خطبة : ( احتفالات الفرح بين المشروع والممنوع )

عبدالله البصري
1445/11/22 - 2024/05/30 11:54AM

احتفالات الفرح بين المشروع والممنوع      23/ 11/ 1445

 

 

الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ " وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِمَّا يَتَكَرَّرُ بَينَ حِينٍ وَآخَرَ ، احتِفَالاتٌ تُقَامَ هُنَا وَهُنَاكَ ، تُعلَنُ بِهَا الفَرحَةُ بِنِعمَةٍ حَلَّت ، أو إِنجَازٍ تَحَقَّقَ أَو نَجَاحٍ أُدرِكَ ، وَمِن ذَلِكَ مَا يُقَامُ في آخِرِ كُلِّ عَامٍ دَرَاسِيٍّ ، فَرَحًا بِنَجَاحِ الأَبنَاءِ وَالبَنَاتِ وَتَخَرُّجِهِم في المَدَارِسِ وَالجَامِعَاتِ ، وَالفَرَحُ بِنِعمَةِ اللهِ أَيًّا كَانَت ، دُنيَوِيَّةً أَو أُخرَوِيَّةً ، أَو فَردِيَّةً أَو جَمَاعِيَّةً ، وَالفَرَحُ لِلآخَرِينَ بِالخَيرِ وَتَشجِيعُهُم عَلَيهِ وَمُشَارَكَتُهُم في فَرَحِهِم ، هُوَ نَهجُ النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ وَالأَروَاحِ الرَّضِيَّةِ ، وَشَأنُ طَيِّبي القُلُوبِ المُحَبِّينَ لِلنَّاسِ مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّونَهُ لأَنفُسِهِم ، وَمَا أَجمَلَهُ وَأَبهَاهُ وَأَحسَنَهُ ، مَا دَامَ عَلَى سَبِيلِ الاعتِرَافِ بِالنِّعمَةِ وَشُكرِهَا وَحَمدِ اللهِ عَلَيهَا ، وَتَشجِيعِ المُجتَهِدِينَ وَإِبرَازِ جُهُودِ المُنجِزِينَ ، وَحَثِّ الآخَرِينَ عَلَى التَّقَدُّمِ في كُلِّ مَا يَنفَعُهُم في دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم ، وَمَا زَالَ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَفرَحُونَ في الأَعيَادِ ، وَإِذَا تَزَوَّجُوا أَو رُزِقُوا بِمَالٍ أَو أَولادٍ ، أَو في غَيرِ ذَلِكَ مِن مُنَاسَبَاتٍ يَدخُلُ عَلَيهِم فِيهَا السُّرُورُ ، لَكِنَّ بَعضَ الاحتِفَالاتِ في السَّنَوَاتِ الأَخِيرَةِ ، قَد تَخَرُجُ عَن غَايَاتِهَا الجَمِيلَةِ وَأَهدَافِهَا النَّبِيلَةِ ، لِتَظهَرَ بِوُجُوهٍ قَبِيحَةٍ وَأَشكَالٍ مُنكَرَةٍ ، بِمَا فِيهَا مِن تَجَاوُزَاتٍ وَمُخَالَفَاتٍ ، وَمَا تَنطَوِي عَلَيهِ مِن إِسرَافٍ وَتَبذِيرٍ وَتَشدِيدٍ وَتَعِسِيرٍ ، يُكَلَّفُ فِيهِ الغَنيُّ وَيُحرَجُ الفَقِيرُ ، أَو بِمَا يَقَعُ في بَعضِهَا وَيَحصُلُ مِن مُنكَرَاتٍ كَالرَّقصِ وَالغِنَاءِ وَالتَّصوِيرِ ، وَمِن ثَمَّ كَانَ عَلَى النَّاسِ أَن يُرَاقِبُوا أَنفُسَهُم وَمَن تَحتَ أَيدِيهِم وَمَن وَلاَّهُمُ اللهُ أَمرَهُم ، وَيَحرِصُوا عَلَى أَلاَّ يَكُونُوا مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ دَالِّينَ عَلَى الضَّلالِ ، دَاعِينَ إِلى مُخَالَفَاتٍ وَانحِرَافَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ ، قَد تَبدَأُ صَغِيرَةً قَلِيلَةً ، ثم تَكبُرُ مَعَ الأَيَّامِ وَتَكثُرُ ، لِتُصبِحَ عَادَاتٍ مُتَأَصِّلَةً في النُّفُوسِ ، يُعَابُ مَن لم يَفعَلْهَا وَإِن كَانَ عَلَى صَوَابٍ ، وَيُمدَحُ مَن يَأتِيهَا وَإِن كَانَ عَلَى خَطَأٍ . أَجَل أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الطُّرُقَ المُنحَرِفَةَ وَالجَوَادَّ المَائِلَةَ عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، تَبدَأُ بِمَيلٍ قَلِيلٍ عَن الطَّرِيقِ الوَاضِحِ ، وَابتِعَادٍ يَسِيرٍ عَنِ النَّهجِ المَسلُوكِ ، ثم يَتَتَابَعُ الضَّائِعُونَ عَلَيهَا وَيُقَلِّدُ بَعضُهُم بَعضًا ، حتى يَهلِكُوا جَمِيعًا