خطبة : ( الاتجار بالبشر )

عبدالله البصري
1441/02/04 - 2019/10/03 21:21PM
الاتجار بالبشر     5 / 2 / 1441
 
 
الخطبة الأولى :
 
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَتَقَدَّمُ الإِنسَانُ في دُنيَاهُ وَيَزدَادُ غِنَاهُ ، وَيَصِلُ إِلى مُستَوَيَاتٍ مِن دِقَّةِ الصِّنَاعَةِ وَجَودَةِ الإِنتَاجِ ، وَيَنَالُ مِنَ النَّعِيمِ وَالرَّفَاهِيَةِ مَا يَنَالُ ، وَمَعَ هَذَا مَا يَزَالُ هُوَ الإِنسَانَ الظَّلُومَ الجَهُولَ الكَفَّارَ ، إِلاَّ أَن يُنقِذَهُ اللهُ بِرَحمَتِهِ فَيَستَقِيمَ عَلَى شَرعٍ مِن عِندِهِ ، يُصَحِّحُ نَظرَتَهُ لِنَفسِهِ وَيَزِنُ رُؤيَتَهُ لِمَن حَولَهُ ، وَيُصَوِّبُ لَهُ أَقوَالَهُ وَيُقَوِّمُ أَفعَالَهُ ، وَيُلزِمُهُ صِرَاطًا وَاضِحًا مُستَقِيمًا ، يَنجُو بِهِ مِن سُلُوكِ سُبُلِ الضَّلالَةِ ، وَيَسلَمُ مِنَ السَّيرِ في طُرُقِ الغِوَايَةِ وَالجَهَالَةِ . وَإِنَّهُ مَهمَا تَحَدَّثَتِ الحَضَارَاتُ الدُّنيَوِيَّةُ المَادِّيَّةُ عَنِ القِيَمِ الحَسَنَةِ وَالأَخلاقِ الفَاضِلَةِ ، أَو تَظَاهَرَت في قَوَانِينِهَا بِالحِرصِ عَلَى حِفظِ حُقُوقِ الإِنسَانِ وَحِمَايَتِهِ وَضَمَانِ حُرِّيَّتِهِ ، فَإِنَّهَا تَبقَى لِمَن تَأَمَّلَهَا ادِّعَاءَاتٍ كَاذِبَةً وَمُخَادَعَاتٍ بَرَّاقَةً ، تَحكُمُهَا مَصَالِحُ خَاصَّةٌ وَتُوَجِّهُهَا أَطمَاعٌ مَادِّيَّةٌ بَحتَةٌ ، بَينَمَا يُكَذِّبُها الوَاقِعُ المُشَاهَدُ ، وَتَكشِفُ مَستُورَهَا الأَحدَاثُ الجَارِيَةُ .
وَإِنَّهُ لم يَعرِفِ التَّأرِيخُ حَدِيثًا عَنِ الحُرِّيَّةِ وَادِّعَاءً لِحِفظِ حُقُوقِ الإِنسَانِ كَمَا يَتَرَدَّدُ في عَالَمِ اليَومِ ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ لم يُرَ أَشرَسُ مِن هَذَا العَالَمِ وَلا أَظلَمُ مِنَ الإِنسَانِ فِيهِ لأَخِيهِ الإِنسَانِ ، تَحكِي ذَلِكَ ظَوَاهِرُ عَدِيدَةٌ وَمَظَاهِرُ كَثِيرَةٌ ، وَمَوَاقِفُ تَتَكَرَّرُ وَأَحدَاثٌ تَتَجَدَّدُ ، لا يُحتَاجُ في إِثبَاتِهَا إِلى أَدِلَّةٍ أَو ذِكرِ بَرَاهِينَ ، وَلا عَدِّ أَمثِلَةٍ أَو إِبرَازِ شَوَاهِدَ ، فَفِيمَا تَنقُلُهُ وَسَائِلُ الإِعلامِ وَتَنشُرُهُ أَجهِزَةُ التَّوَاصُلِ ، مَا تَشِيبُ لَهُ الرُّؤُوسُ مِن صُوَرِ الظُّلمِ وَمَشَاهِدِ البَغيِ وَالتَّعَدِّي وَالتَّجَاوُزِ ، يَرَاهَا كُلُّ مَن يَرَى وَيَسمَعُهَا مَن يَسمَعُ وَيعقِلُ ؛ لِيَعلَمَ أَنَّهَا قَد تَعَدَّت تَجَاوُزَ فَردٍ عَلَى فَردٍ أَو تَعَدِّيَ مَجمُوعَةٍ عَلَى أُخرَى كَمَا كَانَ في بَعضِ حِقَبِ الجَاهِلِيَّةِ القَدِيمَةِ ، إِلى أَن أَصبَحَت ظُلمًا عَامًّا تَتَبَنَّاهُ هَيئَاتٌ دَولِيَّةٌ ، وَتَرعَاهُ مُنَظَّمَاتٌ شَعبِيَّةٌ ، وَتُنَفِّذُهُ دُوَلٌ كَبِيرَةٌ وَحُكُومَاتٌ مُتَحَكِّمَةٌ ، لِتَسحَقَ بِهِ دُوَلاً صَغِيرَةً مُستَصغَرَةً ، وَتُهِينَ بِهِ مُجتَمَعَاتٍ ضَعِيفَةً مُستَضعَفَةً .
وَإِنَّ مِن ظَوَاهِرِ ظُلمِ الإِنسَانِ لأَخِيهِ الإِنسَانِ ، ظَاهِرَةَ الاتِّجَارِ بِالبَشَرِ ، تِلكُمُ الظَّاهِرَةُ الَّتي وُجِدَت مُنذُ وُجِدَ الإِنسَانُ عَلَى هَذِهِ الأَرضِ ، وَمَارَسَتهَا أُمَمٌ سَابِقَةٌ كَالفَرَاعِنَةِ وَفَارِسٍ وَالرُّومِ ، وَاليَهُودِ وَالهُنُودِ وَالإِغرِيقِ وَاليُونَانِ ، بل حَتى العَرَبُ في جَاهِلِيَّتِهِم ، ظَهَرَت فِيهِمُ تِلكَمُ الظَّاهِرَةُ ، وَاستَعبَدَ بَعضُهُم بَعضًا ، إِذ كَانَتِ القَبَائِلُ المُنتَصِرَةُ تَستَعبِدُ أَطفَالَ القَبَائِلِ المَهزُومَةِ وَتَستَرِقُّ نِسَاءَهَا ، وَتَتَّخِذُ مِنهُم أَغلِمَةً لِلخِدمَةِ وَجَوَارِيَ لِلمُتعَةِ ، حَتى جَاءَ دِينُ الإِسلامِ العَظِيمُ ، فَكَانَت أَحكَامُهُ حِكمَةً وَرَحمَةً ، فَجَفَّفَت مَنَابِعَ العُبُودِيَّةِ وَأَضعَفَتهَا وَقَلَّلَتهَا ، وَكَرَّمَتِ البَشَرَ عَن أَن يَكُونُوا سِلَعًا رَخِيصَةً تُبَاعُ وَتُشتَرَى وَيُتَاجَرُ بها .
