خطبة : البركة - بفتح الباء والراء - يـــــــاجمــــاعــة :)

حاطب خير
1436/06/06 - 2015/03/26 08:35AM
بسم الله الرحمن الرحيم
البَرَكة
عباد الله إنَّنا نعيشُ في زَمنٍ بَلغَت فيه الحضارةُ المادّية أَوجَهَا ، غير أنّ هذه الحضارةَ لم تجعَلِ المرء الذي يُعايِشها أسعَدَ من المرء في أزمانٍ سابقة، ولم تجعله أهنَأ من غيره، ولا أكثر أمنًا ولا أشرَح صدرًا مما مضى.
وما ذلكم ـ عباد الله ـ إلا لغياب أمرٍ يُعدُّ غاية في الأهمية، ليس للحياةِ معنى بدونه، فما هو هذا الغائبُ الذي يستحقّ هذه الإشادَة ؟

إنّه ـ يا عباد الله ـ حلولُ البركة ، البركة هي النّماء والزِّيادة وكثرة الخير ودوامه، والخير كلُّه من الله وإليه والله سبحانَه وتعالى تبارَك في ذاتِه، ويباركُ فيمن شَاءَ من خلقِه،
قالَ الله تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
والله تعالى برَحمته يأتي بالخيرَات، وبفضَله يضاعِف البركات،

والقرآنُ العظيم ، كتابٌ مبارَك كثيرُ الخيراتِ ، أنزله الله رحمة وشِفاءً وبيانًا وهُدى،
قال تعالى: ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )
والرّسُل مبارَكون ، قال عيسَى عليه السلام: ( وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ )
وألقَى الله البركةَ على إبراهيمَ عليه السلام وآله، قالَ تعالى: (وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيًّا مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ وَبَـٰرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَـٰقَ )

و اصطَفى الله مِن الدّهرِ أزمنةً، ومِن البقاعِ أمكنَة، خصّها بالتَّشريف والبرَكة،
فبيتُ الله الحرامِ مبارَك قال الله تعال : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَـٰلَمِينَ )
ومدينةُ المصطَفى مدينةٌ مبارَكة، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ :
" اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ "متفق عليه،
وبارك سبحانه في المسجد الأقصى وما حوله فقال تعالى:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)
وبارك سبحانه في أرض الشام، قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}

وليلةُ القدر ليلةٌ مباركة ،قال الله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰارَكَةٍ )
و ماء المطر ماء مبارك ، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا}
وبارك في شجرة الزيتون، قال تعالى: ( يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ)
والزوجَةُ المبارَكة هِي المطيعةُ لله القائمةُ بحقوق زوجها.
والولدُ المبارَك هو النّاشئ على طاعةِ ربِّه، المستمسِك بسنّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
والرجلُ المبارَك هوَ الذي يُنتفَع به حيثُما حلّ،

وإذا قرُبَ العبد من ربّه بورِك في وقتِه وعمِل أعمالاً كثيرةً في زمنٍ يسير. عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا»؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً»؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا»؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا»؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .أخرجه مسلم .
وخير الصُّحبةِ صُحبةُ الصّالحين، وأزكى المجالسِ مجالسُ الذّكر، تحضرُها الملائكة، ويُغفَر لجليسها،
((فتقول الملائكة لربّها: فيهم فلانٌ ليسَ مِنهم، وإنما جاءَ لحاجةٍ) فيقول الله تبارك وتعالى :
(همُ الجلساءُ لا يشقَى بهم جليسُهم)) متفق عليه.
"وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم، مثل القرآن الكريم فمن بركته هدايته للقلوب، وشفاؤه لأمراض القلوب، ولأمراض الأبدان،

الثاني: أن يكون التبرك بأمر غير مشروع، كالتبرك بالأشجار والأحجار والقبور والقباب والبقاع ونحو ذلك،
فإن اعتقد أنها تمنح البركة بذاتها، ؛ فذلك شرك أكبر.
وإن اعتقد أنها سبب لحصول البركة من الله، كمن يتمسح بمقام إبراهيم عليه السلام أو حِجْر إسماعيل عليه السلام أو بالصالحين فذلك شرك أصغر
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ ، وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكِفُونَ عِنْدَهَا وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا : ذَاتُ أَنْوَاطٍ ،
قَالَ : فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
(قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى : ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) ، إِنَّهَا السُّنَنُ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ )رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح

- قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء أو بعض الصالحين تبركاً بتلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله.وقال: مِثْل مَن يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غار ثور ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه من الأمكنة أو الجبال التي يقال عنها: إنها مقامات الأنبياء، فلا شك أن هذا الرجل قد وقع فيما نهى الله ورسوله عنه"

-وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :
لا يجوز التبرك بأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بوضوئه ولا بشعره ولا بعرقه ولا بشيء من جسده، بل هذا كله خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جعل الله في جسده وما مسه من الخير والبركة.
ولهذا لم يتبرك الصحابة رضي الله عنهم بأحد منهم، لا في حياته ولا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا مع الخلفاء الراشدين ولا مع غيرهم
فدل ذلك على أنهم قد عرفوا أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، ولأن ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله سبحانه "
بارَك الله لي ولكُم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم


الخطبة الثانية

عباد الله اتقوا الله واعلموا أن تحصيلِ البركةِ يكون بأسباب :

أولها:الإيمانُ والتقوى فقد قال تعالى: ( ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ )

وثانيها: الشكرُ على الرّزق؛ قال الله تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )

وثالثُها: البذلِ والعطاءِ في الخيرات، قال تعالى :
(ومَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْك) متفق عليه ،

ورابع الأسباب: القَصدُ وعدَم الإسراف المذموم؛ فأوفرُ الزَّوجاتِ بركةً ما قلّت المؤونةُ في نكاحها، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه ، قَالَ :
قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ )أخرجه ابن حبان وغيره بسند صحيح .

وخامسُ الأسباب : يكون في الصدق عن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا ، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) متفق عليه.

ومن الأسباب عبادَ الله: الدعاءُ واللّجوء إليه؛ فإنّه سببٌ من أسباب البركة ،

وفي صِلةِ الرحِم بركةُ في الرزق والعمُر ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :
( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ) متفق عليه

وآخرُ هذه الأسباب عباد الله: هي القناعة المتمكّنة من قلبِ المؤمن، وقد فسَّر بعضُ أهلِ العلم قول الله تعالى:
(فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قالوا: هي القناعة
عن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ,
ثُمَّ قَالَ : يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ)متفق عليه

المشاهدات 3065 | التعليقات 1

هذه بعض النقولات في مسودة الخطبة حذفتها اختصار :

( تَبَـارَكَ ): "عظم وكثر خيره وإحسانه إلى خلقه
قال ابن عطية معناه عظم وكثرت بركاته ولا يوصف بهذه اللفظة إلا الله سبحانه وتعالى
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي –اعلم أن قوله : ( تَبَـارَكَ ) هو مما يختصّ باللَّه تعالىٰ ، فلا يقال لغيره " تبارك " " أضواء البيان "

وليسَت سَعةُ الرّزق والعَملِ بكثرته، ولا زيادةُ العمر بتعاقُب الشهور والأعوام، ولكن سعةُ الرزقِ والعمُر بالبركة فيه.

بالعمَل المبارَك يُكتسَب المسلم الذّكرُ الجميل في الحياة وجزيلُ الثوابِ في الآخرة، وبالعمل المبارك طهارةُ القلبِ وزكاةُ النفس.

وسيّد المياه وأنفعُها وأبركُها ماءُ زمزم، قال عليهِ الصّلاة والسلام: ((إنها مبارَكة، إنها طَعامُ طُعم)) رواه مسلم

والبركةُ يتحرّاها العَبدُ في مَأكلِه في يومِه وليلتِه، فالطّعامُ المبارَك ما أكلتَه ممّا يليك، وتجنّبتَ الأكلَ من وسطِ الصحفَة، وذكرتَ اسمَ الله عليه، قال عليهِ الصلاة والسلام: ((البركةُ تنزل وسطَ الطّعام، فكُلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وَسطه)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".

وأمَر رسول الله بلَعقِ الأصَابعِ والصّحفة بعدَ الفراغ من الطعام رجاءَ البركة، وقال: ((إنّكم لا تَدرون في أيِّها البركَة)) رواه مسلم.

وتحيّة المسلمِين بينهم عندَ اللّقاء طلبُ السّلام والرّحمة والبركة.وإذا دَخل ربُّ الأسرةِ دارَه شُرِع إفشاءُ السلام على أهله رجاءَ البركة
قال الله تعالى : (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)

ولا يُنال ما عندَ الله إلا بطاعتِه، والسعادةُ في القربِ منَ الله، وبالإكثارِ من الطاعات تحُلّ البركات، وبالرّجوع إليه تتفتّح لك أبوابُ الأرزاق.

وللمَعصيةِ أعظمُ تأثيرٍ في محقِ بركةِ المالِ والعُمُر والعلم والعمَل، يقولُ النبيّ : ((وإنّ العبدَ ليُحرَم الرزقَ بالذنبِ يصيبه)) رواه ابن ماجه،

قال ابن القيّم رحمه الله: "وبالجملةِ فالمعصيةُ تمحَق بركةَ الدين والدنيا ممّن عصى الله، فلا تجد بركةً في عمُره ودينِه ودنياه".