خطبة: الأدب مع الله تعالى
أحمد السويلم
1432/10/27 - 2011/09/25 10:39AM
( تم تعديل الآيات من رسم المصحف إلى الكتابة العادية لتظهر للجميع )
الحمد لله رب العالمين ..
عباد الله.. استعمال الخلق الجميل ، والوقوف مع المستحسن النبيل .. والتحلي بمكارم الصفات ، واجتنابُ معايب المروءات .. كل ذلك حقيقة الأدب ، الذي هو أصل كل خير ، ونواة كل معروف .. فهو الشرف المضي ، والنهجُ المرضي .
لكل شيء زينة في الورى ... وزينة المرء تمام الأدبْ
قد يشــــــرف المــــــرء بآدابـــــهِ ... فينا وإن كان وضيع النسبْ
قد يشــــــرف المــــــرء بآدابـــــهِ ... فينا وإن كان وضيع النسبْ
.. الأدب يا عباد الله .. سلوك الأنبياء ، وشعار الأتقياء ، وديدن الحكماء ، وعلامة الألباء .. ما استعمل عبد الأدب إلا ارتفع، وما جانبه إلا سَفُلَ ووُضِع .. وإذا كان الأدب مع الخلق من أجل المهمات.. فماذا عن الأدب مع الخالق جل جلاله عظيم الصفات ؟
إنه أرفع مراتب الأدب وأعلاها ، وأجلُّها وأزكاها ، فما تأدب متأدب بأحسن من أدبه مع ربه وخالقه، وما أساء امرؤ الأدب بأشنع من إساءته الأدب مع سيده ورازقه ..
فهلموا -أيها الإخوة- لنتذاكر أحوال الأدب مع الله ومقاماتِه .. ولنتلمس مواضع الأدب معه وعلاماتِه .
يقول ابن القيم :: « الأدب مع الله حسن الصحبة مع الله بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء » .
وهو مرتبة عَلِيَّهٌ، ومنزلة عظمى، لا تستقيم للعبد إلا بشروطها، كما قال ابن القيم :: «لا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله تعالى إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب ويكره، ونفسٌ مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق علمًا وعملًا وحالًا» اهـ .
و ذكر أنواع الأدب مع الله فقال: « الأدب مع المولى تبارك وتعالى ثلاثة أنواع: أحدها: صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة. والثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره، والثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه » اهـ .
فهذه الثلاثة جماع الأدب مع الله جل في علاه، وللخلق معها أحوال ومقامات بحسب قربهم وتعظيمهم وإجلالهم لخالقهم وحيائهم من منه جل جلاله .
وأعظم هذه المقامات وأخصها: إخلاص التوحيد لله تعالى، قولا واعتقادًا وعملا، وتنزيهه عن الأنداد والشركاء.
فهل إساءةٌ أعظم من اتخاذ شريك مع الله الواحد الأحد..الخالق الرازق المالك المدبر { الله الذي خلكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون }.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة ا أن النبي ج قال: « قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ » .
تأمل محاورة عيسى عليه السلام لربه كيف هي طافحة بالأدب مع الله وتوحيده حينما قال له: { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} فلم يقل: أنا لم أقل ذلك، بل قال {إن كنت قلته فقد علمته} وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب، ثم أحال الأمر إلى علمه سبحانه بالسر والعلانية واختصاصة سبحانه بعلم الغيب فقال {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} وتأمل بهاء التوحيد في قوله {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} ثم انظر إلى الاعتراف والاقرار بحكمة الله وعدله، وكمال علمه بحال خلقه في قوله {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى في مثل هذا المقام.
ومن مقامات الأدب مع الله تبارك وتعالى: مقابلة نعمه المتتابعة علينا بالشكر والثناء عليه، والتواضع لله بها، وعدم جحدها وكفرها أوالكبر.
هذا سليمان-عليه السلام- لما وهبه الله الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده قال {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأ، أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} .
وسيدنا محمد ج لِمَا أكرمه الله من ختم رسالاته ورفعه بأعلى درجاته يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ويقول: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» .
ولما فتح الله له مكة الفتح العظيم، وبين يديه الناس مؤتمرون بأمره، وكان قبل قد خرج منها مكرها طريدًا، دخل على دابته وهو مطأطئ رأسه تواضعًا وخشوعًا لله حتى إن كاد شعر لحيته ليمس واسطة الرحل.
ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: مراقبة الله في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، فلا يُرى العبد خاليًا مع نفسه أو شاهدًا مع الناس إلا وهو يستشعر اطلاع الله عليه .
في الصحيحين أن النبي ج سئل عن الإحسان فقال: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ » .
إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تقلْ ... خَلَوتُ، ولكن قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... ولا أَنَّ مَا تُخْفِيهِ عَنْهُ يَغِيبُ
عن يعلى بن عبيد قال سفيان الثوري :: لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا لنا . قال: فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله-يعني الملائكة-.ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... ولا أَنَّ مَا تُخْفِيهِ عَنْهُ يَغِيبُ
بل من دقيق الأدب في ذلك أمر النبي ج أن يستر الإنسان عورته وإن كان خاليًا لا يراه أحد، ولما سئل عن الرجل يكون خاليًا أ يستر عورته قال: « اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ»، تأدبًا مع الله المطلع عليه، وحياءً منه .
ومن مقامات الأدب مع الله: نسبة الخير له، ورد الفضل إليه، وترك نسبة الشر والضر إليه وإن كان جل جلاله هو خالقهما ومقدرهما .
فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام لما ذكر الخلق والهداية والرزق نسبها إلى الله تعالى فقال: { الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين }ولما ذكر المرض نسبه لنفسه فقال { وإذا مرضت فهو يشفين} وهذا من رعاية الأدب مع الله تعالى.
ومنه قول أيوب عليه السلام {إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} ، فترك نسبة الضر إلى الله تأدبًا معه سبحانه .
وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة التي خرقها { فَأَرَدْتُ أَنْ أعِيبَهَا } ، ولم يقل: «فأراد ربك» حفظًا للأدب مع الله تعالى بعدم نسبة العيب إليه.
ومن لطيف رعاية الأدب في هذا المقام قول مؤمني الجن { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا }، ولم يقولوا: ( أ شر أراده الله بأهل الأرض) تأدبًا مع الله، وفي إرادة الرشد والهداية صرحوا بذكره جل وعلا.
ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: تعظيم شعائره وحرماته، فيعظم ما عظمه الله من شخص أو زمان أو مكان أو عمل، ويراعي ما يجب له من أدب وحرمة تأدبًا مع الله تعالى.. فيتأدب مع رسول الله ج الأدب اللائق به وبمنزلته، ومع أهل العلم والدين، ومع والديه .. ويتأدب مع الأزمنة المعظمة ومواسم العبادة، ومع الأماكن الشريفة كالبيت الحرام ومسجد النبي ج خاصة ، وبيوت الله عامة في كل مكان ..{ ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب }.
ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: التسليم التام لآياته وأحكامه، وعدم الخوض فيها بغير علم، أو التقول على الله تعالى بغير دليل ،{ فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا }، {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيرِ الحَقِّ وِأَنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَالَم يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
ولذا كانت المجادلة في كتاب الله، واتباع المتشابه من الآيات، وتحكيم العقل عليه دون تحكيمه على العقل غايةً في إساءة الأدب مع الله: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُم الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ. إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}.
رزقني الله وإياكم حسن التأدب معه جل وعلا، وألهمنا رشدنا ، وهدانا صراطه المستقيم،
أقول ما تسمعون ..
الخطبة الثانية
الحمد لله ..
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتأدبوا مع ربكم وراقبوه { إنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} .
عباد الله .. ومن مراعاة الأدب مع الله .. التأدب للصلاة خارجها وداخلها، بالتطهر لها وأخذ الزينة، والسكون فيها والخشوع والطمأنينة ، فترك ذلك من إساءة الأدب مع الله، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«من كمال أدب الصلاة أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقًا، خافضًا طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق» .
وسئل عقبة بن عامر ا عن قوله تعالى: { الذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} أهم الذين يصلون دائمًا؟ فقال: ( لا، ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خَلفَه) .
فتأمل يا رعاك الله كم مضت عليك من السنين مذ وجبت عليك الصلاة.. كم صلاة أسأت فيها الأدب مع الله فأديتها بغير قلب ولا طمأنينة ولا خشوع ، قال الحسن البصري : : «صلاة بلا خشوع هي إلى العقوبة أقرب » .
ومن أحوال التأدب مع الله تعالى: التأدب في دعائه ، بالانكسار له وإظهار الفقر والحاجة إليه دون غيره، وسؤاله بأسمائه وصفاته، وعدم الاعتداء فيه ..{ ادْعُوا رَبَّكُم تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّه لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} .. { قُلْ مَا يَعْبَؤُ بِكُم رَبَي لَولَا دُعَاؤُكُم فَقَد كَذَّبتُم فَسَوفَ يَكُونُ لِزَامًا }
أيها المؤمنون.. أحوال التأدب مع الله كثيرة لا يحصرها عاد ، إذ الشريعة كلها جاءت بمراعاة الأدب مع الله تبارك وتعالى .
فتفكروا رحمكم الله في حالكم مع خالقكم، وأحسنوا الأدب مع مولاكم في جميع حركاتكم وسكناتكم، وكونوا له على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء منه تبارك وتعالى .. فقد قيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل.
ثم صلوا وسلموا ..
المشاهدات 11569 | التعليقات 2
عدلت الآيات ..
منصور الفرشوطي
جزاك الله خير الجزاء
الأيات في الخطبة غير واضحة بارك الله فيك
تعديل التعليق