أَو يَهلِكَ أَكثَرُهُم ، وَلا يَبقَى إِلاَّ مَن رَحِمَهُ اللهُ وَهَدَاهُ ، وَمَنَّ عَلَيهِ بِالرُّجُوعِ إِلى الأَصلِ الصَّحِيحِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَهمَا اغتَنَينَا وَكَثُرَت أَموَالُنَا ، أَوِ ارتَفَعَت مُستَوَيَاتُنَا وَتَحَسَّنَت أَحوَالُنَا ، فَاشرَأَبَّت إِلى الشَّرفِ وَالعِزِّ أَعنَاقُنَا ، وَشَمَخَت بِمَا حَصَّلنَاهُ أُنُوفُنَا ، فَإِنَّنَا مَا زِلنَا عِبَادَ اللهِ الفُقَرَاءَ إِلَيهِ ، المَخلُوقِينَ لِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ ، وَبَينَ أَيدِينَا كِتَابُهُ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ ، وَبَقَاؤُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ قَصِيرٌ وَإِن طَالَ ، وَتَنَعُّمُنَا بِهَا قَلِيلٌ وَإِن كَثُرَ ، وَمَا طَارَ طَيرٌ وَارتَفَعَ ، إِلاَّ كَمَا طَارَ وَقَعَ ، وَالنَّجَاحُ الحَقِيقِيُّ الَّذِي يَستَحِقُّ أَن يَفرَحَ بِهِ المُسلِمُ ، هُوَ نَجَاحُهُ في تَعَبُّدِهِ لِرَبِّهِ وَطَاعَتِهِ لِخَالِقِهِ ، وَاتِّبَاعِهِ سُنَّةَ نَبِيِّهِ وَتَمَسُّكِهِ بِهَا ، وَكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَستَمِرُّ عَلَيهِ ، أَو إِحسَانٍ يَبذُلُهُ ، أَو بِرٍّ يُخلِصُ للهِ فِيهِ ، أَو فِعلِ مَعرُوفٍ وَإِعَانَةٍ عَلَيهِ ، أَو تَركِ مُنكَرٍ وَتَحذِيرٍ مِنهُ " قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ " وَمَعَ هَذَا فَلا بَأسَ بِالفَرَحِ بِمَا نَالَهُ أَحَدُنَا مِنَ المُبَاحِ ، عَلَى أَن يَكُونَ في حُدُودِ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَحِرصٍ عَلَى عَدَمِ انتِهَاكٍ لِلمُحَرَّمَاتِ ، أَمَّا الغِنَاءُ وَالطَّرَبُ ، وَالفَرَحُ وَالبَطَرُ ، الَّذِي يَخرُجُ بِهِ الرَّجُلُ أَوِ المَرأَةُ في هَيئَةٍ لا تُرضِي اللهِ في لِبَاسٍ أَو كَلامٍ أَو رَقصَةٍ أَو قَصَّةِ شَعرٍ أَو غَيرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَهُوَ مِمَّا يُخرِجُ الفَرَحَ عَن كَونِهِ فَرَحًا إِلى أَن يَدخُلَ في حَيِّزِ الأَشَرِ وَالبَطَرِ وَالفَخرِ ، وَقَد قَالَ تَعَالى عَن قَومِ قَارُونَ : " إِذْ قَالَ لَهُ قَومُهُ لا تَفرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ " أَيْ لا تَبطَرْ وَلا تَطغَ وَلا تَنهَمِكْ في هَذِهِ الدُّنيَا وَزِينَتِهَا وَتَفتَخِرْ بِهَا ، إِلى أَن تُلهِيَكَ عَنِ الآخِرَةِ ؛ فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الأَشِرِينَ البَطِرِينَ ، الَّذِينَ يَنكَبُّونَ عَلَى زِينَةِ الدُّنيَا وَمَتَاعِهَا وَيَنغَمِسُونَ فِيهِ ، وَلا يَشكُرُونَهُ تَعَالى عَلَى مَا وَهَبَهُم وَأَعطَاهُم ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ، وَلْنَحفَظِ النِّعَمَ بَالاعتِرَافِ بِأَنَّهَا مِنَ اللهِ وَحدَهُ ، ثُمَّ بِشُكرِهِ عَلَيهَا قَولاً وَعَمَلاً ، وَلْنَفرَحْ في حُدُودِ مَا لا يُغضِبُهُ ، قَالَ تَعَالى : " وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " اِعمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكرًا وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتي أَخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعلَمُونَ . قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكُوا بِاللهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعلَمُونَ "

 

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاذكُرُوهُ وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ مَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ ، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنيٌّ كَرِيم  .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، شَأنُ المُسلِمِ في حَيَاتِهِ هُوَ التَّوَسُّطُ ، وَطَرِيقُ فَلاحِهِ هُوَ القَنَاعَةُ وَالرِّضَا ، فَلا هُوَ بِالَّذِي يَحزَنُ عَلَى مَا فَاتَهُ حُزنًا يُقَطِّعُ قَلبَهُ ، وَلا هُوَ بِالمُختَالِ اختِيَالاً يُخرِجُهُ عَن حُدُودِ الدِّينِ وَالعَقلِ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " لِكَيلا تَأسَوا عَلَى مَا فَاتَكُم وَلا تَفرَحُوا بِمَا آتَاكُم وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ " وَإِنَّ المَعَاصِيَ وَإِن كَانَت كُلُّهَا مَمقُوتَةً ، فَإِنَّ أَسوَأَهَا أَثَرًا مَا كَانَ مِنهَا عِندَ حُلُولِ نِعمَةٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمقُتُهُ اللهُ وَيَمقُتُ أَهلَهُ ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " صَوتَانِ مَلعُونَانِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ : مِزمَارٌ عِندَ نِعمَةٍ ، وَرَنَّةٌ عِندَ مُصِيبَةٍ " رَوَاهُ البَزَّارُ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَد يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَن يَدعُو إِلى التَّوَسُّطِ يَدعُو لِقَتلِ الفَرَحِ كَمَا يَحلُو لِبَعضِهِم أَن يَقُولَ ، وَهَذَا غَيرُ صَحِيحٍ ، فَلا عَاقِلَ يَمنَعُ النَّاسَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِمَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُم ، وَلا الفَرَحِ بِمَا نَالُوهُ وَحَصَّلُوهُ ، لَكِنَّ المَمنُوعَ المُستَنكَرَ ، أَن تَطغَى لَحَظَاتٌ مِنَ الفَرَحِ العَابِرِ عَلَى العُقُولِ ، فَيُبَالَغُ فِيمَا يُمكِنُ أَن يَحصُلَ بِتَوَسُّطٍ وَقَلِيلٍ مِنَ الجُهدِ ، وَيُحمَّلُ مُتَوَسِّطُو الحَالِ مَا لا يَحتَمِلُونَ ، وَيُحرَمُونَ مِنَ المُشَارَكَةِ في الفَرَحِ لأَنَّهُم لا يَستَطِيعُونَ أَن يَصِلُوا إِلى مَا يُقَدِّمُهُ مَن يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ وَأَغنَاهُ ، وَقَد صَحَّ ذَمُّ مِثلِ هَذَا في قَولِ النَّبيِّ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ : " شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ ، يُمنَعُهَا مَن يَأتِيهَا ، وَيُدعَى إِلَيهَا مَن يَأبَاهَا ..." وَفي لَفظٍ : " شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ ، يُدعَى لَهَا الأَغنِيَاءُ وَيُترَكُ الفُقَرَاءُ " فَوَلِيمَةُ العُرسِ المَشرُوعَةِ شُكرًا لِنِعمَةِ النِّكَاحِ ، وَإِشهَارًا وَإِعلانًا لَهُ ، وَإِظهَارًا لِلسُّرُورِ وَالفَرَحِ ، تَكُونُ مَذمُومَةً إِذَا خُصَّ بِهَا الأَغنِيَاءُ دُونَ الفُقَرَاءَ ، لأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَكَبُّرِ صَاحِبِهَا ، وَقَد يُقَاسُ عَلَى وَلِيمَةِ العُرسِ في هَذَا الوَلائِمُ العَامَّةُ وَالاحتِفَالاتُ الَّتي يَكُونُ سَبَبُهَا السُّرُورَ ، كَالعَقِيقَةِ أَو رَجُوعِ مُسَافِرٍ ، أَو نَجَاحِ الأَبنَاءِ وَالطُّلاَّبِ وَنَحوِ ذَلِكَ . فَنَسأَلُ اللهَ أَن يَجعَلَنَا مِن عِبَادِهِ الَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا تَوَسَّطُوا فَلَم يُسرِفُوا وَلم يَقتُرُوا .

المرفقات

1717059212_احتفالات الفرح بين المشروع والممنوع.docx

1717059212_احتفالات الفرح بين المشروع والممنوع.pdf

المشاهدات 916 | التعليقات 0