خطبة : ( اصبروا وصابروا )

عبدالله البصري
1431/05/23 - 2010/05/07 03:35AM
خطبة : ( اصبروا وصابروا ) 23 / 5 / 1431


الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِذَا كَانَ المُسلِمُ في حَيَاتِهِ مُحتَاجًا إِلى التَّحَلِّي بِمَحَامِدِ الأَخلاقِ وَكَرِيمِ الصِّفَاتِ ؛ لِيَعِيشَ في دُنيَاهُ عِيشَةً نَقِيَّةً ، وَيَمُوتَ إِذَا انتَهَى أَجَلُهُ مِيتَةً سَوِيَّةً ، فَإِنَّ الصَّبرَ مِن أَهَمِّ مَا يَحتَاجُ إِلَيهِ في جَوَانِبِ حَيَاتِهِ وَمَجَالاتِهَا المُختَلِفَةِ ، ذَلِكُم أَنَّهُ لا استِقَامَةَ وَلا كَرَامَةَ ، وَلا إِمَامَةَ وَلا زَعَامَةَ ، وَلا فَوزَ وَلا فَلاحَ إِلاَّ بِالتَّحَلِّي بِالصَّبرِ ، إِذْ هُوَ وَقُودٌ وَزَادٌ ، وَقُوَّةٌ في الشَّدَائِدِ وَعَتَادٌ ، يَحتَاجُهُ المَرِيضُ في شَكوَاهُ ، وَلا يَستَغني عَنهُ المُبتَلى في بَلوَاهُ ، وَلَولا الصَّبرُ لَغَرِقَ المَهمُومُ في بُحُورِ هُمُومِهِ ، وَلَغَشَتِ المَحزُونَ سَحَائِبُ غُمُومِهِ .
طَالِبُ العِلمِ بِحَاجَةٍ إِلى الصَّبرِ عَلَى كُتُبِهِ وَدُرُوسِهِ ، وَالدَّاعِيَةُ مَعَ مَدعُوِّيهِ لا يَشُدُّ عَزمَهُ مِثلُ الصَّبرِ ، وَلَن تَرَى أَبًا في بَيتِهِ وَلا مُعَلِّمًا في مَدرَسَتِهِ ولا موظفًا في مُؤَسَّسَتِهِ ، وَلا أُمًّا وَلا زَوجَةً وَلا رَبَّةَ بَيتٍ وَلا خَادِمًا ، إِلاَّ وَهُم في حَاجَةٍ إِلى الصَّبرِ مَاسَّةٍ .
وَعَلَى كَثرَةِ النِّعَمِ الَّتي يُولِيهَا الرَّبُّ ـ جَلَّ وَعَلا ـ لِعِبَادِهِ ، فَإِنَّ الصَّبرَ يَأتي مِنهَا في المُقَدِّمَةِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبرِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
قَالَ الشَّيخُ ابنُ سِعدِيٍّ ـ رَحِمَهُ اللهُ : وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبرُ أَعظَمَ العَطَايَا ؛ لأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أُمُورِ العَبدِ وَكَمَالاتِهِ ، وَكُلُّ حَالَةٍ مِن أَحوَالِهِ تَحتَاجُ إِلى صَبرٍ ، فَإِنَّهُ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتى يَقُومَ بها وَيُؤَدِّيَهَا ، وَإِلى صَبرٍ عَن مَعصِيَةِ اللهِ حَتى يَترُكَهَا للهِ ، وَإِلى صَبرٍ عَلَى أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ فَلا يَتَسَخَّطَهَا ، بَل إِلى صَبرٍ عَلَى نِعَمِ اللهِ وَمَحبُوبَاتِ النَّفسِ ، فَلا يَدَعَ النَّفسَ تَمرَحُ وَتَفرَحُ الفَرَحَ المَذمُومَ ، بَل يَشتَغِلُ بِشُكرِ اللهِ ، فَهُوَ في كُلِّ أَحوَالِهِ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ وَبِالصَّبرِ يَنَالُ الفَلاحَ ا.هـ .
