خطبة : ( الإسلام دين النظام )

عبدالله البصري
1433/07/23 - 2012/06/13 20:05PM
الإسلام دين النظام 25 / 7 / 1433


الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالى ـ هَذَا الكَونَ وَأَبدَعَهُ ، وَبَنَاهُ عَلَى نِظَامٍ دَقِيقٍ وَأَحكَمَهُ ، حَتى لا يَتَقَدَّمَ فِيهِ مَخلُوقٌ عَلَى آخَرَ ، وَلا يَتَأَخَّرَ مَأمُورٌ عَمَّا أُمِرَ بِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيلُ نَسلَخُ مِنهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُظلِمُونَ . وَالشَّمسُ تَجرِي لِمُستَقَرٍّ لها ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ . وَالقَمَرَ قَدَّرنَاهُ مَنَازِلَ حَتى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ . لا الشَّمسُ يَنبَغِي لها أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلا اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارَ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسبَحُونَ " هَكَذَا خَلَقَ اللهُ الكَونَ ، وَهَكَذَا حَفِظَهُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَتَوالي الدُّهُورِ ، دَقِيقًا في أَجوَدِ صَنعَةٍ ، مُتقَنًا في أَحسَنِ هَيئَةٍ ، لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَتَبَدَّلُ ، وَلا يَمِيلُ شَعرَةً عَن سَبِيلِهِ الَّتي قُدِّرَ لَهُ السَّيرُ فِيهَا ، " صُنعَ اللهِ الَّذِي أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ "
تَصَوَّرُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ مَا الَّذِي يَحدُثُ لَو خَرَجَ كَوكَبٌ عَن مَسَارِهِ ، أَوِ اصطَدَمَ نَجمٌ بِآخَرَ ، أَو طَغَى بَحرٌ عَلَى يَابِسَةٍ ، أَو جَفَّ نَهرٌ فَجأَةً بَعدَ جَرَيَانِهِ ، أَو غَارَ بَحرٌ في سَاعَةٍ أَو زَالَ جَبَلٌ في لَحظَةٍ ، إِنَّهُ خَرَابُ الكَونِ وَفَسَادُ المَعَايِشِ وَاختِلالُ الحَيَاةِ ، وَاللهُ يُرِي النَّاسَ في حَيَاتِهِم مِن هَذَا أَمثِلَةً لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ وَيَعتَبِرُونَ ، فَحِينَ يَقَعُ زَلزَالٌ في بُقعَةٍ أَو تُبلَى بِفَيَضَانٍ ، يَتَكَدَّرُ أَهلُهَا وَيَتَنَغَّصُ عَيشُهُم ، وَيُخَيِّمُ عَلَيهِمُ الحُزنُ وَيَتَمَلَّكُهُمُ الخَوفُ ، وَيَركَبُهُمُ الهَمُّ وَيُحِيطُ بهم الغَمُّ ، وَمِن ثَمَّ يَهُبُّ العَالمُ بِأَسرِهِ مُحَاوِلاً مَسحَ مَا ارتَسَمَ عَلَى تِلكَ البُقعَةِ مِن دَمَارٍ وَفَسَادٍ ، لِتَعُودَ حَيَاةُ النَّاسِ إِلى مَجرَاهَا الطَّبِيعِيِّ ، فَسُبحَانَ اللهِ الَّذِي أَجرَى كُلَّ شَيءٍ في هَذَا الكَونِ عَلَى نِظَامٍ دَقِيقٍ مُحكَمٍ ، وَسَخَّرَهُ لِهَذَا الإِنسَانِ وِفقَ سُنَنٍ ثَابِتَةٍ ، لِيَهنَأَ في عَيشِهِ وَتَستَقِرَّ حَيَاتُهُ ؛ وَمِن ثَمَّ يَقُومُ بِمُهِمَّتِهِ الَّتي أُنزِلَ عَلَى الأَرضِ مِن أَجلِهَا .
عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَ هَذَا الكَونَ وَرَتَّبَ كُلَّ مَا فِيهِ ، جَعَلَ العِبَادَاتِ كَذَلِكَ مُرَتَّبَةً وَمُنَظَّمَةً ، وَحَدَّهَا بِحُدُودٍ مَنَعَ مِن تَعَدِّيهَا وَتَجَاوُزِهَا ، فَأَنتُم تَرَونَ الصَّلَوَاتِ في كُلِّ يَومٍ خَمسًا ، قَبلَهَا وُضُوءٌ وَطَهَارَةٌ ، وَلِكُلٍّ مِنهَا عَدَدُ رَكَعَاتٍ وَهَيئَاتٌ وَصِفَاتٌ ، وَأَوقَاتٌ لا يَجُوزُ تَعَدِّيهَا بَدأً وَلا انتِهَاءً ، وَمِثلُ ذَلِكَ تَرَونَ الزَّكَاةَ ، لها أَحكَامٌ في أَنوَاعِهَا وَوَقتِهَا وَمَقَادِيرِهَا وَنِسَبِهَا ، وَالصَّومُ لَهُ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ وَمُنطَلَقٌ وَغَايَةٌ ، وَالحَجُّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ وَمَنَاسِكُ وَشَعَائِرُ ، يَتَنَقَّلُ العِبَادُ مِن بَعضِهَا لِبَعضٍ في نِظَامٍ لا يَخرُجُونَ عَنهُ وَلا يَتَجَاوَزُونَهُ ، في أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ وَأُخرَى مَعدُودَاتٍ ، وِللهِ فِيمَا بَينَ ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ حُقُوقٌ في اللَّيلِ لا تُقبَلُ في النَّهَارِ ، وَأُخرَى نَهَارِيَّةٌ لا تُؤَخَّرُ لِلَّيلِ ، وَثَمَّةَ كَفَّارَاتٌ وَنَفَقَاتٌ حُدِّدَت بِمَقَادِيرَ مَعلُومَةٍ وَأَوصَافٍ مَضبُوطَةٍ .
عِبَادَ اللهِ ، أَلا تَرَونَ أَنَّ كُلَّ هَذَا الإِحكَامِ لِسَيرِ الكَونِ وَالتَّنظِيمِ لِلشَّرَائِعِ وَالدِّقَّةِ في العِبَادَاتِ وَالأَحكَامِ إِنَّمَا هُوَ تَربِيَةٌ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَلِلمُسلِمِينَ خَاصَّةً ؛ لِيَكُونُوا في كُلِّ حَيَاتِهِم مُنَظَّمِينَ مُرَتَّبِينَ ، وَعَلَى الصَّوَابِ سَائِرِينَ ، وَعَنِ الخَطَأِ مُتَجَانِفِينَ ؟! إِنَّ الأَمرَ لَكَذَلِكَ ، كَيفَ وَقَد جَاءَ الإِسلامُ بما يُصلِحُ حَيَاةَ النَّاسِ وَيُنَظِّمُهَا وَيُرَتِّبُهَا ، وَيُكسِبُهُمُ السَّعَادَةَ وَالرَّاحَةَ وَالطُّمَأنِينَةَ ، فَمِن تَنصِيبِ الإِمَامِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَتَحرِيمِ الخُرُوجِ عَلَيهِ ، إِلى وُجُوبِ الصِّدقِ في الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ ، وَلُزُومِ الدِّقَّةِ في المَوَاعِيدِ وَتَقدِيرِ الوَقتِ ، إِلى تَعظِيمِ الأَمَانَةِ وَمَدحِ النَّزَاهَةِ ، وَالأَمرِ بِالوَفَاءِ بِالعُقُودِ وَالتِزَامِ المَوَاثِيقِ وَالإِتقَانِ وَالإِحسَانِ ، إِلى تَحَرِّي الحَلالِ وَالبُعدِ عَنِ الحَرَامِ وَاجتِنَابِ الشُّبُهَاتِ ، وَمُجَانَبَةِ الغِشِّ وَالخَدِيعَةِ وَالتَّطفِيفِ وَأَكلِ الأَموَالِ بِالبَاطِلِ ، وَنَحوِ ذَلِكَ مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالحُدُودِ الشَّرعِيَّةِ وَالتَّعزِيرَاتِ ، الَّتي هِيَ مَجمُوعَةٌ مُتَرَابِطَةٌ مِنَ الأَنظِمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ المُحكَمَةِ ، البَعِيدَةِ الغَايَاتِ المُشرِقَةِ النِّهَايَاتِ ، أَنزَلَهَا لِلعِبَادِ رَبُّ العِبَادِ ، الَّذِي يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ كُلَّ مَا حَولَ الإِنسَانِ لَيَدفَعُهُ إِلى أَن يَكُونَ مُنَظَّمًا في حَيَاتِهِ ، مُرَتَّبًا في وَظِيفَتِهِ ، مُتقِنًا لِعَمَلِهِ ، مُحسِنًا في تَعَامُلِهِ ، صَادِقًا في بَيعِهِ وَشِرَائِهِ ، وَفِيًّا في أَخذِهِ وَعَطَائِهِ ، لِتَزكُوَ نَفسُهُ وَتَكمُلَ ذَاتُهُ ، وَيَنشَرِحَ صَدرُهُ وَيَسعَدَ في حَيَاتِهِ ، لَكِنَّ هَذَا الإِنسَانَ لِسُوءِ حَظِّهِ في بَعضِ الأَزمِنَةِ أَوِ الأَمكِنَةِ ، يَخرُجُ مِن نَعِيمِ النَّظَامِ وَالجِدِّ وَالإِتقَانِ وَالإِحسَانِ ، فَيَتَرَدَّى في جَحِيمِ اللَّهوِ وَالعَبَثِ وَالتَّقصِيرِ وَالإِسَاءَةِ ، وَيَستَسِيغُ حَيَاةَ البَهَائِمِ الدُّونِيَّةِ ، الَّتي لا يُسأَلُ فِيهَا عَامِلٌ عَمَّا عَمِلَ ، وَلا يُستَنكَرُ عَلَى مُتَصَرِّفٍ تَصَرُّفُهُ ، زَاعِمًا أَو مُتَوَهِّمًا أَنَّ هَذِهِ هِيَ الحُرِّيَّةُ ، غَافِلاً عَن أَنَّ الحُرِّيَّةَ إِذَا كَانَت تَركًا لِوَاجِبٍ ، أَوِ انتِهَاكًا لِمَمنُوعٍ ، أَو تَقصِيرًا في أَدَاءٍ ، أَو ضَعفًا في إِتقَانٍ ، أَوِ اختِرَاقًا لِنِظَامٍ أًو مُضَادَّةً لِسُنَّةٍ كَونِيَّةٍ ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ أَوَّلُ طَرِيقِ النِّهَايَةِ ، وَبِدَايَةُ خَرَابِ عَالَمِهِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ ، سَوَاءٌ عَلَى مُستَوَى بَيتِهِ وَأُسرَتِهِ ، أَو قَريَتِهِ وَمَدِينَتِهِ ، أَو عَلَى مُستَوَى دَولَتِهِ وَحُكُومَتِهِ ، بَل وَحَتى عَلَى المَستَوَى الفَردِيِّ وَالشَّخصِيِّ ، فَمَتى تَرَكَ الجَمِيعُ الوَاجِبَ وَانتَهَكُوا المُحَرَّمَ ، وَخَالَفُوا الأَنظِمَةَ بِدَعوَى الحُرِّيَّةِ وَانقِيَادًا لِرَغَبَاتِهِم الشَّخصِيَّةِ ، فَلَن يَترُكُوا لِغَيرِهِمُ المَجَالَ لِلتَّمَتُّعِ بِحُرِّيَّةٍ ، وَسَتَضطَرِبُ الأُمُورُ وَتَختَلِطُ ، وَسَيكُونُ النَّاسُ في أَمرٍ مَرِيجٍ .
عِبَادَ اللهِ ، مَا مِنَّا أَحَدٌ اليَومَ إِلاَّ وَهُوَ يَلحَظُ تَقصِيرَ الكَثِيرِينَ ممَّن حَولَهُ في تَطبِيقِ الأَنظِمَةِ وَتَهَاوُنَهُم بها ، سَوَاءٌ مِنهَا الأَنظِمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ الَّتي بَنى الخَالِقُ عَلَيهَا الكَونَ وَمَن فِيهِ ، أَوِ الَّتي جَاءَت في كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، أَو تِلكَ الَّتي سَنَّهَا وُلاةُ الأَمرِ لِتَسيِيرِ حَيَاةِ النَّاسِ وَضَبطِ شَأنِهِم ، وَالَّتي لَيسَ لهم عُذرٌ في تَركِ تَطبِيقِهَا وَهُم يَعلَمُونَ مَصلَحَتَهَا ، فَضلاً عَن وُجُوبِهَا الشَّرعِيِّ ، الَّذِي هُوَ لازِمٌ مِن لَوَازِمِ طَاعَةِ وَليِّ الأَمرِ ، وَمَعَ فُشُوِّ هَذَا التَّقصِيرِ وَظُهُورِ ذَلِكُمُ التَّجَاوُزِ ، تُستَنكَرُ قِلَّةُ البَرَكَاتِ مَعَ كَثرَةِ المَوَارِدِ ، وَضَعفُ الإِنتَاجِ مَعَ تَقَدُّمِ الآلاتِ ، وَتَعَقُّدُ العَيشِ وَانتِشَارُ الأَمرَاضِ النَّفسِيَّةِ وَالاجتِمَاعِيَّةِ مَعَ تَحَقُّقِ وَسَائِلِ الرَّاحَةِ والرَّفَاهِيَةِ .
