خطبة ( إذا خاصم فجر )

البليغ البليغ
1435/05/13 - 2014/03/14 00:21AM
( إذا خاصم فجر )
خطبة للشيخ : سليمان بن خالد الحربي
ألقاها في جامع الفالح في محافظة الزلفي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا أما بعد
فاتقوا الله ـــ عباد الله ـــــ ومن يبق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .
معشر الإخوة : وصية جامعة ،وخلة عظيمة ،جاءت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم هي تداوي نفوسا مريضة، عشعش فيها البغي والطغيان ،حتى اتصفت بالفجور في الخصومة ،فلا يوجد ميثاق شرف في نفوس أولئك عند خصومتهم ،بل توقع منهم كل شيء ،نعم كل شيء ،فتصبح الوسائل كلها مباحة ،مادامت تساعد على رد اعتبارهم ،أو أخذ حقهم المزعوم .
تيك الوصية النبوية جاءت فيما رواه البخاري ومسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)
الله أكبر وإذا خاصم فجر قال النووي في شرح مسلم: (وإن خاصم فجر) أي : مال عن الحق ،وقال الباطل والكذب.
قال أهل اللغة: وأصل الفجور الميل عن الحق . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/90) الفجور:
( الميل عن الحق والاحتيال في رده. ) والمراد أنه إذا خاصم أحداً فعل كل السبل غير مشروعة ،واحتال فيها حتى يأخذ الحق من خصمه، وهو بذلك مائل عن الصراط المستقيم. والحديث يرشد إلى الاعتدال في الخصومة وأن الإنسان مهما كانت الخصومة لا بد أن يذكر ماله وما عليه: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ".
لنتأمل قول الله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) أي من أساء إليكم بالقول والفعل { فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم.
وما أجمل قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حينما تلاحيا وحدث بينهما خلاف تأمل شرف الخصومة التي ضاعت عند كثير من الناس وذلك فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه يَقُولُ : كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ ،فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا ،فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ،فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ ،فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ :وَنَحْنُ عِنْدَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ . قَالَ :وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ ،فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ :وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ :وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي. هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي .إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ ،وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ.
انظر إلى دين أبي بكر لم يستغل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستثر الرأي العام مستغلا قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تكلم في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي غياب عمر وكذلك عمر لم يستغل موقفه في الكلام على أبي بكر بالسب والشتم. إنها الأخلاق الكريمة.
ويذكرنا هذا بما حدث لزوجة العزيز مع يوسف عليه السلام فقد أحبته حبا شديدا فاق الوصف فلما حدث منها ما حدث وفتح العزيز الباب ورأى ما رأى خافت عليه من عقوبة العزيز فبادرت بتحديد العقاب المأمون حتى لا يتعجل العزيز بقتله فقالت (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم.) وكم كانت عجيبة بهذا اللفظ الموجز فهي لم تقل ما جزاء يوسف الذي أراد بي سوءا فلم تكذب عليه وإنما سألت معرضة ثم تأمل قولها (ما جزاء من أراد ) ولم تقل فعل وإنما برأته أن يكون حدث شيء بينهما وبسبب هذه المقولة عوقب بالسجن ،فهي تكلمت أمامه معرضة على مرأى منه ومسمع ،ولكنها لما سئلت عن الحادثة في مغيبه ،عجزت نفسها أن تكذب عليه، وأن تعرض مرة أخرى في حال غيابه، فما كان منها إلا أن قالت الحقيقة قال الله : (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ )فمنعها أدبها من الكذب مرة ثانية مع أن يوسف غير شاهد وحاضر ،والله لا يهدي كيد الخائنين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)
بارك الله لي ولك في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.


الحمد لله على إحسانه والشكر على توفيقه وامتنانه وأشهد ألا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه أما بعد :
معشر الإخوة : إننا أمام نكسة عظيمة في شرف الخصومة ،فالرجل مع زوجته إذا تخاصما بغيا على بعض في الحديث، وقل مثل ذلك مع أهلهم ،فكل يفجر في خصومته ويكذب، وكذلك المدير مع موظفيه ،وصاحب الحق مع جاحده ،ومن كان في ريب فليستمع إلى كثير ممن له مشكلة في محكمة ،أو إدارة أو نحوها ،كثير منا لا يفرق بين أن تطلب حقك، وبين أن تتحول إلى ظالم باغ منقلب عن الخلق الرفيع، لا بأس أن تدافع عن حقوقك المشروعة بطريقة مشروعة ،واضعا نصب عينيك العدالة مع الخصم ،حتى لا تفقد توازنك ،وتخرج عن الأدب الشرعي الذي أمرك الله به ،ويجب أن تركز على موطن الخلاف ،وعلى أساس القضية ،وأن تبتعد عن السباب والشتائم التي لا يليق بك إتيانها ،وأن تتحرى الصدق في كل ما تقوله .لأن الحق لا يرده الباطل ولا يعود بقذف الآخرين . بل يعود الحق لصاحبه بالدليل والبرهان , وإذا رأيت الإنسان فاحشا متفحشا مع خصومه يتعمد السب والشتم ويستعرض تاريخ أخيه بأسوأ ما فيه ويعيره بكل نقيصة سواء كانت فيه أو ليست فيه ،فاعلم أن هذا الإنسان جاهل وظالم لا يخاف الله حتى وإن كان الحق له . وأعلم أن كونك صاحب حق فإن هذا لا يحل لك أن تغتاب وتبهت خصمك مهما كان الأمر وليكن قدوتك محمد صلى الله عليه وسلم فبرغم ما تعرض له من قومه إلا أنه كان يقول : (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وهذه الروح لا يحملها إلا الشرفاء من الناس.
وهذا عنترة وهو يقابل عدوه في المعركة لا يستحي أن يمدح عدوه بما هو فيه ويخلد ذكره ببيت يقول فيه :
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم عن القنا بمحرم
إن من الناس من لك يد كريمة عليه، أو لك حق شرعي عليه، كالوالد مع ولده ،والاستاذ مع معلمه ،وصاحب المعروف واليد والاحسان في أمر ما ،فإذا ما خوصم أو غولط أو نوزع سلقك بألسنة حداد ،ونسي المعروف ،ولم يلق لها بالا ،وإنك لتعجب من صنيع ذلك الكافر في صلح الحديبية ،وذلك فيما رواه البخاري ومسلم حيث أرسلت قريش عروة بن مسعود ليكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتاله لمكة فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا وَإِنِّي لَأَرَى أَوْشَابًا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ امْصُصْ بِبَظْرِ اللَّاتِ أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ قَالَ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ أَيْ غُدَرُ أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ .وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ.
وختاما أيها الإخوة :لنحفظ ميثاق شرف الخصومة من خلال سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم ولنتذكر أنها الفجور في الخصومة خصلة من خصال المنافقين وأن الفجور يهدي إلى النار
ثم صلوا وسلموا على رسول الهدى وإمام الورى فقد أمركم ربكم فقال جل وعلا " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين ...وانصر عبادك الموحدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم اللهم عليك باليهود المعتدين والنصارى المحاربين اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك اللهم أحصهمم عددا .......اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أمتنا وولاة أمورنا اللهم وفقهم لما يرضيك وجنبهم معاصيك اللهم تب على التائبين واهد ضال المسلمين اللهم ردهم إليك ردا جميلا اللهم ارفع ما نزل من الفتن ...اللهم اغفر لنا ولوالدينا ...عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العلي العظيم يذكركم واشكروه على نعمكم يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
المشاهدات 3847 | التعليقات 0