خطبة: أيّها الأبناءُ رفقًا بالآباء.
وليد بن محمد العباد
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم
خطبة: أيّها الأبناءُ رفقًا بالآباء.
الخطبة الأولى
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ومن يضللْ فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه صلّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا أمّا بعدُ عبادَ الله
أتدرونَ أيّها الشّبابُ مَن أعظمُ النّاسِ حقًّا بعدَ حقِّ ربِّ العالمين، أتدرونَ مَن أولى النّاسِ بالشّكرِ بعدَ شُكرِ أرحمِ الرّاحمين، نعم إنّهما والداك أمّك وأبوك، قالَ تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وقالَ سبحانَه: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ثمّ هل تَدرونَ مَن أحقُّ النّاسِ بصُحبتِك وبِرِّك واحترامِك وإحسانِك؟ لقد حَسمَها المصطفى عليه الصّلاةُ والسّلامُ فقالَ: أمُّك ثمّ أمُّك ثمّ أمُّك ثمّ أبوك. أَجزِمُ أنّكم تَعلمونَ هذا وأكثر، ولكنّ الواقعَ يَشهدُ على تقصيرِ كثيرٍ مِن الأبناءِ مع آبائِهم، فيا أيّها الأبناءُ والبنات، رفقًا بالآباءِ والأمّهات، يَجبُ أنْ لا تُغَيِّبَ المشاغلُ الدنيويّةُ مالهما مِن الحقِّ العظيم، يَجبُ أنْ يكونَ تعظيمُهم راسخًا في القلوبِ وحاضرًا في الواقع، اعترافًا بالفضلِ وردًّا للجميلِ واحتسابًا للأجرِ والثّواب، وعلى ذلك كانَ الموفّقونَ مِن السّلفِ الصّالحِ إلى عصرِنا الحاضر، ويَرونَ أنّهم مهما فعلوا مِن البِرِّ لن يُوَفُّوهم حقَّهم فجزاؤُهم على الله، فما أحوجَنا للتّذكيرِ بحقِّهم والحثِّ على برِّهم والتّأدّبِ معهم، فيا أيّها الأبناءُ فرفقًا بالآباء، فقد بَذَلا لكم كلَّ شيءٍ لتكونوا سعداء، فهل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان، عظّموهم وأطيعوهم وأَجِلُّوهم، وأحسنوا التّعاملَ معهم ولا تَعصوهم، وصِلُوهم وتَحدّثوا معهم وأسعدوهم ولا تهجروهم، فلو تعلمونَ ما في قلوبِهم لكم لأشفقتم عليهم، فقلوبُهم تكادُ تَنفطرُ حبًّا لكم وشفقةً عليكم، وحزنًا على تكديرِ خواطرِكم وطلبًا لرضاكم، ودعاءً لكم وحرصًا على مصلحتِكم، فيا أيّها الأبناءُ رفقًا بالآباء، خاطبوهم بأدبٍ وخفضِ صوتٍ واحترام، وانظروا إليهم بعطفٍ ورحمةٍ وحنان، قالَ ابنُ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: مَن نظرَ إلى أبيه شَزَرًا فقد عقَّه. وقالَ عروةُ بنُ الزّبيرِ رحمَه الله: ما بَرَّ والديه مَن أَحَدَّ النّظرَ إليهما. واحذروا أصلحَكم اللهُ مِن مجادلتِهم ومحاولةِ الانتصارِ عليهم وإنْ كانَ الحقُّ معكم، قالَ بعضُ السّلف: إيجابُ الحجّةِ على الوالدين عقوق. فيا أيّها الأبناءُ رفقًا بالآباء، اجتهدوا بفعلِ كلِّ ما يُسعدُهما ويُدخلُ السّرورَ على قلبيْهما، فلا يَرَيَانِ منكم إلا خيرًا، ولا يسمعانِ منكم إلا خيرًا، وكونوا مع إخوتِكم أمامَهم في حُبٍّ وصفاء، فإنّ ذلك يَسُرُّهما، واحذروا التّخاصمَ ورفعَ الصّوتِ أمامَهما، وبادروا لخدمتِهما وليكنْ الأسعدُ منكم مَن اختاروه لقضاءِ حوائجِهما، واحرصوا أنْ تجلسوا معهما وتُعطوهم أفضلَ أوقاتِكم، ولا تَنشغلوا عندَهم بهواتفِكم، حدِّثوهم وآنسوهم بأدبٍ ولُطفٍ وذُلٍّ وتواضع، كانَ ابنُ سيرينَ رحمَه اللهُ لا يَرفعُ صوتَه عندَ أمِّه، ويُكلّمُها كالمصغي إليها، ومَن رآه ظنَّ به مرضًا مِن خفضِ كلامِه عندَها. فيا أيّها الأبناءُ رفقًا بالآباء، تَأدّبوا معهم في الحوارِ والنّقاش، ولِينوا معهم واخفضوا لهم الجَناح، حتّى وإنْ كانَ والداكم مُخطئيْنِ فاصبروا عليهما فكم صَبَرَا عليكم، كانت أمُّ منصورِ بنِ المُعتمرِ فَظَّةً غليظةً عليه، وكانت تقولُ يا منصورُ يُريدُك ابنُ هُبَيْرَةَ على القضاءِ فتأبى؟ وهو واضعٌ لحيتَه على صدرِه ما يَرفعُ طرفَه إليها ذُلًّا وخضوعًا وتواضعًا بينَ يديْها، وعن عبدِاللهِ بنِ عونٍ أنّ أمَّه نادتْه فأجابَها فَعَلا صوتُه صوتَها فأَعتقَ رقبتيْنِ كفّارةً لذلك، فيا أيّها الأبناءُ رفقًا بالآباء، اختاروا أعذبَ الكلامِ معهما وأكثِروا مِن الدّعاءِ لهما، وبالغوا في تَحيّتِهما والفرحِ بهما وحُسْنِ توديعِهما والاستئذانِ منهما، وأخبروهم بما في قلوبِكم لهما مِن الحُبِّ والتّقديرِ ومعرفةِ فضلِهما، وأَشعروهم باستمتاعِكم بالجلوسِ معهما، وأنّكم تَتَمنَّوْنَ أنْ يطولَ مجلسُهما، قالَ الحسنَ البصريُّ لرجلٍ: تَعشَّ العشاءَ مع أمِّكَ تُؤانسُها وتُجالسُها وتَقرُّ بك عينُها، أَحبُّ إليّ مِن حَجّةٍ تطوُّعًا. فاتّقوا اللهَ رحمَكم الله، اتَّقوا اللهَ أيّها الأبناء، واجتهدوا في بِرِّ آبائِكم والإحسانِ إليهم والتّأدّبِ معهم والحرصِ على رضاهم، قالَ عليه الصّلاةُ والسّلام: رِضَا اللهِ في رِضَا الوالدين، وسَخَطُ اللهِ في سَخَطِ الوالدين.
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأُصلي وأُسلّمُ على خاتمِ النّبيّين، نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمّا بعدُ عبادَ الله
اتّقوا اللهَ حقَّ التّقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
أيّها الشّبابُ المباركون، إنّنا نَعلمُ أنّ فيكم خيرًا كثيرًا، وفيكم مَن يَبَرُّونَ بوالديهم ويُحسنونَ إليهم، ولكنّها كلماتُ مُشفق، لحالِ كثيرٍ مِن المقصّرينَ في حقِّ آبائِهم هداهم الله، لعلّها تَصِلُ إلى قلوبِهم قبلَ آذانِهم، لعلَّ عاقًّا أنْ يتوب، وغافلًا أْن يَستيقظ، ومُقصّرًا أنْ يَستدرِك، فتَرجعونَ لآبائِكم وأمّهاتِكم وفّقَكم اللهُ وتَعتذرونَ منهم، وتَبدؤونَ في بِرِّهم وحسنِ التّعاملِ معهم، فما أسعدَ مَن إذا دخلَ البيتَ وَجَدَ والدَيْه أو أحدَهما، فاشكروا اللهَ على تلك النّعمة، واستمتعوا بآبائِكم وأمّهاتِكم، ضُمُّوهم واحْضِنوهم، واملؤُوا أعينَكم مِن مُحيّاهم، وأسماعَكم مِن جميلِ أصواتِهم، وأنوفَكم مِن عَبَقِ رائحتِهم، وابذلوا كلَّ ما تَستطيعونَ لإسعادِهم، وسوف تَجدونَ التّوفيقَ والبركةَ والنّجاحَ والفلاح، والسَّعادةَ في دنياكم وآخرتِكم، فيا أيّها الأبناءُ رفقًا بالآباء، فإنّ وجودَ الوالدينِ نعمةٌ مِن أعظمِ النّعم، ولا يَعرفُ قدرَها إلا مَن فَقَدَها، أطالُ اللهُ أعمارَ الأحياءِ منهم في صحّةٍ وعافيةٍ وعملٍ صالح، وتَغَمّدَ اللهُ الأمواتَ بواسعِ مغفرتِه ورحمتِه، وأصلحَ اللهُ الأبناءَ والبنات، ووفّقَهم لبِرِّ والديهم مِن الأحياءِ والأموات، إنّه سميعٌ مُجيب، سبحانَ ربِّك ربِّ العزّةِ عمّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إعداد/ وليد بن محمد العباد غفر الله له ولوالديه وأهله وذريته والمسلمين
جامع السعيد بحي المصيف شمال الرياض 11/ 8/ 1444هـ