خطبة : ( أين من يعرف لعالمنا حقه ؟ )
عبدالله البصري
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ كَمَا أَمَرَكُم يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ " " وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَمَّا كَانَ العِلمُ هُوَ أَكمَلَ مَطلُوبٍ في الدُّنيَا وَأَشرَفَ مَرغُوبٍ ، وَطَرِيقَ الخَوفِ مِنَ اللهِ وَخَشيَتِهِ وَسَبِيلَ الوُصُولِ إِلى مَرضَاتِهِ وَجَنَّتِهِ ، أَمَرَ اللهُ ـ تَعَالى ـ نَبِيَّهُ بِالاستِزَادَةِ مِنهُ فَقَالَ ـ : " وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلمًا "
وَقَد جَعَلَ ـ تَعَالى ـ العِلمَ سَبَبًا لِلرِّفعَةِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَرفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ "
وَنَفَى ـ سُبحَانَهُ ـ استِوَاءَ أَهلِ العِلمِ بِغَيرِهِم ممَّن لا حَظَّ لَهُ فِيهِ فَقَالَ : " قُلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ "
وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ العُلَمَاءَ هُم أَهلُ الصَّبرِ وَاليَقِينِ ، وَهُم أَعرَفُ النَّاسِ بِاللهِ وَأَتقَاهُم لَهُ وَأَخشَاهُم مِنهُ وَأَخوَفُهُم مِن عَذَابِهِ ، وَلأَنَّهُمُ الهُدَاةُ إِلى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ وَالمُرشِدُونَ إِلى الطَّرِيقِ القَوِيمِ ، وَالحَامِلُونَ لِلثَّقَلَينِ وَالحَافِظُونَ لِلوَحيَينِ ، المُتَدَبِّرُونَ لما فِيهِمَا مِنَ الأَمثَالِ ، العَاقِلُونَ لما يَنطَوِيَانِ عَلَيهِ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسرَارِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ " وَقَالَ ـ صَلََّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَحمِلُ هَذَا العِلمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنفُونَ عَنهُ تَحرِيفَ الغَالِينَ وَانتِحَالَ المُبطِلِينَ وَتَأوِيلَ الجَاهِلِينَ " رَوَاهُ البَيهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَلَقَدِ استَشهَدَ اللهُ بِالعُلَمَاءِ في أَجَلِّ مَشهُودٍ عَلَيهِ وَهُوَ تَوحِيدُهُ ، فَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطٍ " قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضلِ العِلمِ وَأَهلِهِ مِن وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : استِشهَادُهُم دُونَ غَيرِهِم مِنَ البَشَرِ .
وَالثَّاني : اقتِرَانُ شَهَادَتِهِم بِشَهَادَتِهِ .
وَالثَّالِثُ : اقتِرَانُ شَهَادَتِهِم بِشَهَادَةِ مَلائِكَتِهِ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّ في ضِمنِ هَذَا تَزكِيَتَهُم وَتَعدِيلَهُم ؛ فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ لا يَستَشهِدُ مِن خَلقِهِ إِلاَّ العُدُولَ .
وَقَد عَرَفَ المُسلِمُونَ لِلعُلَمَاءِ قَدرَهُم وَحَفِظُوا لهم مَكَانَتَهُم ، وَأَنزَلُوهُم مَنزِلَتَهُم اللاَّئِقَةَ بهم ، فَكَانُوا مِنَ الخُلَفَاءِ وَالوُلاةِ مَحَلَّ الثِّقَةِ وَفي غَايَةِ التَّقرِيبِ ، وَمِنَ العَامَّةِ في عَينِ الإِعزَازِ وَمَركَزِ التَّقدِيرِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ المُسلِمُونَ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا إِلى اللهِ ، لِمَا يَحمِلُهُ العُلَمَاءُ مِن مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ الَّذِي هُوَ أَثمَنُ مِيرَاثٍ وَأَغلاهُ ، وَلِمَا تَختَزِنُهُ صُدُورُهُم مِن عِلمِ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ ، اللَّذَينِ هُمَا أَشرَفُ العُلُومِ وَأَجَلُّ المَعَارِفِ ، وَلأَنَّ ذَلِكَ هُوَ فِعلُ نَبِيِّهِم ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ القَائِلِ : " وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ ، وإنَّ الأَنبِيَاءَ لم يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرهَمًا ، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلمَ فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وافَرَ " وَلَمَّا جَاءَهُ صَفوَانُ بنُ عَسَّالٍ المُرَادِيُّ طَالِبًا لِلعِلمِ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِني جِئتُ أَطلُبُ العِلمَ . قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَرحَبًا بِطَالِبِ العِلمِ ، إنَّ طَالِبَ العِلمِ تَحُفُّهُ المَلائِكَةُ بِأَجنِحَتِهَا ثُمَّ يَركَبُ بَعضُهُم بَعضًا حَتَّى يَبلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنيَا مِن مَحَبَّتِهِم لما يَطلُبُ " وَقَال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " فَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدنَاكُم " وَلِمَ لا يُقَدِّرُ المُسلِمُونَ بَعدَ ذَلِكَ عُلَمَاءَهُم وَيُجَلِّونَهُم ؟ بَل وَمَا لهم لا يَحمِلُونَ لهم خَالِصَ المَحَبَّةِ وَاللهُ يُصَلِّي عَلَيهِم فَوقَ سَمَاوَاتِهِ وَمَلائِكَتُهُ وَأَصغَرُ مَخلُوقَاتِهِ ؟ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهلَ الأَرضِ حَتَّى النَّملَةَ في جُحرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ في المَاءِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيرَ "
إِنَّ العُلَمَاءَ لَحَرِيُّونَ بِكُلِّ تَقدِيرٍ وَتَكرِيمٍ ، جَدِيرُونَ بِكُلِّ إِجلالٍ وَإِعزَازٍ ، حَقِيقُونَ بِأَن تَنصَحَ لَهُمُ القُلُوبُ وَتُحِبَّهُمُ النُّفُوسُ ، ذَلِكَ هُوَ سَبِيلُ عِبَادِ اللهِ المُؤمِنِينَ ، وَتِلكَ عَقِيدَتُهُم الَّتي يَحمِلُونَهَا في قُلُوبِهِم ، عَمَلاً بقَولِ إِمَامِهِم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيهِنَّ قَلبُ مُسلِمٍ : إِخلاصُ العَمَلِ للهِ ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأَمرِ ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ ؛ فَإِنَّ دَعوَتَهُم تُحيَطُ مِن وَرَائِهِم " وَخَوفًا مِنَ الدُّخُولِ في حَربِ رَبِّهِم وَحَذَرًا مِنَ الخُرُوجِ مِن دَائِرَةِ المُؤمِنِينَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لَيسَ مِنَّا مَن لم يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ "
قَالَ الإِمَامُ أَبُو بَكرٍ الآجُرِّيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنِ العُلَمَاءِ وَمَكَانَتِهِم : فَضَّلَهُم عَلَى سَائِرِ المُؤمِنِينَ وَذَلِكَ في كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ ، رَفَعَهُم بِالعِلمِ ، وَزَيَّنَهُم بِالحِلمِ ، بهم يُعرَفُ الحَلالُ مِنَ الحَرَامِ ، وَالحَقُّ مِنَ البَاطِلِ ، وَالضَّارُّ مِنَ النَّافِعِ ، وَالحَسَنُ مِنَ القَبِيحِ ، فَضلُهُم عَظِيمٌ ، وَخَطَرُهُم جَزِيلٌ ، وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ ، وَقُرَّةُ عَينِ الأَولِيَاءِ ، الحِيتَانُ في البَحرِ لهم تَستَغفِرُ ، وَالمَلائِكَةُ بِأَجنِحَتِهَا لهم تَخضَعُ ، وَالعُلَمَاءُ في القِيَامَةِ بَعدَ الأَنبِيَاءِ تَشفَعُ ، مَجَالِسُهُم تُفِيدُ الحِكمَةَ ، وَبِأَعمَالِهِم يَنزَجِرُ أَهلُ الغَفلَةِ ، هُم أَفضَلُ مِنَ العُبَّادِ ، وَأَعلَى دَرَجَةً مِنَ الزُّهَّادِ ، حَيَاتُهُم غَنِيمَةٌ ، وَمَوتُهُم مُصِيبَةٌ ، يُذَكِّرُونَ الغَافِلَ ، وَيُعَلِّمُونَ الجَاهِلَ ، لا يُتَوَقَّعُ لهم بَائِقَةٌ ، وَلا يُخَافُ مِنهُم غَائِلَةٌ ... إِلى أَن قَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ : فَهُم سِرَاجُ العِبَادِ وَمَنَارُ البِلادِ ، وَقِوَامُ الأُمَّةِ وَيَنَابِيعُ الحِكمَةِ ، هُم غَيضُ الشَّيطَانِ ، بهم تَحيَا قُلُوبُ أَهلِ الحَقِّ وَتَمُوتُ قُلُوبُ أَهلِ الزَّيغِ ، مَثَلُهُم في الأَرضِ كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ يُهتَدَى بها في ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ ، إِذَا انطَمَسَتِ النُّجُومُ تَحَيَّرُوا ، وَإِذَا أَسفَرَ عَنهُمُ الظَّلامُ أَبصَرُوا .
وَقَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ في عَقِيدَتِهِ : وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ وَمَن بَعدَهُم مِنَ التَّابِعِينَ أَهلِ الخَيرِ وَالأَثَرِ وَأَهلِ الفِقهِ وَالنَّظَرِ لا يُذكَرُونَ إِلاَّ بِالجَمِيلِ ، وَمَن ذَكَرَهُم بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيرِ السَّبِيلِ .
وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهبيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في سِيَرِ أَعلامِ النُّبَلاءِ : ثُمَّ إِنَّ الكَبِيرَ مِنَ العُلَمَاءِ إِذَا كَثُرَ صَوَابُهُ وَعُلِمَ تَحَرِّيهِ لِلحَقِّ وَاتَّسَعَ عِلمُهُ وَظَهَرَ ذَكَاؤُهُ وَعُرِفَ صَلاحُهُ وَوَرَعُهُ وَاتِّبَاعُهُ يُغفَرُ لَهُ زَلَلُهُ وَلا نُضَلِّلُهُ وَلا نَطَّرِحُهُ وَنَنسَى مَحَاسِنَهُ . اِنتَهَى كَلامُهُ ...
هَذِهِ مَكَانَةُ العُلَمَاءِ عِندَ رَبِّهِم وَنَبِيِّهِم وَالمُؤمِنِينَ ، وَإِنَّكَ لَتَعجَبُ مِن أَقوَامٍ في عَصرِنَا ، ممَّن قَلَّ بِاللهِ عِلمُهُم وَضَعُفَ في الدِّينِ فِقهُهُم ، أُترِعَت قُلُوبُهُم عَلَى العُلَمَاءِ حِقدًا وَحَسَدًا ، وَامتَلأَت صُدُورُهُم عَلَى الدُّعَاةِ غَيظًا وَغِلاًّ ، لم يُقَدِّرُوا عَالِمًا لِعلِمِهِ ، وَلم يُجِلُّوا دَاعِيَةً لِفَضلِهِ ، وَلم يَحفَظُوا لِمُصلِحٍ سَابِقَتَهُ ، وَلم يُقِيلُوا لِذِي هَيئَةٍ عَثرَتَهُ ، سَلِمَ مِنهُم أَعدَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ ، وَلم يَسلَمْ مِنهُم عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ وَدُعَاةُ الحَقِّ العَامِلِينَ المُخلِصِينَ ، وَبَدَلاً مِن أَن يَبدَؤُوا عُلَمَاءَهُم بِالتَّحِيَّةِ وَالتَّرحِيبِ ، وَيَلقَوا دُعَاتَهُم بِالبِشرِ وَالسُّرُورِ وَالتَّكرِيمِ ، تَلَقَّوهُم بِالسُّخرِيَةِ وَالتَّهَكُّمِ ، وَرَمَوهُم بِالغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ ، وَاتَّهَمُوهُم بِإِثَارَةِ الفِتَنِ وَالتَّحرِيضِ عَلَى الوُلاةِ ، وَوَصَمُوهُم بِأَنَّهُم بَعِيدُونَ عَنِ الوَاقِعِ ، وَوَصَفُوهُم بِأَنَّهُم يَعِيشُونَ في المَاضِي ، وَإِنَّكَ لَتَعجَبُ أَن يَكُونَ ذَلِكَ في بَعضِ صُحُفِ بِلادِنَا وَجَرَائِدِهَا وَمَوَاقِعِ الشَّبَكَةِ فِيهَا ، وَأَن يَتَوَلاَّهُ أُنَاسٌ ممَّن يُنسَبُونَ إِلى أَهلِ السُّنَّةِ ، لا هَمَّ لهم إِلاَّ السُّخرِيَةُ وَالاستِهزَاءُ وَالشَّمَاتَةُ ، وَلا وَظِيفَةَ لهم إِلاَّ تَصَيَّدُ الزَّلاَّتِ وَتكبِيرُ السَّقطَاتِ ، يَبحَثُونَ عَنِ الكَلِمَاتِ المُوهِمَةِ ، وَيُنَقِّبُونَ عَنِ الأَلفَاظِ المُحتَمِلَةِ ، وَيَضَعُونَ الأَقوَالَ في غَيرِ سِيَاقِهَا ، وَيَبتُرُونَ النُّصُوصَ عَمَّا قَبلَهَا وَبَعدَهَا . إِنَّ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ اليَومَ يُوَاجِهُونَ هَجَمَاتٍ شَدِيدَةً ، وَيَلقَونَ تَضيِيقًا وَأَذًى كَثِيرًا ، يَتَوَلاَّهُ أَعدَاءُ الدِّينِ المُنَاوِئُونَ لأَهلِ السُّنَّةِ كَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ ، وَيَنفُخُ فِيهِ مُنَافِقُو الصَّحَافَةِ وَيَنشُرُهُ أَقزَامُ الإِعلامِ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ عُلَمَاءَ الأُمَّةِ هُم قَادَتُهَا لِلحَقِّ وَأَمَلُهَا في العَودَةِ إِلى سَابِقِ عَهدِهَا مِنَ العِزَّةِ وَالمَنَعَةِ وَالرِّفعَةِ ، وَلأَنَّهُم هُدَاتُهَا إِلى طَرِيقِ الأَمنِ وَمُبَلِّغِيهَا سَاحِلَ الأَمَانِ ، وَلا سِيَّمَا في أَزمِنَةِ الفِتَنِ وَأَوقَاتِ المِحَنِ .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَانتَبِهُوا لما يُحَاكُ لَكُم ، فَإِنَّ العُلَمَاءَ هُم أَعلامُ الهُدَى وَنُجُومُ الدُّجَى ، وَهُم دُعَاةُ الخَيرِ وَحُمَاةُ الفَضِيلَةِ ، وُجُودُهُم مِن عَلامَاتِ الخَيرِ وَالبَرَكَةِ ، وَكَثرَتُهُم مِن أَمَارَاتِ التَّوفِيقِ وَالعِصمَةِ ، لا يُحِبُّهُم إِلاَّ مُؤمِنٌ ، وَلا يُبغِضُهُم إِلاَّ مُنَافِقٌ ، وَلا تَزَالُ الأُمَّةُ بِخَيرٍ مَا عَظَّمَتهُم وَوَقَّرَتهُم ، وَعَرَفَت لهم قَدرَهُم وَحَفِظَت لهم مَكَانَتَهُم ، لأَنَّ في ذَلِكَ تَعظِيمًا لِلشَّرِيعَةِ وَحِفظًا لِلدِّينِ ، وَأَمَّا إِذَا أَذَلَّت أُمَّةٌ عُلَمَاءَهَا ، أَو سَمَحَت بِأَن يَنَالَ مِنهُم سُفَهَاؤُهَا ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ نَذِيرٌ شُؤمٍ عَلَيهَا وَمِفتَاحُ شَرٍّ ، وَمُؤذِنٌ لها بِخَيبَةٍ وَخَسَارَةٍ .
إِنَّ شَرَفَ العُلَمَاءِ لَيسَ مَربُوطًا بما لهم مِن مَنصِبٍ أَو وَظِيفَةٍ ، وَمَصدَرُ جَاهِهِم لَيسَ مَا هُم عَلَيهِ مِن حَسَبٍ أَو نَسَبٍ أَو مَالٍ ، وَمُوالاتُهُم لَيسَت حَسَبَ بُلدَانِهِم وَجِنسِيَّاتِهِم وَأَعرَاقِهِم وَانتِمَائِهِم ، بَل شَرَفُهُم بِمَا يَحمِلُونَهُ مِن عِلمِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَجَاهُهُم بِالتِزَامِهِم بِمَنهَجِ الأَنبِيَاءِ في العِلمِ وَالتَّعلِيمِ وَالجِهَادِ وَالدَّعوَةِ ، وَالمَنَاصِبُ هِيَ الَّتي تَشرُفُ بِالعُلَمَاءِ ، وَالبِلادُ هِيَ الَّتي تَفخَرُ بِهِم ، وَهُمُ المِيزَانُ في مَعرِفَةِ مَا عَلَيهِ العَامَّةِ مِنَ الأَحوَالِ ، وَأَهلُ الرَّأيِ في مُدلَهِمَّاتِ الأُمُورِ ، وَلا خَيرَ فِيمَن لا يَعرِفُ لهم قَدرَهُم وَمَنزِلَتَهُم ، وَلا بَرَكَةَ في لِسَانٍ يَطعَنُ في أَمَانَتِهِم وَدِيَانَتِهِم ، ولا عِزَّ لمن يَسعَى جَاهِدًا في تَشوِيهِ صُورَتِهِم ، أَلا فَأَخرَسَ اللهُ أَلسِنَةً تَتَقَوَّلُ عَلَيهِم مَا لم يَفعَلُوا ، وَفَضَّ أَفوَاهًا تَتشدق ِبنَقدِهِم عَلَى غَيرِ بُرهَانٍ ، وَأَعمَى أَعيُنًا لا تَنظُرُ لهم بِنَظرَةِ التَّقدِيرِ وَالتَّكرِيمِ . اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في عُلَمَائِنَا وَدُعَاتِنَا ، وَوَفِّقْنَا لِلاستِفَادَةِ مِنهُم وَسُلُوكِ طَرِيقِهِم عَلَى الحَقِّ ، وَاهدِنَا سَوَاءَ السَّبِيلِ وَتَبْ عَلَينَا ، وَاعفُ عنَّا واغفِرْ لَنَا وَارحَمْنَا ، أَنتَ مَولانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ .
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ . وَاعلَمُوا أَنَّ لِلوَقِيعَةِ في العُلَمَاءِ وَانتِهَاكِ أَعرَاضِهِم عَوَاقِبَ وَخِيمَةً وَنَتَائِجَ خَطِيرَةً وَآثَارًا سَلبِيَّةً ، يُدرِكُهَا مَن تَأَمَّلَ الوَاقِعَ وَاتَّسَعَ أُفُقُهُ وَبَعُدَ نَظَرُهُ . مِن ذَلِكَ أَنَّ جَرحَ العَالِمِ سَبَبٌ في امتِهَانِ مَا يَحمِلُهُ مِنَ العِلمِ وَرَدِّ مَا يَقُولُهُ مِنَ الحَقِّ ، بَلْ إِنَّ جَرحَ العَالِمِ مَا هُوَ إِلاَّ جَرحٌ لِلعِلمِ الَّذِي مَعَهُ وَتَنَقُّصٌ لِلمِيرَاثِ الَّذِي بَينَ جَنبَيهِ ، وَكَفَى بِذَلِكَ جَرحًا لِلنَّبيِّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَإِيذَاءً لَهُ وَانتِقَاصًا ، وَكَفَى بِهِ إِيذَاءً لِلرَّبِّ ـ جَلَّ وَعَلا ـ وَإِغضَابًا لَهُ ، وَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ " إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُم عَذَابًا مُهِينًا . وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُبِينًا "
وَمِنَ الآثَارِ أَنَّ جَرحَ العُلَمَاءَ إِسقَاطٌ لِلقُدُوَاتِ الصَّالِحَةِ لِلأُمَّةِ ، وَرَفعٌ لِلقُدُوَاتِ الزَّائِفَةِ السَّيِّئَةِ ، ممَّا يُبعِدُ طُلاَّبَ العِلمِ عَنِ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ ، وَيُعَلِّقُهُم بِالجَاهِلِينَ وَالمُفسِدِينَ ، وَحِينَئِذٍ يَسِيرُ الشَّبَابُ عَلَى غَيرِ هُدًى ؛ فَيَتَعَرَّضُونَ لِلأَخطَارِ وَيَقَعُونَ في الأَخطَاءِ ، وَلا يَسلَمُونَ مِنَ الشَّطَطِ وَالزَّلَلِ ، وَمِن ثَمَّ يَكُونُونَ مَعَاوِلَ هَدمٍ وَعَوَامِلَ إِفسَادٍ .
