خطبة الاستسقاء ( 1 )
غازي بن طامي بن حماد الحكمي
الحمد لله، تعاظم ملكوتهُ فاقتدر، وتعالى جبروتهُ فقهر، رفعَ وخفضَ وأعزَ ونصرَ، وهو العليمُ بما بطنَ وما ظهرَ، أحمدُهُ سبحانَهُ وأشكرُهُ، وأتوبُ إليهِ وأستغفرُهُ، أحلَّ الحلالَ وبيّنَ طريقَهُ وبالطيباتِ أمرَ، وحرَّم الحرامَ وأوضحَ سبيلَهُ وعن الخبائثِ زجرَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المؤيدُ بالمعجزاتِ والآياتِ والسورِ، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبة السادة الغرر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبرٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما ليلٌ أدبر وصبحٌ أسفر
أما بعد
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، فهي وصيته جل وعلا للأولين والآخرين كما قال رب العالمين: ) وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله َ(. فاتقوا الله في السر والعلن، فبالتقوى تُستنزل البركات وتجلب الرحمات وتفرج الكربات وتُستجلى العقبات وتستدفع العقوبات، ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(، ويقول سبحانه: ) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا( .
عباد الله
لقد مضى من سنة الله جل في علاه مع عباده وأوليائه أن يبتليهم بنزول بعض ما يكرهون في حياتهم؛ في أمنهم وفي عيشهم ومطعمهم ومشربهم وأموالهم وصحّتهم واجتماعهم بأحبتهم، كما مضى من سنته سبحانه أن يزيد في بلائه لهم كلما زاد إيمانهم وارتفعت عنده منزلتهم، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: ((الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)).
وأيضا مضى من سنتِهِ سبحانه وعدلِهِ أن يعاقب من عبادِهِ من غفلَ عنه وصدّ عنه، وتزداد العقوبة مع زيادة البعد، وتشتدُ في حالِ الجهرِ بالمعصيةِ وإظهارِ عدمِ الخوفِ منه جل وعلا، وفي هذا قال عمر بن عبد العزيزرحمه الله [ كان يقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم ]. نسأل الله العافية من سخطه وغضبه.
ربُّنا الرحيم الرحمن أعلمُ بخلقه، يعلم عجزَهم وضعفَهم، ويعلم نقصَهم وتقصيرَهم، فتَح لهم بمنّه وكرمه بابَ الرجاء في عفوِه والطمع في رحمته والأمل في مرضاته ومغفرته، دعاهم إلى ساحةِ جوده وكرمه، ) وَٱللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ( [البقرة:221]، وفي الحديث القدسي: (( يا عبادي، إنكم تخطئون باليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم )) أخرجه مسلم من حديث أبي ذر t. ، ) أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( [النور:22].
رحمةٌ من ربّكم فيّاضة لا ينقطع مددُها، ونعمةٌ من عنده دفّاقة لا يضعُف سببُها، من ذا الذي يتألَّى على الله أن لا يغفر ذنوبَ عباده؟! ) وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ( [آل عمران:135].
ومن منَّة الله الكبرى وفضله العظيم أن يدعوَ عبادَه لعفوه ومغفرته، ثمَّ يُتبعها بمنةٍ أخرى، يؤخِّرُهم إلى مهلة يراجعون فيها أنفسَهم، ويتدبَّرون فيها أحوالهم، ) يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّـى ( [إبراهيم:10].
الذنوب ـ يا عباد الله ـ مغفورةٌ ولو كانت مثلَ زَبَد البحر، فلا يقنَطنّ عبدٌ من رحمة الله، ومن عظمت ذنوبُه وكثرت آثامه فليعلمْ أنَّ رحمةَ الله ومغفرتَه أعظمُ وأعظم.
والتقصير من شأن البشر، فإن نبيكم محمداً r يقول في الحديث الصحيح: (( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يُذنبون ثم يستغفرون، فيغفر لهم )) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة t .
سبحانك ربَّنا، جلّ شأنك، تباركت وتعاليت، أنت غفارُ الذنوب، وساترُ العيوب، تبسط يدَك بالليل ليتوبَ مسيء النهار، وتبسط يدَك بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، وتنادي عبادَك ولك الحمد: ) وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( [النور:31].
قولوا كما قال الأبوان عليهما السلام: ) رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ( [الأعراف:23]، وقولوا كما قال موسى عليه السلام: ) رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَٱغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ( [القصص:16].
وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: ) لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ( [الأنبياء:87].
وفي الحديث القدسي: ((يقول الله تعالى: يَا ابنَ آدم، إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كانَ مِنك ولا أبالي. يا ابن آدَم، لو بلغَت ذنوبُك عنانَ السماء ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لك ولا أبالي. يا ابنَ آدم، إنَّك لو أتَيتني بقرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئاً لأتيتُك بقرابِها مغفرةً)) رواه الترمذي من حديث أنس t وحسنه الألباني.
