خطبة /إن السعيد لمن جنب الفتن

أسامة كمال ساحلي
1441/06/06 - 2020/01/31 04:06AM

أما بعد -أيها المسلمون-: فإن مما لا شك فيه ولا ارتياب؛ أن السعادة مقصد كل إنسان، وغاية ينشدها وهدف يطلبه، فكل عاقل يتمنى لنفسه السعادة ولا يريد لها الشقاء.

وقد اختلفت طرائق الناس في طلب السعادة، فتلمسوها في غير مظانها، وتأملوها في غير مكانها، فكان الموفقون لطريقها قلائل، والموفق من وفقه الله عز وجل.

أيها الإخوة في الله: إن من طلب السعادة في غير طاعة_الله؛ فقد -والله- ضل سواء السبيل، وكان شقيا في هذه الدنيا وله في الآخرة عذاب وبيل، هذا أمر مسلم عند أهل الحق، لا نزاع فيه ولا تأويل، فلا سعادة من غير سلوك الصراط المستقيم، ونهج المنهج الحق القويم.

ومع هذا فإن كثيرا من أهل الهدى والصلاح قد ترد عليهم واردات، وتنزل بهم نوازل، تضرب في استقرار سعادتهم، فتحدث فيهم اضطرابا، وتكدر طمأنينتهم، وتشوب هناءهم، وتؤثر في عنصر سعادتهم الأساس: صلتهم بربهم عز وجل.

الفتن ما الفتن!

إن الفتنة إذا نزلت بالناس -يا سلمكم الله- شتتت أذهانهم، وأقلقتهم وأزعجتهم،وألحقت بهم من العنت ما الله به عليم، فتذهب رونق سعادتهم، وتجعلهم في حرج وضيق، نسأل الله السلامة والعافية.

يقول الإمام مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى:

*إن الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن تجيء تقارع المؤمن عن دينه*

 

ولهذا كانت السعادة حق السعادة في السلامة من الفتن، وكان السعيد حقا وصدقا من جنبه الله عز وجل الفتن.

يقول المقداد بن الأسود رضي الله عنه: وايم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

*إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر: فواها**واها*: كلمة معناها التلهف، وقد توضع للإعجاب بالشيء.

والمعنى: فمن ابتلي فصبر فما أحسن حاله وما أطيبها.

والحديث أخرجه الإمام أبو داود في "سننه"وحسنه العلامة مقبل الوادعي رحمه الله.

*إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر: فواها*

ولنا وقفات مع هذا الحديث المبارك العظيم:

اعلم -يا عبد الله- أن الفتنة على قسمين: فتنة الشهوات وفتنة الشبهات:

أما فتنة الشهوات فترجع إلى فتنة النساء والمال على وجه الغالب.

وأما فتنة الشبهات فأنواع منها:

فتنة الكفر، وفتنة البدعة، والفتنة التي تصيب أهل السنة.

 

وإن السعيد حقا من جنبه الله سبحانه وتعالى الفتن بجميع أنواعها، وسلمه منها ووقاه شرها، فإن التوفيق بيده وحده سبحانه، والفضل فضله وحده لا شريك له.

وإن أعظم درس نستفيده من هذا الحديث المبارك؛ أن البعد عن الفتن ومجانبتها وعدم التعرض لها والخوض فيها: خير عظيم وبركة وفلاح، ونجاح وسعادة في الدنيا والآخرة، فتأمل -يا وفقك الله- كيف كرر النبي صلى الله عليه وسلم قوله:

*إن السعيد لمن جنب الفتن* ثلاث مرات؛ وذلك مبالغة منه صلوات الله وسلامه عليه في تأكيد المباعدة عن الفتن ومجانبتها، والهروب بالنفس منها ومن مظانها، وطلب العافية والسلامة، فهذا الحديث أصل في النهي عن التطلع للفتن وفي النهي عن السعي في الفتن.