وَفي الوَقتِ الَّذِي يَزعُمُ فِيهِ الغَربُ اليَومَ ، أَنَّهُ حَرِيصٌ عَلَى حِمَايَةِ حُقُوقِ الإِنسَانِ وَضَمَانِ حُرِّيَّتِهِ ، فَإِنَّ تَقَارِيرَهُم لم تَزَلْ تَتَوَالى بِالتَّحذِيرِ مِنَ الاتِّجَارِ بِالبَشَرِ ، مُتَنَاسِينَ أَو مُتَجَاهِلِينَ ، أَنَّ أَبشَعَ صُوَرِ الاتِّجَارِ وَأَخطَرَهَا ، جَرَت وَمَا زَالَت تَجرِي في دُوَلِهِم وَعَلَى أَيدِيهِم ، وَأَنَّهُم لم يَكتَفُوا بِذَلِكَ في بُلدَانِهِم ، حَتى نَقَلُوهَا إِلى كُلِّ أَنحَاءِ العَالَمِ ، عَلَى يَدِ عِصَابَاتِهِمُ المُجرِمَةِ ، وَتَحتَ إِشرَافِ مُؤَسَّسَاتِهِمُ المُغرِضَةِ ، وَبِدَعمٍ مِن هَيئَاتِهِمُ المُهَيمِنَةِ ، أَجَل – أَيُّهَا الإِخوَةُ – لَقَد غَفَلَ أُولَئِكَ القَومُ أَنَّهُم مَا زَالُوا غَارِقِينَ في تِجَارَةِ البَشَرِ ، مُوغِلِينَ في تَحقِيرِ الإِنسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ عَلَى سَائِرِ خَلقِهِ ، مُسرِفِينَ أَيَّمَا إِسرَافٍ في إِهَانَتِهِ وَالنَّيلِ مِن كَرَامَتِهِ ، وَأَنَّهُم قَد وَصَلُوا في هَضمِ الإِنسَانِيَّةِ إِلى دَرَجَاتٍ لم تَصِلْ إِلَيهَا البَهَائِمُ ، فَمَا زَالُوا يُوقِدُونَ الحُرُوبَ الطَّاحِنَةَ عَلَى أَسبَابٍ تَافِهَةٍ ، وَيَسُنُّونَ القَوَانِينَ الظَّالِمَةَ لِتَحقِيقِ مَآرِبَ فَاسِدَةٍ ، وَيُصدِرُونَ القَرَارَاتِ الجَائِرَةَ لِلإِطَاحَةِ بِدُوَلٍ بِحُكُومَاتِهَا وَجُيُوشِهَا ، وَإِفنَاءِ شُعُوبٍ بِأَكمَلِهَا ، وَتَغيِيرِ مَعَالِمِ بُلدَانٍ وَالعَبَثِ في مُقَدَّرَاتِهَا ، وَقَتلِ رِجَالِهَا وَهَدمِ بُيُوتِهَا ، وَإِشَاعَةِ القَلاقِلِ فِيهَا وَتَعمِيمِ الخَوفِ ، وَزَعزَعَةِ أَمنِهَا وَاستِقرَارِهَا ؛ لِتُهَجَّرَ نِسَاؤُهَا وَأَطفَالُهَا بَعدَ ذَلِكَ ، وَيُصَدَّرُوا مِن دُوَلٍ وَتَستَورِدَهُم دُوَلٌ أُخرَى ، فَيُبَاعُوا في أَسواقِ العُبُودِيَّةِ الجَدِيدَةِ ؛ وَيُتَاجَرَ بِهِم في مُستَنقَعَاتِ الزِّنَا وَأَعمَالِ الدَّعَارَةِ وَالخَنَا ، مُستَغِلِّينَ ظُرُوفَ أُولَئِكَ النِّسَاءِ وَالأَطفَالِ الاجتِمَاعِيَّةَ وَأَحوَالَهُمُ الاقتِصَادِيَّةَ ، لِدَرَجَةِ أَنَّ تِجَارَةَ البَشَرِ – كَمَا أَشَارَت بَعضُ البُحُوثِ وَالدِّرَاسَاتِ – أَصبَحَت هِيَ ثَالِثَ أَكبَرِ نَشَاطٍ إِجرَامِيٍّ بَعدَ تِجَارَتَيِ السِّلاحِ وَالمُخَدِّرَاتِ . نَعَم – أَيُّهَا الإِخوَةُ - لَقَد أَصبَحَ الإِنسَانُ في ظِلِّ الحَضَارَةِ الغَربِيَّةِ الحَدِيثَةِ ، أَقَلَّ شَأنًا مِنَ الحَيَوَانِ وَأَرخَصَ مِنهُ ثَمَنًا ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ بِتَأثِيرِ قَوَانِينِ تِلكَ الحَضَارَةِ المُنتَكِسَةِ ، الَّتي فَكَّكَتِ الأُسَرَ ، وَأَلغَت وِلايَةَ الرَّجُلِ ، وَرَفَعَت أَيدِي الوَالِدَينِ عَنِ الأَبنَاءِ وَالبَنَاتِ ، فَنَشَأَ عَن ذَلِكَ أَطفَالٌ غَيرُ شَرعِيِّينَ ، وَشُرِّدَ أَبنَاءٌ وَبَنَاتٌ وَزَوجَاتٌ ، فَصَارُوا هُمُ البَضَائِعَ الَّتي تُرَوَّجُ في أَسوَاقِ التِّجَارَةِ بِالبَشَرِ ، إِضَافَةً إِلى أَسَالِيبَ أُخرَى عِدَّةٍ ، اعتَمَدَتهَا عِصَابَاتُ الاتِّجَارِ بِالبَشَرِ في تِلكَ الحَضَارَةِ ، كَسَرِقَةِ الأَطفَالِ حَدِيثِي الوِلادَةِ مِنَ المُستَشفَيَاتِ وَالادِّعَاءُ بِأَنَّهُم مَاتُوا ، أَو شِرَاءِ الأَطفَالِ مِنَ الدُّوَلِ الَّتي أَهلَكُوهَا وَأَفقَرُوهَا ، أَو شِرَاءِ الأَجِنَّةِ وَهُم في بُطُونِ أُمَّهَاتِهِم ، أَوِ المُتَاجَرَةِ بِالأَعضَاءِ البَشَرِيَّةِ ، أَو مُخَادَعَةِ المَنكُوبِينَ في الحُرُوبِ مِن قِبَلِ تِلكَ العِصَابَاتِ الَّتي تَدَّعِي أَنَّهَا مُنَظَّمَاتٌ دَولِيَّةٌ ، وَتَتَسَتَّرُ بِسِتَارِ الإِغَاثَةِ وَالأَعمَالِ الإِنسَانِيَّةِ ، وَتَزعُمُ أَنَّهَا تُرِيدُ تَوفِيرَ أَمَاكِنَ آمِنَةٍ لِلأَطفَالِ ، وَأَنَّهَا سَتُعِيدُهُم إِلى أَهلِيهِم بَعدَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهَا تَبِيعُهُم وَتَأكُلُ ثَمنَهُم .
وَبَينَمَا اقتَصَرَتِ المُعَالَجَةُ الغَربِيَّةُ الخَدَّاعَةُ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ الخَطِيرَةِ ، عَلَى سَنِّ قَوَانِينَ وَضعِيَّةٍ غَيرِ رَادِعَةٍ ، مَعَ تَجَاهُلِهِم لِلكَثِيرِ مِنَ الثَّغَرَاتِ ، بَل فَتحِهَا لِلمُجرِمِينَ لِيُفلِتُوا مِنَ العِقَابِ ، بَل وَلِيَسلَمُوا مِنَ المُسَاءَلَةِ الجِنَائِيَّةِ ، فَيُمَارِسُوا أَبشَعَ الجَرَائِمِ في حَقِّ الإِنسَانِيَّةِ ، فَإِنَّ المُعَالَجَةَ الإِسلامِيَّةَ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ ، جَاءَت عَبرَ مَنهَجٍ وَاضِحٍ ، بَدَأَ عَقَدِيًّا وَفِكرِيًّا ، بِتَغيِيرِ النَّظرَةِ الاستِعلائِيَّةِ مِنَ الإِنسَانِ لأَخِيهِ الإِنسَانِ ، وَالانطِلاقِ مِن كَونِ النَّاسِ جَمِيعًا سَوَاسِيَةً ، وَتَقرِيرِ أَنَّهُم كُلُّهُم لآدَمَ وَأَنَّ آدَمَ مِن تُرَابٍ ، وَأَنَّهُم عَبِيدٌ للهِ – تَعَالى - وَحدَهُ ، لا فَضلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى عَجَمٍيٍّ ، وَلا لأَحمَرَ عَلَى أَسوَدَ إِلاَّ بِالتَّقوَى وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، ثم إِنَّ الإِسلامَ في سَبِيلِ تَحرِيرِ الإِنسَانِ ، لم يَنسَ مَا يَكفَلُ لِلمَملُوكِ حَيَاةً كَرِيمَةً رَيثَمَا يَنَالُ حُرِّيَّتَهُ الكَامِلَةَ ، فَأَوجَبَ مُعَامَلَتَهُ مُعَامَلَةً