البغيضة التي تؤدي إلى الشحناء، ويطهِّر نفوسهم من كل أسباب البغضاء؛ ليكونوا إخوانًا متحابين، فإذا وُجد بين بعضهم خصومة وشحناء أمروا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم.
قال الله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: 1] أي: أصلحوا ما بينكم من أحوال الشقاق والفرقة حتى تكون أحوال ألفة ومحبة ليحصلوا على مغفرة ذنوبهم كل أسبوع، كما في الحديث الصحيح؛ قال صلى الله عليه وسلم : ((تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله عز وجل لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء؛ فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا)) سبحان ربي! ما أرحمه بنا! يقول: أنظروا هذين المتخاصمين حتى يتصالحا، ثم أغفر لهما.
أيها الإخوة: لقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين؛ حفاظاً على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم, واعتبر الإصلاحَ من أعظم وأجل الطاعات وأفضل الصدقات، وادخر الله للمصلح الأجر العظيم والثواب الجزيل إذا ابتغى بإصلاحه وجه الله -تعالى-؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ"؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: "صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ". وفي رواية أَنَّهُ قَالَ: "هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ". رواه الترمذي وصححه الألباني.
ومعنى إصلاح ذات البين أي إصلاح ما بين المتخاصمين أو المتهاجرين حتى يزول ما بينهما من البين وهو الفرقة. وفساد ذات البين هي التي تحلق الدين -أي تستأصله وتزيله-
فالاشتغال بالصلح بين المتخاصمين أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات؛ لما في الإصلاح بين الناس من النفع المتعدي الذي يكون سببا في وصل أرحام قطعت، وزيارة إخوان هُجِروا، ونظافة القلوب مما علق بها من أدران الحقد والكراهية، وذلك يؤدي إلى متانة المجتمع وقوته بتآلف أفراده وتماسكهم،
والإصلاح بين الناس معدود في الصدقات بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة" رواه الشيخان. قال النووي -رحمه الله تعالى-: "ومعنى تعدل بينهما تصلح بينهما بالعدل".
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "إِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ". رواه الطبراني والبزار وهو حديث صحيح لغيره كما قاله الألباني -رحمه الله-.
قال الشيخ السعدي: "والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.
وعن أنسٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي أيوب: "ألا أدُلُّكَ على تجارةٍ؟" قال: بلى، قال: "صِلْ بينَ الناسِ إذا تفاسَدُوا، وَقَرِّبْ بينهُمْ إذا تباعدوا" [صحيح الترغيب والترهيب(2818)].
فأين الراغبون في هذه التجارة الرابحة؟
وعن أبي إدريس الخولاني قال: سمعت أبا الدرداء يحلف-والله ما سمعته يحلف قبلها- "ما عمل آدمي عملا خيرا من إصلاح ذات بين".
وقال الأوزاعي -رحمه الله-: "ما خطوة أحب إلى الله -عز وجل- من خطوة في إصلاح ذات البين".
وقال أنس رضي الله عنه: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة (تفسير القرطبي)
وعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَرَادَ فَضْلَ الْعَابِدِينَ فَلْيُصْلِحْ بَيْنَ النَّاسِ
قال محمد بن المنكدر: تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما، فلم أزل بهما حتى اصطلحا، فقال أبو هريرة: من أصلح بين اثنين استوجب ثواب الشهيد .
سبحان الله! لماذا احتل الصلح هذه المنزلة وهذا الأجر العظيم؟ لأنه بالصلح تستجلب المودات، وتعمر البيوتات، وتحفظ به المجتمعات ومن ثم يتفرغ الرجال للبناء والإعمار والإصلاحات، بدلا من إفناء السنوات في المنازعات والكيد والخصومات،على اشياء قد تكون تافهات
يا أهل الفضل والمروءات! ألم تسمعوا لقول الحق -عز وجل-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]، إنه أجر عظيم، من رب كريم، لمن أراد بإصلاحه وجه الله وابتغاء رضاه.