فالمسلم لا ينبغي له أن يطلب الفتن ويبرز نفسه لها ويقحم نفسه فيها ويورطها في إشكالاتها وتبعاتها ويذيق نفسه حرها وشررها ونارها، بل المطلوب منه أن يتجنبها وأن يبتعد عنها وأن يسعى في السلامة من شرورها.

 

في "سنن أبي داود" -أيها الأحبة- عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

*من سمع بالدجال فلينأ عنه -أي فليبتعد عنه-، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات* صححه العلامة مقبل الوادعي رحمه الله.

فيا سبحان! يأتيه الرجل مؤمنا فلا يزال يقذف في قلبه الشبهات ويعرض عليه فتنته، حتى يتبعه ويدع دينه، فكان الحزم أن يبتعد عنه المؤمن من أول الأمر ويجتنبه وفتنته:

*من سمع بالدجال فلينأ عنه*

فتجنب الفتن مقصد شرعي، لا التصدر لها وتوريط النفس فيها، بل المسلم يتعوذ بالله ويسأل الله العافية، فالعافية لا يعدلها شيء، وقد جاء في أدعية كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم سؤال الله جل وعلا العافية.

 

إخوة الإيمان: فَرْقَدُ السَّبَخي رجل من العباد والزهاد على عهد الحسن البصري، رحهما الله تعالى، وكان على درجة كبيرة من الورع والزهد، قال يوما للحسن البصري:

على ودي ان الدجال قد خرج وبيدي راية وانا بين يديك

الله أكبر! يريد أن يدرك خروج الدجال وان يذهب إليه، يطلب البلاء ويسأل الفتنة عفا الله عنه، بل كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

*ما بين خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أكبر من فتنة الدجال*

فاسمع إجابة العالم المحقق الرباني، قال الحسن البصري رحمه الله:

*اللهم ان فرقدا يسالك البلاء ونحن نسالك العافية

 

فالسلامةُ لاَ يعْدِلُها شيء، والعافية خير كثير

وهذا بخلاف ما نراه من كثير من المسلمين، وبخاصة الشباب، فترى الواحد منهم يتقحم مواطن الفتن من غير مبالاة، فلا يلبث حتى يسقط في الفتنة، والمعصوم من عصمه الله، ولنضرب لذلك أمثلة، فبالمثال يتضح المقال:

فتنة المال؛ يدخل الرجل في أعمال مشبوهة قد حاطتها الشبهة من كل جهة، ثم ما هي إلا مدة حتى يدخل في الأعمال المحرمة قطعا، وما ذلك إلا أنه لم يطلب السلامة من بداية الأمر، وحام حول الفتنة، فكان جزاؤه أن وقع فيها والعياذ بالله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: *لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي في المال*.

فتنة النساء؛ يطلق الرجل بصره، ولا يغض منه ولا يقيده، ولا يتصون من اختلاط ولا غيره، والنساء قد ملأن الشوارع والطرقات، والأسواق والمحلات، والهواتف والشاشات، وقد أسفرن عن مفاتنهن وإلى الله المشتكى، فترى الشاب مفتونا مريض القلب، لماذا؟ لأنه لم يقطع عن نفسه أسباب الفتنة بل باشرها، فكان جزاؤه أن أصابته لوثة من شروها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: *ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء*.

ولا أنسى فتنة النساء بالرجال، وأعظم بها من فتنة، تجد الفتاة تخالط الشباب وتحادثهم، بل تصاحبهم والعياذ بالله وتخاللهم، بحجة الزمالة في الدراسة أو الزمالة في العمل، والمرأة ضعيفة -يا عباد الله- سريعة التأثر، فيا ليت شعري أين الآباء والإخوة والأزواج؟! وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فتنة الكفر؛ يسافر المسلم إلى بلاد الشرك -مثلا- ليقيم فيها، إما بدعوى العمل أو غيره، والمسكين ضعيف العلم ضعيف الإيمان، فما تزال الشبه تلقى عليه والمغريات تعرض عليه، حتى يكفر بالله رب العالمين ولو أن هذا المسكين بقي في بلاد المسلمين للقي الله بإذنه من الموحدين، ولكن ألقى بنفسه في الفتنة، فاللهم لا تجعلنا من المفتونين.

