خطبة : ( أيستفتى البشر في حكم رب البشر ؟! )

عبدالله البصري
1438/05/12 - 2017/02/09 20:34PM
أيستفتى البشر في حكم رب البشر ؟! 13 / 5 / 1438
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، بَينَ فَينَةٍ وَأُخرَى نَقرَأُ في صُحُفٍ وَمَوَاقِعَ ، أَو يُنقَلُ إِلَينَا عَبرَ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ ، استِفتَاءٌ يَضَعُهُ فَردٌ أَو تَنشُرُهُ مُؤَسَّسَةٌ إِعلامِيَّةٌ ، لا حَولَ مَا يَقبَلُ أَخذَ الرَّأيِ وَالمُطَارَحَةَ مِن أُمُورِ الدُّنيَا المُبَاحَةِ وَمَصَالِحِ النَّاسِ المُرسَلَةِ ، وَلَكِنْ في قَضِيَّةٍ شَرعِيَّةٍ مَفرُوغٍ مِنهَا وَمَعرُوفٍ حُكمُهَا .
أَمَّا أُسلُوبُ الاستِفتَاءِ المَفتُوحِ في ذَاتِهِ ، فَهُوَ وَإِن كَانَ لَيسَ بِمُحَرَّمٍ بِإِطلاقٍ ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيسَ مِمَّا يُعرَفُ بِهِ الحَقُّ مِن البَاطِلِ ، بَل هُوَ مِمَّا يَستَنِدُ إِلَيهِ أَهلُ البَاطِلِ غَالِبًا في القَدِيمِ وَالحَدِيثِ وَيَعتَمِدُونَ عَلَيهِ في دَعمِ بَاطِلِهِم وَتَسوِيغِ ضَلالِهِم ، إِذْ تُؤخَذُ فِيهِ آرَاءُ عَامَّةِ النَّاسِ وَيُمَالُ إِلى مَا يَرغَبُ فِيهِ الجُمهُورُ ، وَعَامَّةُ النَّاسِ وَجُمهُورُهُم كَمَا جَاءَ في كِتَابِ اللهِ ، لا يُجمِعُونَ عَلَى الحَقِّ وَلا يَتَّفقون عَلَى اتِّبَاعِهِ ، بَل هُم عَنهُ في الغَالِبِ مُنحَرِفُونَ مَائِلُونَ ، إِمَّا لأَنَّهُم لا يَملِكُونَ وَسَائِلَ مَعرِفَتِهِ ، وَإِمَّا لأَنَّهُ لا يُوَافِقُ شَهَوَاتِهِم وَلا يُحَقِّقُ رَغَبَاتِهِم ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَإِن تُطِعْ أَكثَرَ مَن في الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُم إِلاَّ يَخرُصُونَ "
وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنُونَ "
وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بِمُؤمِنِينَ "
وَقَالَ – تَعَالى - : " وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ "
وَقَالَ – تَعَالى - : " فَأَبى أَكثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا "
وَقَالَ – تَعَالى – : " وَلَقَد ضَلَّ قَبلَهُم أَكثَرُ الأَوَّلِينَ "
وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " وَاعلَمُوا أَنَّ فِيكُم رَسُولَ اللهِ لَو يُطِيعُكُم في كَثِيرٍ مِنَ الأَمرِ لَعَنِتُّم "
هَذِهِ هِيَ حَالُ الكَثرَةِ الكَاثِرَةِ وَهَذَا هُوَ اتِّجَاهُهَا ، كُفرٌ وَإِبَاءٌ وَعَدَمُ إِيمَانٍ ، وَضَلالٌ وَعَنَتٌ وَمَشَقَّةٌ ، وَخَرصٌ وَاتِّبَاعٌ لِلظَّنِّ بِلا عِلمٍ ، وَأَمَّا القِلَّةُ فَلَم تَكُنْ يَومًا دَلِيلاً عَلَى تِلكَ الآفَاتِ وَلا مُؤَشِّرًا عَلَيهَا ، بَل لَقَد جَاءَت في مَوَاضِعَ مِن كِتَابِ اللهِ في مَعرِضِ المَدحِ وَبَيَانِ سَلامَةِ المَنهَجِ لأَصحَابِهَا ، قَالَ – تَعَالى - : " فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوا إِلاَّ قَلِيلاً مِنهُم "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنهُ فَلَيسَ مِنِّي وَمَن لم يَطعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغتَرَفَ غُرفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنهُم فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَومَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاقُو اللهِ كَم مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ "
وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " وَلَو أَنَّا كَتَبنَا عَلَيهِم أَنِ اقتُلُوا أَنفُسَكُم أَوِ اخرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنهُم "
وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنهُم إِلاَّ قَلِيلاً مِنهُم "
وَقَالَ – تَعَالى - : " وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ "
وَقَالَ – تَعَالى - : " قُلْ رَبِّي أَعلَمُ بِعِدَّتِهِم مَا يَعلَمُهُم إِلاَّ قَلِيلٌ "
وَقَالَ – جَلَّ شَأنُهُ - : " وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبغِي بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُم "
أَرَأَيتُم أَينَ ذُكِرَتِ القِلَّةُ وَأَينَ جَاءَت ؟!