أيها الإخوة، إذا كثُر الاستغفار في الأمة وصدَر عن قلوبٍ بربّها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرَف عنها صنوفًا من البلايا والمحن، ) وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( [الأنفال:33]، روى الترمذي من حديث أبي موسى رضي الله عنه يرفعه إلى النبي r أنه قال: ((أنزل الله على أمّتي أمانين))، فذكر الآية: ) وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( ، قال: ((فإذا مضيتُ تركتُ فيهم الاستغفار)). بالاستغفار تتنزَّل الرحمات، ) لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [النمل:4].
أيهعباد الله
المستغفرون يمتِّعهم ربّهم متاعاً حسناً من سعةِ الرزق وبسطِ الأمن ومدِّ العافيَة ورغَد العيش والقناعَة بالموجود وعدَم الحزن على المفقود. بالاستغفار يبلُغ كلُّ ذي منزل منزلته، وينال كلُّ ذي فضل فضلَه، اقرؤوا إن شئتم في خبر نبيّكم محمد r : ) وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ( [هود:3].
في الاستغفار ـ بإذن الله ـ الفرجُ من كلّ همّ، والمخرجُ من كلِّ ضيق، ورزقُ العبد من حيث لا يحتَسب.
إن الاستغفارَ الحقَّ صدقٌ في العزم على ترك الذنب، والإنابةُ بالقلوب إلى علامِ الغيوب. إن الخيرَ كلّه معلّق بصلاح القلوب وقبُول الإيمان، وحينئذ يأتي الغفران، ) إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( [الأنفال:70].
عبادَ الله، إنَّ اللهَ عزّ وجلّ يبتلِي عبادَه بالجَدب وقلَّة الأمطارِ ليتوبوا إليه ويرجِعوا إليه ويتقرَّبوا بالأعمال الصالحة لديه، فتوبوا ـ عبادَ الله ـ إلى ربّكم توبةً نصوحاً، فقد ذمّ الله مَن لا يستكين له عندَ الشدائِد ولا يلتجِئ إليه في طلبِ جميل العوائد، يقول سبحانه: ) وَلَقَدْ أَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ( [المؤمنون:76].
ألا فابتهِلوا إلى ربّكم وتضرَّعوا إليه فقَد أمرَكم بذلك ووعدَكم الإجابةَ، يقول سبحانه: ) ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ( [الأعراف:55، 56]، ويقول سبحانه: ) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ( [البقرة:186]، وقال سبحانه: ) أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء ٱلأرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ( [النمل:62]،
فتضرَّعوا ـ عبادَ الله ـ إلى ربّكم، وألحُّوا في الدعاء، فإنَّ الله يحبّ الملحِّين في الدّعاء.
اللهمَّ إنَّك أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم إنّك أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنّك أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهمَّ أسقِنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً طبَقاً مجلِّلاً سحًّا عامًّا، نافعاً غيرَ ضار، عاجلاً غيرَ آجِل، اللهمَّ تحيي به البلاد، وتغيث به العبادَ، وتجعَله بلاغاً للحاضِر والباد، اللهم سُقيا رحمةٍ لا سقيا عذاب ولا بلاءٍ ولا هدم ولا غرق.
اللهم أسقِ عبادَك وبلادَك، وانشُر رحمتَك، وأحيِ بلدَك الميّت. اللهم أنبِت لنا الزرعَ، وأدرَّ لنا الضّرع، وأنزِل علينا من بركاتِك، واجعَل ما أنزلتَه علينا قوةً لنا ومتاعاً إلى حين. اللهم إنّا خلقٌ من خلقك فلا تمنَع عنّا بذنوبِنا فضلَك، على الله توكلنا، ) رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ( [الأعراف:47]، ) رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـٰنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ ( [البقرة:286].
اللهمَّ أعِذنا من مضلات الفِتن، اللهمّ أعِذنا من مضلات الفِتن، يا ذا الجلال والإكرام. اللهمّ اكفِ جميعَ المسلمين شرّ هذه الفتن، وقِهم منها، واجعَل الدائرةَ على أصحابِها.
اللهمَّ يا حيّ يا قيّوم احفَظ بلادَنا وبلادَ الإسلام يا ذا الجلال من كلّ مكروه يا ربَّ العالمين يا حيّ يا قيّوم.
عبادَ الله
إنَّ نبيَّكم r حينما استسقى استقبَل القبلةَ، ودَعا ربَّه، وأطال الدعَاء، فاقتدوا بِه، وألحّوا في الدعاء، فإنَّ الله يحبّ الملحِّين في الدّعاء، اسألوه أن يغيثَ قلوبَكم بالرجوع إليه، وبلدَكم بإنزال الغَيث عليه، وصلّوا وسلّموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
المرفقات
1766181975_خطبة الاستسقاء ( 1 ).pdf
1766181984_خطبة الاستسقاء ( 1 ).doc