أيها المسلم: إذا علمت أن بين اثنين من إخوانك أو قرابتك أو أرحامك أو أصحابك أو جيرانك شحناء أو قطيعة، فعليك أن تبذل وسعك وغاية جهدك في الإصلاح بينهما، وإياك أن تتكاسل عن هذا العمل الجليل من أجل الاستماع إلى إيحاءات الشيطان، وأقوال المخذولين الذين يقولون: أنت في عافية فلا تكلف نفسك فيما لا شأن لك به، بل عليك – وأنت تقدر على ذلك – أن تسعى لإزالة أسباب التفرق والشحناء بين أخويك، فالصلح خير وذلك رحمة بهما وشفقة عليهما وطمعا في فضل الله ورحمته التي وعدها من أصلح بين الناس، قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
أيها المسلمون: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فلقد كان يسعى بنفسه للصلح بين المتشاحنين مؤكدا بذلك أهمية الإصلاح بين الإخوة المؤمنين، فعن سهل بن سعد أن ناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي في أناس من أصحابه يصلح بينهم حتى أوشك أن تفوته صلاة الجماعة، وفي رواية قال: ((اذهبوا بنا نصلح بينهم)).
عباد الله وقد يحتاج المصلح إلى بعض الكذب ليُقَرِّب بين المتخاصمين، ويزيل ما بينهما من الضغينة، ويهيئ قلبيهما لقبول الصلح والعفو؛ وذلك كأن يخبر أحد الخصمين بأن صاحبه لا يذكره إلا بخير، وأنه متشوف لمصالحته، حريص على قربه ومودته مع عدم حقيقة ذلك، أو يسأله أحد الخصمين إن كان خصمه ذكره بسوء عنده فينفي ذلك مع وقوعه منه، وما قَصَدَ بكذبه إلا إطفاء نار الخصومة، وإزالة أسباب الشحناء، فَرُخِّص له في ذلك مع قبح الكذب، وعموم المنع منه؛ كما جاء في حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرا أو يقول خيرا" متفق عليه.
بل إن المصلح بين الخصمين منهي عن الصدق إذا كان صدقه يشعل نار الفتنة بينهما، ويزيد فرقتهما. والذي ينقل الكلام بين الناس على وجه الإفساد يسمى نماما ولو كان صادقا فيما ينقل، والنميمة من كبائر الذنوب، ولا يدخل الجنة نمام كما جاء في الحديث المتفق عليه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلربما نُهِي المصلح عن الصدق إن كان يضر بمهمته كمصلح بين خصمين، ويُرَخَّصُ له في الكذب إن كان الكذب يؤدي إلى إصلاح ذات البين،
فاتقوا الله أيها المؤمنون وأصلحوا بين إخوانكم عند الإختلاف، وتوسطوا بينهم عند النزاع والبغي، ولا سيما قراباتكم، ولا تتركوهم للشيطان وقرناء السوء يضلونهم عن سواء السبيل، ويهدونهم طريق الجحيم، أصلحوا بينهم تحفظوا لهم دينهم، وتحافظوا على نعمتهم قبل زوالها، وتفوزوا من الله بالأجر العظيم والثواب الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين [سورة الحجرات:9].
الخطبة الثانية
عباد الله: ومن مجالات الإصلاح المحبوبة في دين الله -عز وجل-:الإصلاح الاسري
وقد أمرنا ربّنا أن نُصلحَ بين الزّوجين إذا تنازعا: قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35]، وقال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128].
والإصلاحُ بين الزوجَين يُحافظُ على كِيان الأسرة من التصدُّع ومن الضياع، وتدومُ به الرعايةُ الأُسرية، وتقوَى به الروابطُ بين الزوجَين، وتستمرُّ العِشرة، ويجدُ الأولاد في اجتماع الأبوَين المحضَن الآمِن المُستقرَّ، والمأمَن من الانحِراف، والعطف الأبوِيّ، والنشأة الصالحة.
