خطبة الجمة القادمة ( الشوق والحنين إلى النبي الأمين)

                                                                الشوق والحنين إلى النبي الأمين

                                                          للشيخ أبوزيد السيد عبد السلام رزق الأزهري

الْحَمْدُ للَّهِ الْوَاحِدِ الْمَاجِدِ الْعَظِيمِ، الْقَدِيرِ الْبَصِيرِ النَّصِيرِ الْحَلِيمِ، الْقَوِيِّ الْعَلِيِّ الْغَنِيِّ الْحَكِيمِ، قَضَى فَأَسْقَمَ الصَّحِيحَ وَعَافَى السَّقِيمَ. قَسَمَ عِبَادَهُ قِسْمَيْنِ: طَائِعٌ وَأَثِيمٌ، وَجَعَلَ مَآلَهُمْ إِلَى دَارَيْنِ: دَارِ النَّعِيمِ وَدَارِ الْجَحِيمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَهُ مِنَ الْخَطَايَا كَأَنَّهُ فِي حَريِمٍ، ومِنْهُمْ مَنْ قَضَى لَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى الذُّنُوبِ وَيُقِيمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ وَالْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ، خَرَجَ مُوسَى رَاعِيًا فعاد وَهُوَ الْكَلِيمُ، وَذَهَبَ ذُو النُّونِ مُغَاضِبًا فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مليِم، وَكَانَ مُحَمَّدٌ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَتِيمًا فَكَانَ الْكَوْنُ لِذَلِكَ الْيَتِيمِ، وَعَصَى آدَمُ وَإِبْلِيسُ فَهَذَا مَرْحُومٌ وَهَذَا رَجِيمٌ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِنَيْلِ الْمَمَالِكِ أَوْ رَأَيْتَ وُقُوعَ الْمَهَالِكِ، فَقُلْ: ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت آية 12] وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَ اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ولا شيء مثلُه، ولا شيء يعجزُه، ولا إلهَ غيرُه، أولٌ بلاَ إبتداء دائمٌ بلا َانتهاء لايفنى ولا يبيدُ،ولا يكونُ إلا مايريد، لا تبلغُه الأوهامُ ولا تدركُه الأفهامُ، ولا يشبهُ الأنامَ، حيٌّ لا يموت، قيومٌ لا ينامُ، وأشهدُ أنَ محمداً عبدهُ ورسولهُ وصفيهُ منْ خلقهِ وحبيبهُ وخليِلُه صلىَ عليهِ صلَّى عليه بارئُ العباد، ما جرت الأقلام بالمداد، وأمطرت سحبٌ وسال وادِ وآله وصحبه ومن سلك سبيلهم ما دار نجم في فلك أما بعد :

عباد الله قلبوا في صفحات التاريخ والله لن تجدوا في كتب التاريخ والسير اسم رجل يداني أو يضاهي رسول الله صلي الله عليه وسلم في كمال خلقه وعظمة شخصيته ،وباهر وفائه بفضله إعترف الأعداء ما جحدوا ،إذ عجزوا عن العثور علي جانب نقص في سيرته ، يقول مستشرق لم يملك نفسه أمام تلك العظمة " ما أحوجنا اليوم إلي رجل كمحمد يحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجان قهوة "فرسول الله أفضل الخلق من لدن أدم إلي قيام الساعة في مسند أحمد بسند صححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ، فَاصْطَفَاهُ لِنُبُوَّتِهِ ، وَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ ) إنه رسول الله خير من طلعت عليه الشمس شهد بذلك النقل والعقل والحس واليوم والأمس والإشارة والهمس فدته نفسي وتفديه أعاديه بل كل ما فوق ظهر الأرض يفديه هو الرأس المقدم والإمام أضاء الصبح في يمين وشام لذي عينين وأنقطع الكلام ،صلي عليك الله يا نور الهدي ما دارت الأفلاك والأجرام ، صلي الله عليك الله يا خير الوري ما مرت الساعات والأيام ازداد الشوق يا رسول الله إلى نبعك الصافي وذوقك السليم الرفيع وذكائك المفرط وعقلك الزائد وأدبك الجم وهمتك العالية وحكمتك الناضجة ورحمتك الواسعة وخلقك العظيم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وإليكم أخبار المشتاقين

                                                                   شوق الصحابة للحبيب النبي

وقد اشتاق الصحابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته وبعد مماته، وأحبوه حباً لم يعرف التاريخ مثله، حتى قال أنس  : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْبِلُ وَمَا عَلَى الْأَرْضِ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْهُ ، وقال علي رضي الله عنه : كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ  . (الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (2/22). وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه "وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ " [مسلم: 121]