وَلأَهَمِّيَّةِ الصَّبرِ وَعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ وَرِفعَةِ شَأنِهِ ، فَقَد ذَكَرَهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ في كِتَابِهِ في أَكثَرَ مِن تِسعِينَ مَوضِعًا ، فَأَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَن ضِدِّهِ فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوَا وَصَابِرُوا "
وَقَالَ لِنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " فَاصبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَستَعجِلْ لَهُم " وَقَرَنَهُ بِالصَّلاةِ في قَولِهِ : " وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ "
وَجَعَلَ الإِمَامَةَ في الدِّينِ مَورُوثَةً عَنِ الصَّبرِ وَاليَقِينِ بِقَولِهِ : " وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوَا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ "
وَحَتَّى في الأَحوَالِ الَّتي أُبِيحَ فِيهَا لِلمُؤمِنِ أَن يَتَجَاوَزَ مَا يَقتَضِيهِ الصَّبرُ فَيَنتَقِمَ لِنَفسِهِ ، فَقَد نُدِبَ إِلى الصَّبرِ وَحُبِّبَ إِلَيهِ إِتيَانُهُ وَجُعِلَ خَيرًا لَهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَإِنْ عَاقَبتُم فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ "
وَإِنَّ مِن أَعظَمِ الخَيرِ في الصَّبرِ أَنَّ أَجرَهُ لا يُقَدَّرُ وَلا يُحَدَّدُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ "
وَإِذَا وَجَدَ الصَّابِرُونَ في الصَّبرِ مَرَارَةً في الحُلُوقِ وَثِقَلاً عَلَى النُّفُوسِ ، أَتَت مَحَبَّةُ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ لِلصَّابِرِينَ وَمَعِيَّتُهُ لَهُم ، لِتُخَفِّفَ عَنهُم وَطأَتَهُ وَتُهَوِّنَ عَلَيهِم صُعُوبَتَهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَاصبِرُوَا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ "
وَحِينَ يَفرَحُ المُستَعجِلُونَ بمَا يَنَالُونَهُ مِن مَتَاعٍ دُنيَوِيٍّ زَائِلٍ ، أَو يَتَمَتَّعُونَ بِتَحقِيقِ مَا يَتَمَنَّونَهُ مِن أَمَانِيَّ قَرِيبَةٍ ، يَأتي فَلاحُ الصَّابِرِينَ وَفَوزُهُم بِالجَنَّةِ مُطَمئِنًا لَهُم بِأَنَّ لَهُمُ العَاقِبَةَ الحَسَنَةَ وَالمَتَاعَ الجَمِيلَ في الآخِرَةِ ؛ لِئَلاَّ يَيأَسُوا مِن رَوحِ اللهِ أَو يَقنَطُوا مِن رَحمَتِهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ " وقَالَ ـ تَعَالى ـ في أَهلِ الجَنَّةِ : " إِنِّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بما صَبَرُوا أَنَّهُم هُمُ الفَائِزُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بَابٍ . سَلامٌ عَلَيكُم بما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبى الدَّارِ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " أُولَئِكَ يُجزَونَ الغُرفَةَ بما صَبَرُوا " وَعَن عَطَاءِ بنِ أَبي رَبَاحٍ قَالَ : قَالَ لي ابنُ عَبَّاسٍ : أَلا أُرِيكَ امرَأَةً مِن أَهلِ الجَنَّةِ ؟ فَقُلتُ : بَلَى . قَالَ : هَذِهِ المَرأَةُ السَّودَاءُ ، أَتَتِ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَت : إِنِّي أُصرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادعُ الله لي . قَالَ : " إِنْ شِئتِ صَبَرتِ وَلَكِ الجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئتِ دَعَوتُ اللهَ أَن يُعَافِيَكِ " فَقَالَت : أَصبِرُ . فَقَالَت إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادعُ اللهَ لي أَلاَّ أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَأمَّا حِينَ يَكبُرُ مَكرُ الأَعدَاءِ وَيَعظُمُ كَيدُهُم وَيَشتَدُّ أَذَاهُم ، فَإِنَّ الصَّبرَ وَالتَّقوَى هُمَا خَيرُ عِلاجٍ وَأَنجَعُ وَسِيلَةٍ لإِبطَالِ كَيدِهِم وَإِخمَادِ عَدَاوَتِهِم ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَإِنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُم كَيدُهُم شَيئًا إِنَّ اللهَ بما يَعمَلُونَ مُحِيطٌ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَعْ بِالَّتي هِي أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ "
وَكَمَا امتَدَحَ اللهُ الصَّبرَ في كِتَابِهِ وَأَثنى عَلَى أَهلِهِ ، فَقَد وَرَدَت فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ لِلصَّبرِ في السُّنَّةِ ، يَكفِي المُسلِمَ أَن يَسمَعَ فِيهَا كَلامَ الحَبِيبِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لِتَشتَاقَ نَفسُهُ أَن يَكُونَ مِن أُولَئِكَ العِليَةِ الأَخيَارِ ، الحَائِزِينَ عَلَى ذَلِكَ المَدحِ وَتِلكَ الفَضَائِلِ ، فَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " الصَّبرُ ضِيَاءٌ " وَرَوَى البُخَارِيُّ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ قَالَ : إِذَا ابتَلَيتُ عَبدِي بِحَبِيبَتَيهِ فَصَبَرَ عَوَّضتُهُ مِنهُمَا الجَنَّةَ " وَفيهِ أَيضًا أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " يَقُولُ اللهُ ـ تَعَالى ـ : مَا لِعَبدِي المُؤمِنِ عِندِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضتُ صَفِيَّهُ مِن أَهلِ الدُّنيَا ثُمَّ احتَسَبَهُ إِلاَّ الجَنَّةُ " وَفي المُسنَدِ وَسُنَنِ التِّرمِذِيِّ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " وَاعلَمْ أَنَّ في الصَّبرِ عَلَى مَا تَكرَهُ خَيرًا كَثِيرًا ، وَأَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا " وَفي سُنَنِ التِّرمِذِيِّ وَابنِ مَاجَه وَمُسنَدِ أَحمَدَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " المُؤمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم أَعظَمُ أَجرًا مِنَ المُؤمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم " وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " عَجَبًا لأَمرِ المُؤمِنِ ، إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ ، وَلَيسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ ، إِنْ أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَظَلُّ الصَّبرُ لِلمُسلِمِ سِرَاجًا في دُرُوبِ الحَيَاةِ وَهَّاجًا ، وَنُورًا في ظُلُمَاتِ الفِتَنِ مُبِينًا ، وَرَفيقًا في الغُربَةِ مُؤنِسًا ، حَتَّى إِذَا وَصَلَت الفِتَنُ إِلى مِثلِ هَذَا العَصرِ الَّذِي نَحنُ فِيهِ ، حَيثُ تَكَالَبَت عَلَى المُسلِمِينَ فِتَنُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، وَاجتَمَعَ عَلَيهِم مَكرُ الأَعدَاءِ وَضَعفُ الأَولِيَاءِ ، فَإِنَّهُ لا عِلاجَ إِلاَّ تَجَرَّعُ الصَّبرِ مَعَ إِحسَانِ العَمَلِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامَ الصَّبرِ ، لِلمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَومَئِذٍ بما أَنتُم عَلَيهِ أَجرُ خَمسِينَ مِنكُم " قَالُوا : يَا نَبيَّ اللهِ ، أَو مِنهُم ؟ قَالَ : " بَلْ مِنكُم " صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ وَاصبِرُوا " إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ " وَمَن لم يَكُن مَجبُولاً عَلَى الصَّبرِ فَلْيَتَصبَّرْ وَليُجَاهِدْ نَفسَهُ عَلَيهِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ " إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ وَإِنَّمَا الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ وَمَن يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ " حَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " وَمَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَالعَصرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَمَعَ اقتِضَاءِ الصَّبرِ حَبسَ النَّفسِ عَلَى المَكَارِهِ وَتَحَمُّلَ بَعضِ المَشَاقِّ ، فَإِنَّهُ لا يَعني أَن يَتَوَقَّفَ المَرءُ في مَكَانِهِ وَيَستَسلِمَ ، بَل لَقَد طُلِبَ مِنهُ أَن يَتَصَرَّفَ بما يُخَفِّفَ مُصَابَهُ ، وَأَن يَحرِصَ عَلَى مَا يَنفَعُهُ وَيَبذُلَ مِنَ الأَسبَابِ مَا يَجلِبُ لَهُ الخَيرَ وَيَدفَعُ عَنهُ السُّوءَ بِرَحمَةِ اللهِ ، حَتَّى لَقَد أُذِنَ لَهُ فِيمَا يُخَفِّفُ بِهِ أَلَمَ نَفسِهِ وَيُبَرِّدُ بِهِ مَضَضَ قَلبِهِ ، مِن بُكَاءٍ لا صِيَاحَ مَعَهُ وَلا عَوِيلَ ، وَمِن دَمعِ عَينٍ تَقتَرِنُ بِهِ رَحمَةُ قَلبٍ ، فَفِي الصَّحِيحَينِ مِن حَدِيثِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى ابنِهِ إِبرَاهِيمَ وَهُوَ في سَكَرَاتِ المَوتِ ، فَجَعَلَت عَينَاهُ تَذرِفَانِ ، فَقَالَ لَهُ عَبدُالرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ : وَأَنتَ يَا رَسُولَ اللهِ ! فَقَالَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ العَينَ تَدمَعُ وَالقَلبَ يَحزَنُ ، وَلا نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرضِي رَبَّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبرَاهِيمُ لَمَحزُونُونَ " وَفِيهِمَا أَيضًا مِن حَدِيثِ أُسَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ حِينَ بَكَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لِخُرُوجِ رُوحِ ابنِ ابنَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ سَعدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا هَذَا ؟! فَقَالَ : " هَذِهِ رَحمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرحَمُ اللهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ "
وَقَد أَثنَى ـ تَعَالى ـ عَلَى أَيُّوبَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ بِالصَّبرِ بِقَولِهِ : " إِنَّا وَجَدنَاهُ صَابِرًا نِعمَ العَبدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ " مَعَ أَنَّهُ ـ تَعَالى ـ أَخبَرَ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ قَد دَعَا بِرَفعِ الضُّرِّ عَنهُ بِقَولِهِ : " وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ "
كَمَا أَنَّ مِمَّا لا يُنَافي الصَّبرَ أَن يُبَثَّ المُسلِمُ شَكوَاهُ لِقَرِيبٍ أَو يَبُوحَ بِهَمِّهِ لِحَبِيبٍ ، مَا دَامَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ غَيرَ سَاخِطٍ لَهُ وَلا جَازِعٍ مِنهُ ، فَفِي سُنَنِ ابنِ مَاجَه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : رَجَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ البَقِيعِ فَوَجَدَني وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا في رَأسِي وَأَنَا أَقُولُ : وَا رَأسَاهُ ! فَقَالَ : " بَل أَنَا يَا عَائِشَةُ وَا رَأسَاهُ " حَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
اللَّهُمَّ اجعَلْنَا ممَّن إِذَا أُعطِيَ شَكَرَ ، وَإِذَا ابتُلِيَ صَبَرَ ، وَإِذَا أَذنَبَ استَغفَرَ .
المشاهدات 6034 | التعليقات 4

جزاك الله خير الجزاء وأجزل لك المثوبة على هذه الخطبة الرائعة


وجزاك المولى خيرًا على تفضلك بقراءتها ، وعسى الله أن ينفعنا جميعًا بما نكتب ورزقنا الإخلاص فيه ، وجعله في ميزان الحسنات ، إنه جواد كريم .


الصبر كالصبر مر في مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل


خطبة متميزة
ومدعومة بالأدلة الوافرة
شكر الله سعي كاتبها
ونفع بها كل من نظر فيها
أو قرأها
أو خطب بها
أواستمع إليها