وإذا ازداد الخلافُ بين الزوجَين، وتُرِك الإصلاح؛ تصدَّعَت الأسرة، وضاع الأولاد، وتعرَّضُوا للفساد والفشل في الحياة بعد الطلاق، وتقطَّعَت علائِقُ الرَّحِم، وتضرَّر الزوجان.
والإصلاحُ يكون أيضًا بين الأقرباء فيما وقع بينهم من خلاف؛ لتتمَّ صِلةُ الأرحام وتدوم، ولئلا تكون قطيعةٌ بين ذوي القَرابة؛ فصِلةُ الأرحام بركةٌ وخيرٌ وفضائل، وسببٌ من أسباب دخول الجنة، ومن أسباب صلاح الدين والدنيا وبركة العُمر.
كما أن قطيعةَ الأرحام شرٌّ وشُؤمٌ في الدنيا والآخرة؛ فكم هناك من خلافات بين الإخوة وأبناءِ العمومة على ميراث وغيره خلافاً أحال الصلةَ إلى قطيعة، والمحبة إلى بغضاءَ وضغينة، والألفةَ إلى فُرقةٍ، والتوقيرَ والتقدير إلى ازدراء،
فإصلاحُ ذات البَين بين الأقرباء من أعظم الحسنات.
والإصلاحُ أيضًا يكونُ بين الجيران؛ لِلوفاء بحقِّ الجار، والقيام بواجباته التي أوجبَها الله؛
وكم هناك من نزاع بين الجيران بسبب نزاع بين الأطفال ربما اصطلحوا بعده، أو بسبب مواقف السيارات أو غيرها من الأسباب التافهة، ونسوا في خِضَمها قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ".
والإصلاحُ يكونُ بين المُتخاصِمَين من المُسلمين، كما سبق ذكره قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10].
أيها المسلمون: من تصدى للإصلاح بين الناس فعليه أن يخلص نيته لله -تعالى-، ولا يتطلع ثناء الناس وشكرهم؛ فإن هذه المهمة الجليلة مظنة للسؤدد والرفعة والثناء، وقد يدخل الشيطان من خلالها على العبد فيفسد نيته، والله -تعالى- يقول في الإصلاح بين الناس: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
وعليه أن يستعين بالله سبحانه على مهمته، ويسأله تأليف قلبي صاحبيه، وإلانتهما لقبول مبادرته؛ فإن القلوب بيده -عز وجل- يقلبها كيف يشاء، وهو يقربها ويباعدها، ولا عون له في صلحه إلا بالله -تعالى-.
وعلى الساعي بالإصلاح أن يتحرى العدل في صلحه؛ فلا يميل لأحد الخصمين لقوته ونفوذه، أو لإلحاحه وعناده، فيظلم الآخر لحسابه، فيتحول من مصلح إلى ظالم، ولا سيما إذا ارتضاه الخصمان حكما بينهما فمال إلى أحدهما، وقد أمر الله -تعالى- بالعدل بين الخصوم في قوله سبحانه: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) [الحجرات:9] .
ومن فقه المصلح أن يختار الوقت المناسب للصلح، فلا يبادر إلى الصلح عقب التشاتم والتعارك والتقاتل، بل يتربص بقدر ما يسكن الخصمان، ويعودان إلى رشدهما، وتذهب سورة الغضب، وتضعف دواعي الانتقام، فيلقي بمبادرته إليهما.
وعلى المصلح أن يَجِدَّ في قطع الطريق على النمامين ونقلة الكلام الذين يعجبهم أن تسود البغضاء بين الناس؛ فإنهم ينشطون في الأزمات لبث الشائعات، ونقل الكلام، فَيُحَذِّر الخصمين من الاستماع إلى أراجيفهم، ويثبت لهما كذبهم، وما يريدونه من الإفساد والوقيعة بينهما.