ثوبان وشوقه إلى النبي العدنان   تأملوا معي هذا الحديث لتعلموا كيف كان شوق الصحابة لرسول الله صلوات الله تعالي عليه  روي في السير بسند صحيح بشواهده أنَ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلَ الصَّبْرِ حَتَّى تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ وَعُرِفَ الْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا غَيَّرَ لَوْنَك فَقَالَ مَا بِي مَرَضٌ وَلَا وَجَعٌ إلَّا إنِّي إذَا لَمْ أَرَك اسْتَوْحَشْت وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاك ثُمَّ إنِّي إذَا ذَكَرْت الْآخِرَةَ أَخَافُ أَنْ لَا أَرَاك وَأَنَّك تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَأَنِّي وَإِنْ دَخَلْت الْجَنَّةَ كُنْت أَدْنَى مَنْزِلَةً فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ  {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }.

ذو البجادين وشوقه إلى سيد الثقلين  ذو البجادين تربى في حجر عمه، فنازعته نفسه إلى الإسلام، فقال: يا عم كنت أنتظر سلامتك بإسلامك فلا أراك تريد محمداً فأذن لي في الإسلام ،فقال: والله لئن أسلمت لأنتزعن كل ما أعطيتك حتى ثوبيك! فصاح لسان عزيمته: نظرة من محمد عليه الصلاة والسلام أحب إلي من الدنيا وما فيها ،فجرده عمُه من كل شيء حتى الثياب، فناولته أمه بجادًا لها، فقطعه نصفين، فاتزر نصفًا وارتدى نصفًا. وأتى رسول الله، فقال: ما اسمك ؟ قال: عبد العزى ، فقال: بل عبد الله ذو البجادين". اللطائف (1/8) صفة الصفوة (1/678) وحلية الأولياء (1/365).

                                                                     شوق التابعين إلى الصادق الأمين

جاء عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى أنه سئل عن حديث وهو مضطجع في مرضه فجلس وحدث به، فقيل له: وددت أنك لم تتعن فقال: كرهت أن أحدث عن رسول الله وأنا مضطجع ، و قال مالك:« حجّ [أيوب السختياني] حجتين، فكنت أرمقه، ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم، بكى حتى أرحمه ، فلما رأيت منه ما رأيت ، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه ». سير أعلام النبلاء (6/17).

ومن أعجب شيء يروى في شوق التابعين لرسول الله وإكرامهم له  ما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لما امتحن في فتنة خلق القرآن، وتعاقب ثلاثة من خلفاء بني العباس المأمون والمعتصم والواثق على امتحانه وسجنه في ذلك، وهو ثابت على الحق لم يغير ولم يبدل، وحمل رحمه الله تعالى إلى مجلس الواثق مقيدا في أغلاله، وناظرهم وهو على تلك الحال فخصمهم، وقطع حجتهم، وأبطل مكيدتهم، وفتح الله تعالى على قلب الخليفة الواثق فعلم صدق الإمام أحمد، وكونه على الحق، فأمر أن يفك قيده، ففك وأخذه الإمام أحمد، فنازعه إياه السجان، فأمر الواثق أن يدفع القيد إلى الإمام فدفع إليه، فسأله الواثق عن سبب أخذه، فأخبره أنه ينوي به أن يخاصم به من ظلموه عند الله تعالى يوم القيامة وقال رحمه الله تعالى: أقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيَّدني وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي، وبكى الإمام أحمد فبكى الواثق وبكى من في المجلس، ثم سأله الواثق أن يجعله في حلٍ وسعة مما ناله على يديه فقال له الإمام أحمد رحمه الله تعالى: والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم؛ إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كنت رجلا من أهله).

الركب العراقي يشتاق للحبيب النبي  خرج الركب العراقي حاجّاً في سنة 394هـ ، فلما فرغوا من الحج عزم أميرهم على العود سريعاً إلى بغداد وأن لا يقصدوا المدينة النبوية خوفاً من سرّاق الحجيج، فقام شابان قارئان على جادة الطريق التي منها يُعدل إلى المدينة النبوية – عند المفرق - ، وقرآ :{مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ}(التوبة : 120) فضج الناس بالبكاء، وأمالت النوق أعناقها نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والأمير إلى المدينة فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم» تاريخ ابن كثير (11/334)

 