حَسَنَةً ، بِعَدَمِ تَحمِيلِهِ فَوقَ طَاقَتِهِ في العَمَلِ ، وَبِإِيجَابِ إِيوَائِهِ وَإِطعَامِهِ وَكِسوَتِهِ وَالإِحسَانِ إِلَيهِ ، وَبِوَضعِ عُقُوبَاتٍ دُنيَوِيَّةٍ وَأُخرَوِيَّةٍ عَلَى مَن يَظلِمُهُ ، كَمَا أَنَّ تَجفِيفَ مَنَابِعِ الرِّقِّ كَانَ مِن أَبرَزِ مَعَالِمِ المَنهَجِ الإِسلامِيِّ لِمُعَالَجَةِ ظَاهِرَةِ الاتِّجَارِ بِالبَشَرِ ، وَذَلِكَ مِن خِلالِ تَحرِيمِ استِعبَادِ الأَحرَارِ ، فَعَن أَبي هُرَيرَةَ - رَضيَ اللهُ عَنهُ - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " قَالَ اللهُ : ثَلاثَةٌ أَنَا خَصمُهُم يَومَ القِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعطَى بي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ استَأجَرَ أَجِيرًا فَاستَوفَى مِنهُ وَلَم يُعطِهِ أَجرَهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . كَمَا أَنَّ المَنهَجَ الإِسلامِيَّ قَد فَتَحَ أَبوَابَ العِتقِ عَلَى مِصرَاعَيهِ ، وَذَلِكَ مِن خِلالِ نِظَامِ الكَفَّارَاتِ الَّتي أُوجِبَت عَلَى عَدَدٍ مِنَ المُخَالَفَاتِ وَالمَعَاصِي ، بِالإِضَافَةِ إِلى نِظَامِ التَّدبِيرِ وَالمُكَاتَبَةِ ، الَّذِي يُمَهِّدُ لِتَحرِيرِ العَبِيدِ بِمَوتِ أَسيَادِهِم ، أَو بِتَحصِيلِ أُولَئِكَ الأَسيَادِ مَالاً مِن عَبِيدِهِم فَيَتَحَرَّرُوا ، نَاهِيكُم عَن جَعلِ مَصرِفٍ مِن مَصَارِفِ الزَّكَاةِ لإِعَانَةِ المُكَاتَبِينَ لإِتمَامِ تَحرِيرِهِم ، مَعَ مَا وَرَدَ مِن فَضلِ إِعتَاقِ الرِّقَابِ وَعِظَمِ أَجرِهِ ، ثم إِنَّ الإِسلامَ قَد حَرَّمَ الاتِّجَارَ بِالجَوَارِي في البِغَاءِ وَالزِّنَا ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَلا تُكرِهُوا فَتَيَاتِكُم عَلَى البِغَاءِ إِن أَردَنَ تَحَصُّنًا لِتَبتَغُوا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَمَن يُكرِهُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعدِ إِكرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الإِسلامِ لِمُحَارَبَةِ الاتِّجَارِ بِالبَشَرِ تَحرِيمُ العَضلِ ، وَهُوَ مَنعُ الزَّوجَةِ مِنَ الزَّوَاجِ بِالكُفءِ الَّذِي تَرتَضِيهِ ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : "وَإِذَا طَلَّقتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحنَ أَزوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوا بَينَهُم بِالمَعرُوفِ " وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ أَيضًا لِمُحَارَبَةِ الاتِّجَارِ بِالبَشَرِ تَحرِيمُ نِكَاحِ الشِّغَارِ ، وَهُوَ أَن يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابنَتَهُ أَو أُختَهُ ، عَلَى أَن يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابنَتَهُ أَو أُختَهُ ، وَلَيسَ بَينَهُمَا صَدَاقٌ ، فَفِي الصَّحِيحَينِ عَنِ ابنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - أَنَّ رَسُولَ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الشِّغَارِ . أَجَل – أَيُّهَا المُسلِمُونَ - إِنَّ الإِسلامَ هُوَ أَوَّلُ وَأَعظَمُ مَن حَارَبَ الاتِّجَارَ بِالبَشَرِ ، أَلا فَمَا أَحوَجَ العَالَمَ اليَومَ أَن يَعتَرِفَ أَنَّهُ بِحَاجَةٍ إِلى مَنهَجِ الإِسلامِ ؛ لِيُحَرِّرَ الإِنسَانَ الَّذِي كَرَّمَهُ رَبُّهُ وَلِيَحفَظَ لَهُ حَقَّهُ ، وَلِيَضمَنَ لَهُ حُرِّيَّتَهُ بما يُوَافِقُ الشَّرعَ الرَّبَّانيَّ ، لا بما أَفرَزَتهُ الحُرِّيَّةُ المَزعُومَةُ بَلِ الإِبَاحِيَّةُ المَقصُودَةُ ، الَّتي أَفلَتَتِ الإِنسَانَ مِن كُلِّ قَيدٍ شَرعِيٍّ أَو عُرفيٍّ ، فَصَارَ ضَحِيَّةً لِلاتِّجَارِ بِهِ شَعُرَ أَو لم يَشعُرْ ، بما آلَت إِلَيهِ حَالُهُ وَانتَهَت إِلَيهِ حَيَاتُهُ ، مِن كَونِهِ سِلعَةً تُبَاعُ وَتُشتَرَى وَتُؤَجَّرُ وَيُؤكَلُ ثَمنُهَا ، في الحَانَاتِ وَبُيُوتِ الدَّعَارَةِ وَنَوَادِي العُرَاةِ ، وَفي المَكَاتِبِ وَالمُؤَسَّسَاتِ الَّتي تُنتِجُ الصُّوَرَ الإِبَاحِيَّةَ وَالدِّعَايَاتِ ، وَفي مَحَلاَّتِ عَرضِ الأَزيَاءِ الَّتي تُتَاجِرُ بِأَجسَادِ النِّسَاءِ ، وَفي مَرَاكِزِ التَّدلِيكِ المَشبُوهَةِ وَغَيرِهَا ، فَالحَمدُ للهِ أَحكَمِ الحَاكِمِينَ ، الَّذِي خَلَقَ الإِنسَانَ في أَحسَنِ تَقوِيمٍ وَكَرَّمَ عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ " لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ في أَحسَنِ تَقوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدنَاهُ أَسفَلَ سَافِلِينَ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُم أَجرٌ غَيرُ مَمنُونٍ . فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعدُ بِالدِّينِ . أَلَيسَ اللهُ بِأَحكَمِ الحَاكِمِينَ "
 
الخطبة الثانية :
 
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ مِن صُوَرِ الاتِّجَارِ بِالبَشَرِ تَمكِينَ الرَّجُلِ زَوجَتَهُ أَوِ ابنَتَهُ مِنَ العَمَلِ في أَمَاكِنِ العَمَلِ المُختَلطَةِ ، وَالزَّجَّ بِالعَفِيفَاتِ الطَّاهِرَاتِ في مُجتَمَعِ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ عَنهُنَّ ، وَالسَّمَاحَ بِذَلِكَ مِن أَجلِ لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنيَا ، مَعَ عِلمِ الوَليِّ بِأَنَّ زَوجَتهُ العَامِلَةَ أَوِ ابنتَهُ ، قَد