وَإِنَّهُ لَمِمَّا يَحُزُّ في النَّفسِ أَن تَجِدَ مِن أَبنَائِنَا الَّذِينَ سَافَرُوا لِبَعضِ دُوَلِ الشَّرقِ أَوِ الغَربِ أَو عَاشُوا فِيهَا لِسَبَبٍ أَو لآخَرَ ، أَن تَجِدَ مِنهُم إِعجَابًا بِدِقَّةِ النَّاسِ في تِلكَ الدُّوَلِ في مَوَاعِيدِهِم ، وَتَمَسُّكِهِمُ الصَّارِمِ بِالأَنظِمَةِ وَاللَّوَائِحِ ، وَعَدَمِ تَفرِيطِهِم فِيمَا بَينَ أَيدِيهِم مِن تَعلِيمَاتٍ وَضَوَابِطَ ، بَينَمَا تَجِدُهُ هُوَ وَغَيرُهُ في هَذِهِ البِلادِ ، مِن أَقَلِّ النَّاسِ تَمَسُّكًا وَانضِبَاطًا ، وَمِن أَسرَعِهِم تَفَلُّتًا مِن أَوَامِرِ الدَّينِ وَانتِهَاكًا لِلحُرُمَاتِ ، نَاهِيكَ عَنِ الأَنظِمَةِ الدُّنيَوِيَّةِ ..
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ فَإِنَّ لَكُم دِينًا لَو تَمَسَّكتُم بِهِ ، لأَصبَحتُم في القِمَّةِ خُلُقًا وَأَدَبًا وَجَودَةً وَإِتقَانًا ، وَلَصُبَّت عَلَيكُمُ الخَيرَاتُ صَبًّا ، وَلَفُتِحَت عَلَيكُمُ البَرَكَاتُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ ، وَاحذَرُوا الفُسُوقَ وَتَعَدِّي الحُدُودِ وَتَضيِيعَ الأَمَانَاتِ ، فَإِنَّهَا مِن أَسبَابِ هَلاكِ الأُمَمِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا . وَكَم أَهلَكنَا مِنَ القُرُونِ مِن بَعدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا . مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاهَا مَذمُومًا مَدحُورًا . وَمَن أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لها سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَشكُورًا . كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِن عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحظُورًا . اُنظُرْ كَيفَ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكبَرُ تَفضِيلاً "


الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ كَمَا أَمَرَكُم يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ التَّقَيُّدَ بِالنِّظَامِ قَبلَ أَن يَكُونَ قِيمَةً حَضَارِيَّةً وَحَاجَةً تَنمَوِيَّةً ، فَهُوَ فِطرَةٌ كَونِيَّةٌ وَضَرُورَةٌ شَرعِيَّةٌ ، وَلا يُمكِنُ أَن يَصِحَّ مُجتَمَعٌ أَو تَصلُحَ أُمَّةٌ ، وَفي أَعضَائِهَا خَلَلٌ يَقطَعُ دَائِرَةَ النِّظَامِ ، أَو فَسَادٌ يُفقِدَ سِلسِلتَهُ إِحدَى حَلَقَاتِهَا ، وَإِنَّ الحُكمَ عَلَى أَيِّ مُجتَمَعٍ بِالقُوَّةِ أَوِ الضَّعفِ ، أَو وَصفَهُ بِالتَّقَدُّمِ أَوِ التَّخَلُّفِ ، مَرهُونٌ بِمَدَى التِزَامِ أَفرَادِهِ وَمُؤَسَّسَاتِهِ بِالنَّظَامِ العَامِّ وَتَقيُّدِهِم بِالقَوَاعِدِ المُنَظِّمَةِ لِحَيَاتِهِم .
إِنَّهُ لَمِنَ الضَّعفِ الإِيمَانيِّ قَبلَ أَن يَكُونَ تَخَلُّفًا فِكرِيًّا وَخَلَلاً في التَّصَوُّرِ ، أَن يَرَى بَعضُ النَّاسِ في التِزَامِ الأَنظِمَةِ نَقصًا في رَجُولَتِهِم ، أَو حَطًّا مِن كِبرِيَائِهِم ، أَو تَقيِيدًا لِحُرِّيَّتِهِم ، أَو يَشعُرُوا أَنَّهُ يَحُولُ بَينَهُم وَبَينَ مَصالِحِهِم أَو يَعُدُّونَهُ ظُلمًا لَهُم ، في حِينِ أَنَّ مِنَ المُتَقَرِّرِ لَدَى العُقَلاءِ ، أَنَّهُ لا يُمكِنُ بِغَيرِ تَطبِيقِ النَّظَامِ أَن يَنَالَ النَّاسُ حَقًّا ، وَلا أَن يَنعَمُوا بِعَدلٍ أَو يَجِدُوا أَمنًا ، أَو يَشعُرُوا بِطُمَأنِينَةٍ أَو يَذُوقُوا لِلرَّاحَةِ طَعمًا . بِتَجَاوُزِ النَّظَامِ يَكثُرُ في المُجتَمَعِ التَّظَالُمُ وَالتَّعَدِّي وَالتَّجَاوُزُ ، بِتَجَاوُزِ النَّظَامِ لَن يُبنى مُستَقبَلٌ ، وَلَن تُعمَرَ دِيَارٌ وَلَن يَحصُلَ استِقرَارٌ .
إِنَّ أُمَّةَ الإِسلامِ يَجِبُ أَن تَتَخَلَّصَ مِن هَذِهِ النَّزعَةِ الجَاهِلِيَّةِ ، الَّتي اعتَادَ أَهلُهَا الغَوغَائِيَّةَ وَخَرقَ النَّظَامِ انسِيَاقًا مَعَ هَوَى النُّفُوسِ ، أَو إِبرَازًا لِقُوَّةِ الذَّاتِ وَضَعفِ الخَصمِ ، أَو مُرَاعَاةً لِقَريبٍ أَو مُحَابَاةً لِصَدِيقٍ ، أَو طَمَعًا في مَصلَحَةٍ شَخصِيَّةٍ ، أَو حُبًّا لِمَدحٍ أَو خَشيَةً مِنَ ذَمٍّ .
إِنَّ النِّظَامَ هُوَ العَدلُ ، وَعَلَى العَدلِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَوَاللهِ لا يُمكِنُ أَن تَتَطَهَّرَ أُمَّةٌ مِن أَدرَانِهَا وَتَنَالَ مَا تَصبُو إِلَيهِ إِلاَّ بِالعَدلِ وَإِعطَاءِ كُلِّ ذَي حَقٍّ حَقَّهُ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّهُ لا قُدِّسَت أُمَّةٌ لا يَأخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيرَ مُتَعتَعٍ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَإِنَّ اختِزَالَ النِّظَامِ في المَصَالِحِ الشَّخصِيَّةِ وَالرَّغَبَاتِ الفَردِيَّةِ وَنَحوِهَا ، إِنَّهُ لَنَوعٌ مِن تَعَدِّي الحُدُودِ ، وَذَلِكَ هُوَ الظُّلمُ بِعَينِهِ ، وَالظُّلمُ سَبَبٌ لِخَرَابِ البِلادِ وَهَلاكِ العِبَادِ ، وَمُؤذِنٌ بِتَسَلُّطِ بَعضِ النَّاسِ عَلَى بَعضٍ ، وَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَكَذَلِكَ نُوَليِّ بَعضَ الظَّالمِينَ بَعضًا بما يَكسِبُونَ "
أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ كُلُّ رَاعٍ فِيمَا استُرعِيَ ، وَلْيَعُدِ النَّاسُ لِلجِدِّ وَالحَزمِ ، وَلْيَلزَمُوا الصِّدقَ وَالوَفَاءَ ، وَلْيَضَعُوا الأُمُورَ في أَنصِبَتِهَا وَلْيَعدِلُوا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَوفُوا الكَيلَ إِذَا كِلتُم وَزِنُوا بِالقِسطَاسِ المُستَقِيمِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً " اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ خَشيَتَكَ في السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ ، وَالعَدلَ في الرِّضَا وَالغَضَبِ ، وَالقَصدَ في الفَقرِ وَالغِنى .
المشاهدات 6373 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا ونفع بعلمك


جزاك الله خير ونفع الله بك


أشكر لكل من مر ودعا ، وهنا يجد الإخوة ملف الخطبة ( وورد)

المرفقات

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/الإسلام%20دين%20النظام.doc

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/الإسلام%20دين%20النظام.doc