وعليه أن يختار من الكلام أحسنه، ويرقق قلبيهما، ويبين لهما حقارة الدنيا وما فيها فلا تستحق أن يتعادى الإخوان من أجلها، ولا أن تقطع القرابة بسببها، ويذكرهما بالموت وما بعده من الحساب، وعليه أن يعظهما بنصوص الكتاب والسنة فإنهما أعظم زاجر للمؤمن، فيذكرهما بأن أعمالهما الصالحة موقوفة عن العرض على الله -تعالى-، وأنه سبحانه يُنْظرُهما إلى أن يصطلحا
والمصلح الناجح هو الذي يسهّل المشكلة على الطرفين، ويكون مع الحقّ
المصلح الناجح يدرك أهمية سعة الصدر واستيعاب الناس وقبولهم وتحمل خشونتهم في تعاملهم، فإن صاحب الحاجة أعمى حتى تقضي حاجته.
المصلح الناجح هو الذي لا يستعجل في طرح الحلول الارتجالية؛ بل يعطي المشكلة عصفًا ذهنيًا، ويستشير أهل الخبرة والاختصاص.
المصلح الناجح الذي يبني الفأل الحسن في قلوب الناس، ويقنعهم بأن الحياة ما زالت فسيحة والبدائل والعوض قائم، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40].
وإياك ـ أخي في الله ـ أن تخرج عن وساطة الخير حتى وإن بدا لك الغبن، فإن الله تعالى يقول: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ[النساء: 128
أخي المسلم اذا كان بينك وبين انسان اخرمشكلة ودعيت للصلح فأجب اياك والاعراض واحذر الكبر والسخرية
فالصلح خير لك من اطالة المشاكل وعواقبها
والصلح خير لك من الشكوى والقضاء
والصلح خير لك من البغضاء والعداوة، والحسد، والغيبة والنميمة، والتجني والظلم، والقيل والقال والإكثار من الكلام على الخصم والطعن فيه،
ومن سعى إليه أخوه بالإصلاح فليقبل منه، وليعنه عليه، وليكن خير الخصمين، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
فكن على يقين -أخي في الله- أنّ قبولك للصلح هو في مصلحتك دنيا وآخرة؛ قال عمر -رضي الله عنه-: "أعقل الناس أعذرهم لهم,
وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "لو أن رجلا شتمني في أذني هذه واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره".
وقد حاز الحسنُ بن علي رضي الله عنهما فضيلةَ حقنِ دماء المسلمين، وأخمد الله تعالى نار الفتنة على يديه، حين صالح معاويةَ رضي الله عنه، وتنازل عن الخلافة له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "إِنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بين فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ من الْمُسْلِمِينَ" رواه البخاري.
ومن سعى بإصلاح ذات البين فإنه يجب على الناس تأييده وتشجيعه بالقول والفعل، ومعونته بما يحتاج من الجاه والمال؛ فإن إصلاح ذات البين يعود على الجميع بالخير والمحبة والألفة، كما أن فساد ذات البين يضر المجتمع عامة بما يسود فيه من الأحقاد والضغائن والجرائم والانتقام.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واسعوا في الصلح بين المتخاصمين من إخوانكم وقرابتكم وجيرانكم وزملائكم؛ فإن في ذلك خيرا عظيما (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
نسأل الله أن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يصلحنا ويُصلح بنا، ونسأله سبحانه أن يصلح لنا قلوبنا، ويهدي لنا نفوسنا، ويصلح لنا أحوالنا.
اللهم ألِّف بين قلوبنا، اللهم أصلح ذات بيننا. اللهم ارزقنا المحبة الصادقة لإخواننا المؤمنين. اللهم اجعلنا من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، واجعلنا يا ربنا من المحسنين.
اللهم ألف بين قلوبنا , وأصلح ذات بيننا , واهدنا سبل السلام , ونجنا من الظلمات إلى النور ,وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن , وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم , واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها علينا يا كريم .
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...
أخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648