وَمِن آثَارِ تَجرِيحِ العُلَمَاءِ وَتَقلِيلِ شَأنِهِم في نَظَرِ العَامَّةِ ، وَإِذهَابِ هَيبَتِهِم وَإِنقَاصِ قِيمَتِهِم في صُّدُورِ الخَاصَّةِ ، أَنَّ هَذَا أكبرُ خِدمَةٍ وَمُسَاعَدَةٍ يُمكِنُ أَن تُقَدَّمَ لأَعدَاءِ اللهِ ، لِيُنَفِّذُوا مُخَطَّطَاتِهِم في تَغرِيبِ الأُمَّةِ وَإِبعَادِهَا عَن دِينِهَا ، وَلِيَسهُلَ عَلَيهِم تَخرِيبُ البِلادِ وَإِفسَادُ العِبَادِ ، وَلِيَتَمَكَّنُوا مِن غَزوِ الأَوطَانِ فِكرِيًّا وَتَدمِيرِهَا خُلُقِيًّا .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاعرِفُوا لِعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ قَدرَهُم ، وَعَظِّمُوا شَعَائِرَ رَبِّكُم " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ "
المشاهدات 4835 | التعليقات 8
إِنَّ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ اليَومَ يُوَاجِهُونَ هَجَمَاتٍ شَدِيدَةً ، وَيَلقَونَ تَضيِيقًا وَأَذًى كَثِيرًا ، يَتَوَلاَّهُ أَعدَاءُ الدِّينِ المُنَاوِئُونَ لأَهلِ السُّنَّةِ كَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ ، وَيَنفُخُ فِيهِ مُنَافِقُو الصَّحَافَةِ وَيَنشُرُهُ أَقزَامُ الإِعلامِ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ عُلَمَاءَ الأُمَّةِ هُم قَادَتُهَا لِلحَقِّ وَأَمَلُهَا في العَودَةِ إِلى سَابِقِ عَهدِهَا مِنَ العِزَّةِ وَالمَنَعَةِ وَالرِّفعَةِ...
الآن أصبح من السهل جداً انتقاد كبار العلماء من قبَلِ أيّ سفيه قليل العلم، ضعيف الادراك.
حتى إنك لتسمع في المجالس من يهوّن من قيمة العلماء وينتقصهم علنا جهارا.
قال أحدهم: أفتى الشيخ الفلاني في القناة الفلانية بكذا.. ثمّ يقول: ..ومشايخنا لعبوا علينا ردحا من الزمن، ويشددوا على الناس فيما أحله الله.. ثم يقول: وانا من اليوم آخد الفتاوى من ذلك الشيخ(المبجل العظيم) الذي يظهر في القناة..
وهذه - والله - بليّة هذا العصر.
أن تستطيع فئة من (حثالى وأراذل) المجتمع سحْب ثقةَ الناس في العلماء، وانتزاع هيبة العالم من قلوبهم !!
وهنا دعوى: كيف نرجع البساط الذي سحب من تحت أقدام العلماء؟
أشكرك جزيلاً ـ أخي الكريم أبا عبدالرحمن ـ لما أبديته ولحظته ، وهذا النقد الأخوي الصادق هو طريق الارتقاء بالخطيب ، وهو ما نفتقده كثيرًا في زمن ساد فيه التمادح والمجاملة أكثر مما ينبغي .
أما عدم تصريحي باسمي الشيخين الكريمين : محمد المنجد ومحمد العريفي ، فقد أردت للخطبة شيئًا من العموم ؛ لأن المصيبة بهذا الأمر صارت تتجدد في أوقات متقاربة ـ والأمر لله ـ فأردت أن يستفاد من الخطبة أكثر من مرة ، وأنت ترى هؤلاء المتسلقين في كل يوم يتناولون جبلاً من جبال العلم والدعوة الشامخة في بلادنا محاولين البروز على كتفه ؛ ليراهم الآخرون وكأنهم شيء وهم في الحقيقة لا شيء .
وأما ما لحظته من دعائي على هؤلاء الكتاب والمتكلمين في العلماء والدعاة جهارًا نهارًا في الصحف والمواقع ، والمستهزئين بهم بلا حياء ولا وجل ، فإنما هي غضبة مني لإخواني من العلماء والدعاة الذين أدين الله بمحبتهم " والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا " و" المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة "
ولا ريب أن إخواننا من العلماء والدعاة ليسوا إلى شيء منا اليوم أحوج منهم إلى الوقوف بجانبهم بالذب عن أعراضهم والتصدي للحملات التي تهدف إلى إسقاطهم ، والدعاء لهم ، وعلى أعداء الإسلام بأن يحبط الله مساعيهم .
وإني لأرجو الله أن يقبل دعائي ويثيبني على محبتي لأخواني .
وفي رأيي أن تعبيرك ـ أثابك الله ـ بالدعاء على المخالف توسع لا يعبر عما قصدته في خطبتي عامة وما تضمنته من دعاء بوجه خاص ، إذ المخالف : كلمة عامة ، يدخل فيها المخالف بحق والمخالف مخالفة ظاهرة لا عذر له فيها ولا مسوغ .
وأنا لم أدع على من خالف في مسألة اجتهادية يسعه أن يأخذ فيها بما يؤديه إليه اجتهاده وما يدين الله به ، ولكني دعوت على رافضة ومنافقين مستهزئين بالله وبرسوله وبحملة شريعته . فدعنا نقتصر على الدعاء على الظالم المعتدي .