فتنة البدعة؛ وأعظم بها من فتنة، يصبح الرجل على السنة ناهجا منهج السلف سالكا الجادة لا يأخذ يمينا ولا شمالا، فيخالط فلانا أو علانا، ممن لم يعرفوا بلزوم السنة أو عرفوا بالمخالفة والبدعة، وإذا به يصير كصاحبه مخالفا أو مبتدعا، قد تنكب المنهج الحق وتنكر لأهله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: *المرء على دين خليله*

ومن أعظم وسائل نشر البدعة والمخالفة في هذه الأزمان، مواقع الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي زعموا، كالفيس بوك وغيره، فلا تقرأ ولا تسمع لكل من هب ودب يا عبد الله، واطلب السلامة لنفسك واجتنب الفتن، فإن النفوس ضعيفة والشبه خطافة، فرب مقال يقرأه المسلم أو كلمة يسمعها يصير بسببها مبتدعا ضالا، يسيء الظن بالعلماء ويطعن فيهم نسأل الله السلامة والعافية.

فتنة أهل السنة؛ ولنعلم أن أهل الحق ممتحنون، والله عز وجل مبتليهم، فقد تنزل الفتنة تصيب أهل السنة من مشايخهم وطلبة العلم منهم وعوامهم، فالأناة فيها مطلوبة، والرفق والحلم والتؤدة، والقعود عنها والسكوت فيها أسلم، إلا إذا ظهر الحق بالأدلة الشرعية فالواجب نصرة الحق وأهله والإعانة بحسب الاستطاعة.

ولله در القحطاني المالكي إذ يقول رحمه الله:

جمل زمانك بالسكوت فإنه * زين الحليم وسترة الحيران.

كن حلس بيتك إن سمعت بفتنة * وتوق كل منافق فتان.

 

__________

... أما بعد: -معاشر الفضلاء- فإذا تقرر أن السلامة لا يعدلها شيء، وأن السعيد من جنبه الله الفتن، فلنعلم أن المؤمن قد يبتلى بفتنة ما ليمتحن، ويميز الله الصادق من الكاذب، يقول الله عز وجل: "ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: *إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواها*

فمن ابتلي بفتنة من الفتن فصبر ولازم طاعة ربه، ولم يقدم على معصيته، ولم ينتكس ولم يتلون ولم يتذبذب، بل بقي ثابتا ملازما للحق والهدى،  وتحمل وجاهد وكابد في ذات الله، فما أحسن فعله وما أطيبه، وذلك هو الموفق السالم من أوضار الفتنةوشرورها.

يقول العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى شارحا هذا الحديث:

((*ولمن ابتلي* بأي بلية *فصبر* فالسعادة له، من حيث صبره على البلية)).

 

ولكن انتبه -يا عبد الله- إياك أن تلقي بنفسك في الفتن وأنت في سعة من أمرك، ثم تدعي بعدها الصبر والحزم، وأنك قادر على النجاة منها سليما معافى، فهيهات هيهات..

ولله در الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى إذ يقول:

((ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها *ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه*)).

ويقول رحمه الله: ((من قارب الفتنة بَعدت عنه السلامة، ومن ادعى الصبر، وُكل إلى نفسه، ورب نظرة لم تناظر!)).

 

وكما قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:

*يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف*متفق على صحته.

 

وفي الأخير أقول لإخواني: هنا أمر عظيم؛ وهو أنه لابد من استشعار عظيم افتقارنا إلى الله جل وعلا، وشديد احتياجنا إليه، في أن يسلمنا من الفتن، وأن يقينا شرورها، وأن يثبتنا على الحق حتى يأتينا اليقين

هذا ونسال الله عز وجل ان يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن وان يحفظ علينا ديننا ومنهجنا وان يحفظ علينا امن بلدنا

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المشاهدات 1983 | التعليقات 0