لا تَسلَمُ مِنِ اختِلاءٍ بِالرِّجَالِ الأَجانِبِ في تِلكَ الأَمَاكِنِ ، وَهُوَ الأَمرُ المُحَرَّمُ في الإِسلامِ . وَمِن صُوَرِ الاتِّجَارِ بِالبَشَرِ ، التَّسَاهُلُ بِحُقُوقِ العُمَّالِ وَالخَدَمِ وَالأُجَرَاءِ ، مِن ذَلِكَ التَّبَاطُؤُ في إِعطَائِهِم مَا لَهُم مِن أَجرٍ مُقَابِلَ الاستِفَادَةِ مِن أَوقَاتِهِم وَجُهُودِهِم وَكَدِّهِم وَكَدحِهِم ، قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " أَعطُوا الأَجِيرَ أَجرَهُ قَبلَ أَن يَجِفَّ عَرَقُهُ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَمِن ذَلِكَ جَعلُ العُمَّالِ وَالخَادِمَاتِ كَالسِّلَعِ ، فَتُنقَلُ خِدَمَاتُهُم مِن كَفِيلٍ لآخَرَ ، أَو تُبَاعُ تَأشِيرَاتُهُم مُقَابِلَ أَموَالٍ يَدفَعُونَهَا ، وَمِن ذَلِكَ استِقدَامُهُم لِلتَّكَسُّبِ مِن وَرَائِهِم بِطُرُقٍ تُخَالِفُ الأَنظِمَةَ ،،، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَاحفَظُوا الحُقُوقَ لأَهلِهَا ، وَاحذَرُوا مِن مَغَبَّةِ التَّهَاوُنِ بها أَو جُحُودِهَا ، وَكُونُوا عَلَى وَعيٍ بما يُرِيدُهُ مَن فَسَدَت فِطَرُهُم وَفَقَدُوا بَشَرِيَّتَهُم وَخَلَعُوا ثِيَابَ إِنسَانِيَّتِهِم ، فَصَارَ الاتِّجَارُ بِالبَشَرِ هُوَ هَمَّهُم وَغَايَةَ تَخطِيطِهِم ، بما أَوجَدُوهُ مِن أَنظِمَةٍ وَأَعرَافٍ ، وَمَا أَصدَرُوهُ مِن قَرَارَاتٍ وَقَوَانِينَ ، وَبما أَعَدُّوهُ بِمَكرِهِم مِن بِيئَاتٍ خِصبَةٍ لِلاتِّجَارِ بِالبَشَرِ ، بِانتِهَاكِهِمُ الصَّرِيحَ لِكِيَانِ الأُسَرِ ، وَإِضَاعَتِهِم أَفرَادَهَا بِإِلغَاءِ وِلايَةِ الرِّجَالِ ، وَرَفعِ أَيدِيهِم عَن أَولادِهِم ، إِضَافَةً إِلى نَشرِهِمُ الإِبَاحِيَّةَ عَبرَ القَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ وَمَوَاقِعِ الشَّبَكَةِ العَنكَبُوتِيَّةِ ، وَاستِغلالِهِمُ النِّسَاءَ في ذَلِكَ ، وَسَنِّهِمُ القَوَانِينَ لِقَبُولِ الشَّاذِّينَ وَطُلاَّبِ الجِنسِ وَعَارِضِيهِ وَالبَاحِثِينَ عَنهُ ، إِلى غَيرِ ذَلِكَ مِن تَخَبُّطِهِم وَضَلالِهِم " وَمَن لم يَجعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ " فَالحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلإِسلامِ وَجَعَلَنَا مِن أَتبَاعِ سَيِّدِ الأَنَامِ ، فَاللهَ اللهَ وَعَضُّوا عَلَى دِينِكُم بِالنَّوَاجِذِ ، فَإِنَّ الخَيرَ كُلَّ الخَيرِ في التَّمَسُّكِ بِهِ ، وَالشَّرَّ كُلَّ الشَّرِّ في نَبذِهِ وَالنُّكُوصِ عَلَى الأَعقَابِ زُهدًا فِيهِ .
المرفقات

بالبشر-2

بالبشر-2

بالبشر-3

بالبشر-3

المشاهدات 1768 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا