خطبة : ( إلى العشر وليلة القدر )
عبدالله البصري
1435/09/20 - 2014/07/17 23:45PM
إلى العشر وليلة القدر 20 / 9 / 1435
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَو قِيلَ لأَحَدِنَا إِنَّ هَذَا هُوَ رَمَضَانُ الأَخِيرُ في حَيَاتِكَ ، وَلَن تُدرِكَ بَعدَهُ رَمَضَانَ آخَرَ ، فَمَاذَا عَسَاهُ أَن يَفعَلَ وَبِأَيِّ نَفسٍ سَيُقبِلُ ، أَتُرَاهُ سَيَترُكُ صَلاةَ القِيَامِ مَعَ الإِمَامِ ؟
هَل سَيَخرُجُ مِنَ المَسجِدِ وَلم يُؤَدِّ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ ؟
هَل سَيَترُكُ في حِسَابِهِ مَالاً مُتَكَدِّسًا لم تُؤَدَّ زَكَاتُهُ ؟
هَل سَيَشِحُّ وَيَبخَلُ وَيَمنَعُ صَاحِبَ حَقٍّ حَقَّهُ ؟
إِنَّكَ سَتَرَاهُ يُسَابِقُ الأَيَّامَ وَاللَّيَاليَ قَبلَ فَوَاتِ الأَوَانِ ، وَسَيَجتَهِدُ اجتِهَادًا لا مَزِيدَ عَلَيهِ ، سَيَقرَأُ مَا استَطَاعَ مِنَ القُرآنِ وَيَدعُو وَيَذكُرُ وَيَستَغفِرُ ، وَسَيُحَافِظُ عَلَى الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ ، وَسَيَترُكُ ما كَانَ عَلَيهِ مِنَ المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ وَالمُخَالَفَاتِ ، وسَيَكُونُ كُلُّ يَومٍ مِن أَيَّامِ رَمَضَانَ أَغلَى عِندَهُ مِمَّا قَبلَهُ .
إِنَّ كَثِيرًا مِنَّا الآنَ لِطُولِ الأَمَلِ ، لا يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ قَد يَكُونُ ذَلِكَ الشَّخصَ الَّذِي لَن يَمُرَّ عَلَيهِ رَمَضَانُ مَرَّةً أُخرَى ، وَلَكِنَّهَا الحَقِيقَةُ الَّتي لا بُدَّ لِكُلِّ مِنَّا مِنهَا يَومًا مَا " وَمَا تَدرِي نَفسٌ مَاذَا تَكسِبُ غَدًا وَمَا تَدرِي نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ تَمُوتُ "
نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاللهِ لا نَدرِي مَا اللهُ صَانِعٌ بِنَا غَدًا ، وَلَكِنَّ الَّذِي نَعلَمُهُ جَمِيعًا وَلا نَشُكُّ فِيهِ ، أَنَّهُ لم يُضمَنْ لأَحَدٍ مِنَّا إِكمَالُ هَذَا الشَّهرِ ، فَضلاً عَن أَن يَكُونَ مَضمُونًا لَهُ بُلُوغُ رَمَضَانَ القَادِمِ أَوِ الَّذِي بَعدَهُ ، وَوَاللهِ وَتَاللهِ ، لَيَمُرَّنَّ رَمَضَانُ عَلَى أَحَدِنَا يَومًا وَقَد وُسِّدَ التُّرَابَ ، وَفَارَقَ الأَهلَ وَالأَحبَابَ وَالأَصحَابَ ، وَحِيلَ بَينَهُ وَبَينَ العَمَلِ ، وَانقَطَعَ مِنهُ الرَّجَاءُ وَالأَمَلُ ، وَصَارَ بَعِيدًا عَن كُلِّ مَا يَنفَعُهُ ، إِلاَّ مِن رَحمَةِ اللهِ ثم دَعوَةٍ صَالِحَةٍ مِن حَيٍّ مُحِبٍّ ، أَو صَدَقَةٍ مِن مُحسِنٍ تَبلُغُهُ ، أَو ثَمَرَةِ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ تَصِلُ إِلَيهِ ، كَانَ قَد غَرَسَ شَجَرَتَهَا بِيَدِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ ، فَيَا إِخوَةَ الإِسلامِ وَيَا أَيُّهَا الصُّائِمُونَ ، هَا أَنتُمُ اليَومَ في تَمَامِ العِشرِينَ مِن رَمَضَانَ ، وَمُستَقبِلُونَ اللَّيلَةَ عَشرًا هِيَ أَفضَلُ لَيَالي الشَّهرِ ، فِيهَا لَيلَةُ القَدرِ وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ ، لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ ، نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ هِيَ لَيلَةٌ وَاحِدَةٌ مُبَارَكَةٌ في عَشرِ لَيَالٍ نَيِّرَاتٍ ، يَجتَهِدُ فِيهَا المُسلِمُ مُخلِصًا لِرَبِّهِ مُقبِلاً عَلَى مَولاهُ ، مُحسِنًا عَمَلَهُ بَاسِطًا أَملَهُ ، تَائِبًا مُنِيبًا خَائِفًا رَاجِيًا ، وَيَقُومُ مَعَ إِمَامِهِ حَتى يَنصَرِفَ ، فَيُعطَى بِرَحمَةِ اللهِ وَفَضلِهِ أَجرَ ثَلاثةٍ وَثَمَانِينَ عَامًا مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ المُستَمِرِّ ، فَأَيُّ نَفسٍ تَسمَعُ بِمِثلِ هَذَا ثم تَتَكَاسَلُ ؟! وَأَيُّ مُسلِمٍ يُوقِنُ بِذَلِكَ ثم يَتَقَاعَسُ ؟! صَحِيحٌ أَنَّهَا لَيلَةٌ غَيرُ مُعَيِّنَةٍ ، وَلَكِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ قَطعًا ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنِّي أُرِيتُ لَيلَةَ القَدرِ ثم أُنسِيتُهَا ، فَالتَمِسُوهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ في الوِترِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَإِنَّهُ لا يُوَفَّقُ مُسلِمٌ لِقِيَامِ العَشرِ الأَخِيرَةِ كُلِّهَا إِلاَّ بُلِّغَ لَيلَةَ القَدرِ وَلا بُدَّ ، وَتَاللهِ مَا هَذَا بِأَمرٍ عَسِيرٍ وَلا مُستَحِيلٍ ، وَلَكِنَّهُ يَحتَاجُ إِلى عَزمٍ وَجِدٍّ وَتَشمِيرٍ ، وَاحتِسَابِ أَجرٍ وَاحتِبَاسِ نَفسٍ وَصَبرٍ ، وَسُؤَالٍ للهِ الإِعَانَةَ وَالتَّوفِيقَ ، وَأَمَّا مَن جَهِلَ أَو غَفَلَ ، أَو تَشَاغَلَ أَو تَكَاسَلَ ، فَمَا أَعظَمَ خَسَارَتَهُ وَأَشَدَّ حِرمَانَهُ ! عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ هَذَا الشَّهرَ قَد حَضَرَكُم وَفِيهِ لَيلَةٌ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ ، مَن حُرِمَهَا فَقَد حُرِمَ الخَيرَ كُلَّهُ ، وَلا يُحرَمُ خَيرَهَا إِلاَّ كُلُّ مُحرُومٍ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد وَصَفَ اللهُ لَيلَةَ القَدرِ بِأَنَّهَا مُبَارَكَةٌ ، فقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ " وَكَيفَ لا تَستَحِقُّ لَيلَةُ القَدرِ الوَصفَ بِالبَرَكَةِ وَقَد أَنزَلَ اللهُ فِيهَا كِتَابًا مُبَارَكًا ؟! كَيفَ لا تَكُونُ مُبَارَكَةً وَهِيَ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ ؟!
كَيفَ لا تَكُونُ مُبَارَكَةً وَفِيهَا تَتَنَزَّلُ المَلائِكَةُ حَتى أَفضَلُهُم وَهُوَ جِبرِيلُ ؟!
كَيفَ لا تَكُونُ مُبَارَكَةً وَهِيَ سَلامٌ حَتَّى مَطلَعِ الفَجرِ ، يَسلَمُ فِيهَا المُؤمِنُونَ مِنَ العِقَابِ وَالعَذَابِ بما يَقُومُونَ بِهِ مِن طَاعَةِ رَبِّهِم ، وَمَا يَرفَعُونَهُ إِلَيهِ مِن دُعَاءٍ وَرَجَاءٍ ؟!
كَيفَ لا تَكُونُ مُبَارَكَةً وَقَد أَخبَرَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ أَنَّ مَن قَامَهَا إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ ؟!