قال ـ سبحانه ـ : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " جاء في تفسير هذه الآية عند ابن كثير ـ رحمه الله ـ : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " لا يُحِبُّ اللهُ الجَهرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَولِ " يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد ، إلا أن يكون مظلومًا ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : " إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ " وإن صبر فهو خير له .
وكما دعا ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمشركين بالهداية ، فقد دعا عليهم في المقابل بالهلاك والزلزلة والهزيمة والموت ، وأن يملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا ... إلخ .
روى البخاري في بَاب الدُّعَاءِ لِلمُشْرِكِينَ بِالهُدَى لِيَتَأَلَّفَهُم حديثًا واحدًا :
قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ : قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوسِيُّ وَأَصحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ دَوسًا عَصَت وَأَبَتْ فَادْعُ اللهَ عَلَيهَا فَقِيلَ : هَلَكَت دَوسٌ . قَالَ : " اللَّهُمَّ اهْدِ دَوسًا وَأْتِ بِهِم .
وفي بَاب الدُّعَاءِ عَلَى المُشرِكِينَ بِالهَزِيمَةِ وَالزَّلزَلَةِ روى الأحاديث التالية :
عَن عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَومُ الأَحزَابِ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَلأَ اللهُ بُيُوتَهُم وَقُبُورَهُم نَارًا ؛ شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الوُسطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمسُ "
وعَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَدعُو في القُنُوتِ : " اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبي رَبِيعَةَ ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المُستَضْعَفِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ "
وعن عَبدَ اللهِ بْنَ أَبي أَوفَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ يَقُولُ : دَعَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَومَ الأَحْزَابِ عَلَى المُشرِكِينَ فَقَالَ : " اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكِتَابِ سَرِيعَ الحِسَابِ ، اللَّهُمَّ اهزِمِ الأَحْزَابَ ، اللَّهُمَّ اهزِمْهُم وَزَلْزِلْهُم "
وعَن عَبدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُصَلِّي في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَنُحِرَتْ جَزُورٌ بِنَاحِيَةِ مَكَّةَ فَأَرْسَلُوا فَجَاءُوا مِنْ سَلَاهَا وَطَرَحُوهُ عَلَيْهِ ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَلْقَتْهُ عَنهُ فَقَالَ : " اللَّهُمَّ عَلَيكَ بِقُرَيشٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيكَ بِقُرَيشٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ، لأَبِي جَهلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ . قَالَ عَبدُ اللهِ : فَلَقَدْ رَأَيتُهُمْ في قَلِيبِ بَدْرٍ قَتلَى .
وعَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّ اليَهُودَ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيكَ ، فَلَعَنْتُهُمْ ، فَقَالَ : مَا لَكِ ؟ قُلْتُ : أَوَلم تَسمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : " فَلم تَسمَعِي مَا قُلْتُ وَعَلَيْكُم "
وفي مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ قال : قَنَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ في صَلاةِ الصُّبْحِ يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ ، وَيَقُولُ : " عُصَيَّةُ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ " وهو في البخاري في مواضع متعددة وبألفاظ نحو هذه .
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : قنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة ، يدعو على أحياء من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ، ويؤمن من خلفه . قال الألباني : حسن .
وقد نقلت ما أسعفني به الوقت على عجل ولم أرد الاستيعاب ، وإنما أردت ألا يُظنَّ أن الدعاء على المشركين بدع من القول أو أنه لم يرد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيُسارِعَ بعض المتساهلين والمتوسعين فيُخَطِّئوا الخطباء بسببه ويصموهم بالاعتداء في الدعاء ونحو ذلك .
وأما ما رأيته ـ وفقك الله ـ من أن الأولى الدعاء لهم فلا تثريب عليك ، كما أنه لا تثريب على من دعا ؛ لورود كلا الأمرين عن القدوة والأسوة ـ عليه الصلاة والسلام ـ
فمن ترك الدعاء عليهم ودعا لهم فقد أخذ بـ" اللهم اهد دوسًا وائت بهم "
ومن دعا عليهم لما يراه من شدة عداوتهم وظهور شرهم ، فله أحاديث يستند إليها ، ولا أظن ثمة ما يدعو إلى أن نأخذ بالسنة الأولى ونترك الأخرى وقد استحق هؤلاء أن يدعى عليهم لما خرجوا علينا به من ظلم لإخواننا بل لعلمائنا ، وهو في الحقيقة ظلم لنبينا بل لخالقنا وإلهنا " إن الشرك لظلم عظيم " " وَلَئِن سَأَلْتَهُم لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَستَهزِئُونَ . لا تَعتَذِرُوا قَد كَفَرتُمْ بَعدَ إِيمَانِكُم إِنْ نَعفُ عَن طَائِفَةٍ مِنكُم نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُم كَانُوا مُجرِمِينَ . المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَنِ المَعرُوفِ وَيَقبِضُونَ أَيدِيَهُم نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ "
وها هانا ملحظ لعله لا يخفى على المتأمل ، وهو أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما دعا لدوس ، دعا لقوم لم يؤمنوا به وعصوا دعاتهم ، ولكن لم يذكر عنهم أنهم حاربوه أو آذوه أو تكلموا فيه .
وأما الذين دعا عليهم ، فقد آذوه وآذوا أصحابه ، فمنهم من ألقى على ظهره سلا الجزور وهو في أشرف مقام بين يدي ربه ، ومنهم من تحزبوا لحربه وتألبوا للقضاء على دولته وشغلوه عن صلاته ، ومنهم من قتلوا القراء ، ومنهم من دعوا عليه بالسام (الموت) إلخ .
وهؤلاء المتعرضون لعلمائنا على رؤوس الأشهاد في صحف يقرؤها الجميع صغارًا وكبارًا ورجالاً ونساءً ، ويطلع عليها من بداخل البلاد ومن هو خارجها ، قد بلغت بهم البجاحة والصفاقة مبلغًا آذوا به كل من يحب الله ورسوله وشغلوه عن طاعة ربه ، فهم لم يتركوا العلماء والدعاة يبلغون دين ربهم ويدعون إلى سبيله ويمضون في طريق الإصلاح ، بل تكلموا فيهم وسبوهم واستهزؤوا بهم ، وألبوا الولاة والحكومات ضدهم ، وسنوا القوانين والأنظمة لمنعهم من نشر العلم وإبلاغ الدعوة ... إلخ ، أفلا يسوغ الدعاء عليهم مع هذا ، وخاصة مع عجز المظلومين عن أخذ حقهم منهم لما اتكؤوا عليه من أنظمة ظالمة وقوانين جائرة ؟!
هذا ما رأيتُه ومبلغ علمي وفهمي ، وعهدنا بك ـ أخانا أبا عبدالرحمن باحثًا ماهرًا وهاديًا خريتًا ـ فأثر الموضوع بمزيد بحث لتكمل الفائدة .
مرحبًا بك ـ أخي الشيخ علي ـ وشكر الله لك مرورك .
والبساط ـ ولله مزيد الحمد ووافي الشكر ـ لم يزل تحت أقدام العلماء ولن يزال ما اتقوا ربهم وخافوه وحده وأخلصوا له وأرضوه دون سواه .
وما يحصل هو نوع من الابتلاء والتمحيص الذي لا بد منه ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وليتبين الصادق من الكاذب ، وليرفع الله درجات أقوام ويحط آخرين
" أَم حَسِبتُم أَن تُترَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُم وَلم يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا المُؤمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ "
فلتثق الأمة بنصر الله لها ولتستبشر ولن يضرها من نكص على عقبيه ، بل لا يضر إلا نفسه ، وفي الصحيح : " ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله "
والعلماء سيبقون هم القادة لمن أنار الله بصيرته من الأمة إلى الحق ، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها .
وها هنا خطبة : ( مكانة العلماء ومكر السفهاء )
https://khutabaa.com/forums/موضوع/134964
[align=center]اللهم تقبل دعاء عبدك عبدالله البصري، وذب عن وجهه النار، كما ذبَّ عن عرض إخوانه، واجزه حسن الثواب. آمين.
وآمل من جميع الخطباء والدعاة ألا يغفلوا هذا السلاح الذي نملكه ولا يملكونه، ونتقنه ولا يتقنونه ... إنه سلاح الدعاء.[/align]
[align=center]
جزاك الله خيرا يا شيخ عبدالله
اسأل الله أن ينفع بك وبخطبك الإسلام والمسلمين
كم استفدت من هذه الخطب لا حرمك الله أجر ذلك
وأخبرك شيخي بأني أحبك في الله
أخوك : عبيد الطوياوي
حائل
[/align]
أبو عبد الرحمن
تعديل التعليق