خطبة استحضار مناجاة الله في الصلاة - الجزء الأول(قسم المناجاة من كلام ابن القيم)

محمد بن عبدالله التميمي
1441/06/18 - 2020/02/12 19:37PM

الحمد لله الوليِّ الحميد، المبدئِ المعيد، الفعالِ لما يريد، أحمده حمد المخلصين، وأتقيه وأتوكل عليه توكُّلَ الموقنين، وأستشهد به وأستعينه استعانةَ المُذْعِنِين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيزُ الوهاب، القديرُ الغلاب، غفارُ الذنوب، وستارُ العيوب، وقابلُ التوب ممن يتوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه سراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ونهج شرائع الملة، وعَبَدَ ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله.. فإن من صابر الهوى رَبِحَ واستفاد , ومن غَفَلَ فإنه المراد، السعيدُ من اعتبر , وتفكَّر في العواقب ونظر، فلا نكن عن السلف غافلين عما نالوا، فنميل عن التقوى وما مالوا , ما أطيبَ ليلهم في المناجاة , وما أقربَهم من طريق النجاة، فنال كلٌّ منهم ما رجاه , فلهم عنده أعظم قدرٌ وجَاه .

عباد الله.. إن في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة ما لا يُدرِكُ مداه إلا من اصطفاه الله واجتباه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد بلغ في هذا الباب مبلغا بعيد مداه، فهو إمام هؤلاء وأكملُهم، ولهذا لما عُرج به إلى السماوات، وعاين ما هناك من الآيات، وأُوحي إِلَيْهِ مَا أُوحِي من أنواع المناجاة، ولقد رخص الله للعباد في المناجاة بالصلوات، كيفما تقلبت بهم الحالات، في الجماعات والخلوات، ولم يقتصر على الرخصة بل تلطف بالترغيب بما في ذلك من جزيل الهبات، فسبحانه ما أعظم شأنه وأقوى سلطانه وأتم لطفه وأعم إحسانه، قال بكر المزني: (من مثلك يا ابن آدم خلى بينك وبين المحراب وبين الماء، كلما شئت دخلت على الله عز وجل، وليس بينك وبينه ترجمان) .

عباد الله.. ما منا إلا مناج ربه فِي كل صلاة، فعلى العبد أن يجتهد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، ويتدبر القراءة والذكر والدعاء، ويستحضر أنه مناج لله تعالى كأنه يراه، فإن المصلي إذا كان قائما فإنما يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه، في الصحيحين من حديث أنس بن مالك ¢ أنه ‘ قال: "إن المؤمنَ إذا كان في الصلاةِ، فإنما يُناجي ربَّه" والصلاة محك ميزان الإيمان، بها يوزن إيمان الرجل و يتحقق حالَه ومقامَه ومقدارَ قربه من الله، ولا شيء أقر لعين العبد المؤمن ولا ألذَّ لقلبه ولا أنعمَ لعيشه منها، فإذا قام إلى الصلاة هرب من سوى الله إليه وآوى عنده واطمأن بذكره، كأنه في سجن وضيق وغم حتى تحضر الصلاة فيجد قلبه قد انفسخ وانشرح واستراح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: "يا بلال، أرحنا بالصلاة" وقال ‘ : "وجُعلت قرة عيني في الصلاة" ومن كان قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه ولا أنعم عنده منها، ويودّ أَن لو قطع عمره بها غير مشتغل بغيرها، وإنما يُسلِّي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب فهو دائماً يثوب إليها ولا يقضى منها وطراً .

عباد الله.. لما كانت الصلاة مناجاة فإنه لا يصح أن تكون مع الغفلة، ففتش عبد الله على القلب الضائع قبل الشروع في الصلاة فحضور القلب أول منزل من منازل الصلاة فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى، فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة، فكان أول قرى ضيف اليقظة كشف الحجاب لعين القلب فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية بعد، وقد تبعث قلبك في كل واد فربما تفجأك الصلاة وليس قلبك عندك فتبعث الرسول وراءه فلا يصادفه فتدخل في الصلاة بغير قلب. وحضور القلب سببه الهمة فإن القلب تابع للهمة فلا يحضر إلا فيما يهُمُّ العبد، فمهما أهم العبد أمر حضر القلب فيه شاء أم أبى، وهكذا إذا حضر بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على الضر والنفع، فإذا كان القلب لا يحضر عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع والضر فلا تظنن أن له سببا سوى ضعف الإيمان فاجتهد .. في تقوية الإيمان، ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها لا ليتزود منها ولا ليستعين بها على الآخرة فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة، ولا بد أن يكون المؤمن معظما لله عز وجل وخائفا منه وراجيا له ومستحييا من تقصيره فلا ينفك عن استحضار هذا، ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يذكر الآخرة وخَطَرِ المـُقام بين يدي الله سبحانه وهو المطلع، ويُفَرّغ قلبَه قبل التحريم بالصلاة عما يهمه فلا يترك لنفسه شغلا يلتفت إليه خاطره .

عباد الله.. على كل أحد منا إذا فرغ من وضوئه وأقبل على الصلاة أن يخطر بباله أنه طهر ظاهره وهو موضع نظر الخلق فعليه أن يستحي من مناجاة الله تعالى من غير تطهير قلبه وهو موضع نظر الرب، ثم إنه إذا استشعر بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره فلا يكون مُوفِّيا لمعنى (الله أكبر) ولا مؤديا لحق هذا اللفظ، وهذا بإجماع السلف أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضره بقلبه، فقبيح بالعبد أن يقول بلسانه الله أكبر ولا يحضر قلبه بين يدي ربه في شيء منها، فهذا الباب الذي يدخل منه المصلى وهو التحريم، وأما الباب الذي يخرج منه فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماء الحسنى فيكون مفتتحا لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتما لها باسمه فيكون ذاكرا لاسم ربه أول الصلاة وآخرها مع ما في اسم السلام من الخاصية والحكمة المناسبة لانصراف المصلي من بين يدي الله تعالى فإن المصلي ما دام في صلاته بين يدي ربه فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره بل هو في حمًى من جميع الآفات والشرور {فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين} وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" بارك الله لي ولكم في الكتاب العظيم وسنة نبينا الكريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا به وتوحيدا ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا مزيدًا، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله في وقوفكم بين يدي الله، وأولى ذلك بالوصية من تفوه به ووصف بعض معناه، وبعضٌ آخر في مقام آخر يُتبع إياه، وإن ذلك لباب المناجاة يُدني، وللقلب من طيب نعيم أهل الجنة يُذكي، قال بعض العلماء: (ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملّق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة) وإن لهؤلاء من الرجاء العظيم والنصيب الأوفر على معنى خوفهم ما لا يسع أن يذكر، فطلبهم برجائهم وحسن ظنهم بما هو لهم لا يصفه إلا هم ولا يعرفه سواهم، والله المستعان .

المرفقات

خطبة-استحضار-مناجاة-الله-في-الصلاة-1

خطبة-استحضار-مناجاة-الله-في-الصلاة-1

المشاهدات 1837 | التعليقات 0