                                                شوق الجمادات إلى سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم

في سنن الدارمي بإسناد جيد عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النبي ( كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى جِذْعٍ مَنْصُوبٍ فِي الْمَسْجِدِ فَيَخْطُبُ النَّاسَ فَجَاءَهُ ،رُومِيُ فَقَالَ أَلاَ أَصْنَعُ لَكَ شَيْئاً تَقْعُدُ عَلَيْهِ وَكَأَنَّكَ قَائِمٌ فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَراً لَهُ دَرَجَتَانِ وَيَقْعُدُ عَلَى الثَّالِثَةِ فَلَمَّا قَعَدَ نَبِيُ اللَّهِ ( عَلَى ذَلِكَ الْمِنْبَرِ خَارَ الْجِذْعُ كَخُوَارِ الثَّوْرِ حَتَّى ارْتَجَّ الْمَسْجِدُ حُزْناً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [وفي رِوَايَة: فَصَاحَتْ النَّخْلَة صِيَاح الصَّبِيّ] [فَسَمِعُوا مِنْ حَنِينهَا حَتَّى كَثُرَ بُكَاؤُهُمْ ] ( فَنَزَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْمِنْبَرِ فَالْتَزَمَهُ وَهُوَ يَخُورُ فَلَمَّا الْتَزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَكَتَ ثُمَّ قَالَ « أَمَا وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ لَمَا زَالَ هَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »  حُزْناً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ  فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدُفِنَ  ) (قال الألباني إسناده جيد السلسلة الصحيحة 5/ 2174). كَانَ الْحَسَن البصري إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيث بكى وقال: يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ الْخَشَبَة تَحِنّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ فَأَنْتُمْ أَحَقّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَيْهِ . صحيح الجامع (2256) .

وفي صحيح بن ماجه عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ فلما اتخذ المنبر ذهب إلى المنبر فَحَنَّ الْجِذْعُ فَاحْتَضَنَهُ فسكن فقَالَ لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ  ) . (الصحيحة 2174 ) ( الحنين : صوت كالأنين ويكون عند الشوق وتوصف به الإبل ) سيدي يا رسول الله

ربَّاكَ ربُّكَ.. جلَّ من ربَّاكا  *** ورعاكَ في كنفِ الهدى وحماكا

سبحانه أعطاك فيضَ فضائلٍ  *** لم يُعْطها في العالمين سواكا

سوّاك في خلقٍ عظيمٍ وارتقى  *** فيك الجمالُ.. فجلّ من سوَّاكا

اللهُ أرسلكم إلينا رحمةً  *** ما ضلَّ من تَبِعتْ خطاه خُطاكا

كنّا حيارى في الظلامِ فأشْرقتْ  *** شمسُ الهدايةِ يومَ لاحَ سناكا

كنّا وربي غارقين بغيِّنا  *** حتى ربطنا حَبْلَنا بعُراكا

لولاك كنا ساجدين لصخرةٍ  *** أو كوكبٍ.. لا نعرفُ الإشراكا

لولاك لم نعبدْ إلـهًا واحدًا  *** حتى هدانا اللهُ يومَ هداكا

أنتَ الذي حنَّ الجمادُ لعطفهِ  *** وشكا لك الحيوانُ يومَ رآكا

والجذعُ يُسمعُ بالحنين أنينُه  *** وبكاؤُه شوقًا إلى لُقياكا

ماذا يزيدُك مدحُنا وثناؤُنا  *** واللهُ في القرآنِ قد زكّاكا؟!

جبل أحد يحب النبي ويشتاق إليه  أخرج البخاري في صحيحه عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ) فهذا الجبل الصامد احب رسول الله صلى الله عليه وسلم  لأن الله قد غرس فيه حب المصطفى وكما يقول الشيخ المحدث الدكتور/ خليل ملا خاطر "ومن نظر الى جبل احد لايجد فيه  - من حيث الظاهر – ما يفرقه عن غيره من الجبال، بل قد يكون دون غيره بكثير، فلا شجر ولا ماء  ولا خضرة لديه، لذا قل أن يثير ما يحب لأجله. فلما غرس الله سبحانه وتعالى فيه محبة النبي صلى الله عليه وسلم، بادله النبي صلى الله عليه وسلم  نفس الحب والشوق.

كما أن في هذا النص إظهارا لمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث غرس الله سبحانه وتعالى في الجمادات حبه، والشوق اليه.. مع ما في الجبال من يبوسة وفظاظة وقوة وصلابة وكثافة.     