حَقًّا إِنَّ لَيلَةَ القَدرِ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ هِيَ فُرصَةُ العُمُرِ ، الَّتي يَجدُرُ بِالمُسلِمِ أَلاَّ يُفَوِّتَهَا أَو يَتَهَاوَنَ بها ، فَلَعَلَّهُ لا يُكتَبُ لَهُ مِنَ العُمُرِ مَا يُمَكِّنُهُ مِن إِدرَاكِهَا مَرَّةً أُخرَى .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُؤمِنُونَ ـ فَهَا هِيَ العَشرُ سَتَحَطُّ رِحَالَهَا بِكُمُ اللَّيلَةَ ؛ لِيَحُطَّ فِيهَا المُذنِبُونَ أَوزَارًا أَثقَلَتهُم ، وَلِيَتَخَلَّصُوا مِن ذُنُوبٍ قَيَّدَتهُم ، وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الهُدَى وَإِمَامُ المُتَّقِينَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ المَغفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِها ، فَيَشُدُّ مِئزَرَهُ وَيُحيِي لَيلَهُ وَيُوقِظُ أَهلَهُ ، فَكَيفَ بِنَا وَنَحنُ المُذنِبُونَ المُخطِئُونَ ؟! كَيفَ بِنَا وَنَحنُ المُقَصِّرُونَ المُسِيئُونَ ؟! نَحنُ أَولى بِالعَمَلِ وَالاجتِهَادِ وَرَفعِ الدَّعَوَاتِ ، وَالتَّعَرُّضِ لِلرَّحَمَاتِ وَالنَّفَحَاتِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " إِنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةِ القَدرِ . وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ . لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ . تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطلَعِ الفَجرِ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَاشكُرُوهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيكُم مِن بُلُوغ مَا مَضَى مِن شَهرِكُمُ الكَرِيمِ ، مَن كَانَ مِنكُم أَحسَنَ فِيمَا مَضَى فَلْيُتِمَّ إِحسَانَهُ ، وَمَن كَانَ مُقَصِّرًا فَلْيَتَدَارَكْ نَفسَهُ فِيمَا بَقِيَ ؛ فَإِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ ، وَالعِبرَةُ بِكَمَالِ النِّهَايَاتِ لا بِنَقصِ البِدَايَاتِ ، قَدِّمُوا لأَنفُسِكُم وَاجتَهِدُوا في طَاعَةِ رَبِّكُم ، مَن أَطَاقَ مِنكُمُ الاعتِكَافِ فَلْيَفعَلْ ؛ فَقَد اعتَكَفَ نَبِيُّكُم وَاعتَكَفَ أَزوَاجُهُ مِن بَعدِهِ ، وَمَن لم يَستَطِعْ فَلا أَقَلَّ مِنَ المُحَافَظَةِ عَلَى الفَرَائِضِ في المَسَاجِدِ ، وَالحِرصِ عَلَى القِيَامِ مَعَ الإِمَامِ حَتى يَنصَرِفَ ، وَإِلاَّ فَمَا دُونَ ذَلِكَ إِلاَّ الخَسَارَةُ وَالغَبنَ ، نَعَم ـ أَيُّهَا المُؤمِنُونَ ـ إِنَّهَا لَخَسَارَةٌ وَأَيُّ خَسَارَةٍ أَن يَأتيَ مُسلِمٌ يَومَ القِيَامَةِ ، وَلَيسَ في صَحِيفَتِهِ أَنَّهُ قَامَ لَيلَةَ القَدرِ مَعَ المُسلِمِينَ ، لا لِعُذرٍ يَمنَعُهُ ، وَلَكِنْ تَكَاسُلاً وَتَهَاوُنًا وَقِلَّةَ صَبرٍ وَزُهدًا في الأَجرِ ، وَأَمَّا تَارِكُو الصَّلَوَاتِ في المَسَاجِدِ وَالمُؤخِرُونَ لها عَن وَقتِهَا ، فَهُم عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ ، وَقَد أَتَوا بَابًا مِن أَبوَابِ النِّفَاقِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَوَيلٌ لِلمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُم عَن صَلاتِهِم سَاهُونَ "
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاغتَنِمُوا سَاعَاتٍ غَالِيَةً تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ، وَأَكثِرُوا فِي هَذِهِ العَشرِ مِن قَولِ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنَّا ؛ فَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيتَ إِن عَلِمتُ لَيلَةَ القَدرِ مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ : " قُولي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنِّي " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
المرفقات
503.doc
إلى العشر وليلة القدر.doc
إلى العشر وليلة القدر.doc
إلى العشر وليلة القدر.pdf
إلى العشر وليلة القدر.pdf
المشاهدات 3334 | التعليقات 5
ممتازة ..
جزاك الله خيرًا
والأولى بدل الاستعاذة البسملة قبل تلاوة سورة القدر
أحسنت ,,, لافض فوك , كلمات ونصائح غالية من عمق قلب مشفق
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
خطبة طيبة مباركة نفع الله بكم شيخ عبدالله وبعلمكم،،
أبو تميم
غفر الله لنا ولك ولجميع القراء
وجعلنا جميعا من المقبولين في هذا الشهر
تعديل التعليق