                                               شوق الشجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند قال عنه الألباني في المشكاة في الجزء الثالث حديث رقم (5922 ) قال صحيح لشواهده عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ رَأَيْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ـ وعد منها ـ قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْ شَجَرَةٌ تَشُقُّ الْأَرْضَ حَتَّى غَشِيَتْهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: «هِيَ شَجَرَةٌ اسْتَأْذَنَتْ رَبَّهَا فِي أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ لَهَا»

أخرج البيهقي بسند صححه الألباني في صحيح السيرة النبوية عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي ( بِمَكَّةَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَرَرْنَا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ فَلَمْ نَمُرَّ بِشَجَرَةٍ وَلاَ جَبَلٍ إِلاَّ قَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ )

                                                                            شوق العجماوات إلى رسول الله

لما أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية لينحر الهدي في حجة الوداع، تسابقت الإبل والنوق بين يديه أيها ينحر أولاً بين يديه، وكأن الموت بين يديه حياة، فالإبل تسارع بين يدي رسول الله لتنال شرف الذبح بين يديه صلى الله عليه وسلم، هذا هو شوق العجماوات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين شوقكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!أخرج الإمام أحمد بسند صححه الألباني والذهبي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرْطٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ " ـ يوم القر هو اليوم الثاني الذي يلي يوم النحر، لأن النَّاس يقرون فيه بمنى بعد أن فرغوا من طواف الإفاضة والنحرـ . وَقُرِّبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ بَدَنَاتٍ أَوْ سِتٌّ يَنْحَرُهُنَّ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ، أَيَّتُهُنَّ يَبْدَأُ بِهَا، فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا، قَالَ كَلِمَةً خَفِيَّةً ـ أي خفيفة ـ  لَمْ أَفْهَمْهَا، فَسَأَلْتُ بَعْضَ مَنْ يَلِينِي: مَا قَالَ ؟ قَالُوا: قَالَ: " مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ "

وذكر بن كثير في البداية والنهاية بإسناد جيد وكَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يسقون عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ، فجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه -مساكين محتاجين لهذا-، فَقَام معهم حتى أتى الجمل، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: إِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ، فَقَالَ: ((لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ)). فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ ) . ال ابن كثير في البداية والنهاية (6/155) : إسناده جيد .

سبحان الله هذا الرب الكريم الذي أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمه وكرمه ورفع شأنه وحببه الى خلقه.. إلى كل خلقه من بشر وشجر وحجر وحيوان كلهم أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله.. حتى أن بعضهم من الحب سبح بين يديه، والبعض سلم عليه، والبعض الآخر سجد بين يديه.

                                                       هل اشتقنا لرسول الله كما اشتاق هو إلينا

إن القرن الفاضل من هذه الأمة هو قرن الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم. ويجيء من بعدِهم سابقون مقربون، وأولياء ربانيون، وشهداء وصالحون، وعلماء مربون ناصحون، وقائمون لله بالقسط من خيار أمة المصطفى لا يخلو منهم زمان ولا مكان، رغم بُعدِ الزمان وطول العهد، وهؤلاء حنَّ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتاق لرؤيتهم واعتبرهم إخوانا له، وتمنى اللقاء بهم، وبشرّهم بأنه سيسبقهم إلى حوضه وينتظرهم هناك ليسقيَهم منه في صحيح مسلم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: “السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ووَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا ” قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” بَلْ أَنْتُمْ أَصْحابِي، وَإِخْوَانُنَا لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ “، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ ” فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ” فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ ) .

أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه سيكون من بعده من أمته محبون مشتاقون إليه، ومن شدة حبهم لنبيهم لا ُيبالون لو أنفقوا كل أموالهم وافتَدَوْا بأهلهم مقابل رؤيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قابَلوا شوق الرسول إليهم بشوق هائج إليه من وراء جدران الزمان والحواجز. أخرج الإمام مسلم في صحيحة عن أبي  هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ وَلاَ يَرَانِي ثُمَّ لأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ » قال العراقي في طرح التثريب " أي: (( يَأْتِي عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ لأَنْ يَرَانِي فِيهِ لَحْظَةً ثُمَّ لَا يَرَانِي بَعْدَهَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ جَمِيعًا )) .

وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِى لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِى بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ ».

محبون عاشقون ملأ الشوق قلوبهم، وتحققت لهم المحبة الكاملة الفاعلة للرسول صلى الله عليه وسلم، لا يكتحل لهم جفن إلا بالنظر إلى محياه والجلوس معه، نالوا هذه المنزلة بعظيم حبهم لصاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم وبتذكُّرهم له دائمًا وتمنِّيهم رؤيته والشوق إلى لقياه والكينونة معه في الجنة، رُغم عدم رؤيتهم له في الدنيا .هو القائل صلوات الله تعالى عليه  ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) البخاري (6632).

ألا فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، واعرفوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم حقه، ووقروه وعزروه، وعظموا سنته، واحفظوا له مكانته، وأنزلوه منزلته التي أنزله الله تعالى إياها بلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو وتقصير، واقرؤوا سيرته، وتزودوا من حديثه، وأطيعوا أوامره، واجتنبوا زواجره؛ فإن محبة الله تعالى تنال بذلك ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 31، 32].

                                                       هذا وصلى الله على البشير النذير والسراج المنير

 

المشاهدات 7819 | التعليقات 0