لَقَد ذُكِرَت وَجَاءَت في مَوَاطِنِ الصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ وَالعَدلِ وَالوَفَاءِ ، وَالجُودِ بِالنُّفُوسِ في مَيَادِينِ الجِهَادِ وَالبَذلِ وَالعَطَاءِ ، وَالعِلمِ بِحَقَائِقِ الأُمُورِ وَتَبَيُّنِهَا ، وَالإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالشُّكرِ وَالنَّهيِ عَنِ الفَسَادِ ، أَجَل – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّ الكَثرَةَ لا تَكَادُ تُجمِعُ إِلاَّ عَلَى الضَّلالِ وَالخِيَانَةِ وَالفَسَادِ وَالإِفسَادِ ، فَإِذَا أُضِيفَ إِلى ذَلِكَ قُصُورُ العَقلِ البَشَرِيِّ عَن إِدرَاكِ الحَقَائِقِ وَمآلاتِ الأُمُورِ وَإِن كَانَ صَاحِبُهُ مِن أَعقَلِ النَّاسِ ، فَكَيفَ تُعرَضُ أَحكَامِ رَبِّ البَشَرِ عَلَى عُقُولِ البَشَرِ ، وَكَيفَ يَسمَحُ مَخلُوقٌ ضَعِيفٌ وَنَكِرَةٌ حَقِيرٌ لِنَفسِهِ أَن يَسألَ العَامَّةَ في صَحِيفَةٍ أَو مَوقِعٍ قَائِلاً لَهُم : مَا رَأيُكُم في فِعلِ هَذَا وَتَركِ ذَاكَ ، وَمَاذا تَقُولُونَ في حُكمِ هَذِهِ المَسأَلَةِ أَو تِلكَ ؟! وَلَئِن كَانَ في قَلبِ أَحَدٍ شَكٌّ مِن ضَلالِ هَذَا الأُسلُوبِ في مَعرِفَةِ الحَقِّ في حُكمٍ مَا وَإِن كَانَ مُختَلَفًا فِيهِ بَينَ العُلَمَاءِ ، فَلَيَصِلَنَّ بِهِ الضَّلالُ يَومًا إِلى أَن يَستَفتِيَ النَّاسَ في مُحكَمَاتِ الدِّينِ وَأُصُولِ الشَّرعِ وَثَوَابِتِ المِلَّةِ ، وَهَل بَعدَ ذَلِكَ إِلاَّ الكُفرُ بِاللهِ وَالخُرُوجُ مِن رِبقَةِ الإِسلامِ ؟! فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الحَورِ بَعدَ الكَورِ وَمِنَ الزَّيغِ بَعدَ الهُدَى .
وَلا تَختَلِطُ الأُمُورُ عَلَى المُسلِمِ بِحَمدِ اللهِ وَلا تَشتَبِهُ ، فَيُصَدِّقَ أَنَّ مِثلَ هَذِهِ الاستِفتَاءَاتِ تَدخُلُ في الشُّورَى الَّتي جَاءَ بها الإِسلامُ ، إِذِ الأَحكَامُ الشَّرعِيَّةُ الَّتي ثَبَتَت بِدَلِيلٍ شَرعِيٍّ صَحِيحٍ ، لا يَسَعُ المُسلِمَ أَمَامَهَا إِلاَّ التَّسلِيمُ بها وَالانقِيَادُ لها ، وَفِعلُ الوَاجِبِ مِنهَا وَاجتِنَابُ المُحَرَّمِ ، طَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ وَخَشيَةً مِنَ العِقَابِ ، وَطَمَعًا في دُخُولِ الجَنَّةِ وَخَوفًا مِن وُلُوجِ النَّارِ ، وَأَمَّا الشُّورَى الَّتي جَاءَ بها الإِسلامُ وَأَقَرَّهَا ، فَلَهَا أَحوَالُهَا وَمَوَاطِنُهَا الَّتي يُؤخَذُ بها فِيهَا ، وَأَحكَامُهَا المُفصَّلَةُ في كُتُبِ أَهلِ العِلمِ وَالفِقهِ ، وَهِيَ لا تُبطِلُ حَقًّا وَلا تُحِقُّ بَاطِلاً ، وَلا تُلغِي حُكمًا شَرعِيًّا وَلا تُخَالِفُ نَصًّا مُنزَلاً ، وَلا يُعتَدَى بها عَلَى حَقٍّ مِن حُقُوقِ اللهِ - تَعَالى - أَو حُقُوقِ رَسُولِهِ ، بَل وَلا يُتَجَاوَزُ فِيهَا عَلَى الأُمَّةِ في حُقُوقِهَا العَامَّةِ أَو حُقُوقِ أَفرَادِهَا الخَاصَّةِ ، وَأَمَّا تَعرِيضُ الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ لِلاستِفتَاءَاتِ أَيًّا كَانَ نَوعُهَا ، فَغَالِبًا مَا يَكُونُ رَأيُ الأَكثَرِيَّةِ فِيهِ هُوَ الخَطَأَ وَالضَّلالَ ، فَضلاً عَن كَونِهِ في حَقِيقَتِهِ تَحَاكُمًا إِلى الطَّاغُوتِ وَمُخَالَفَةً لِشَرعِ اللهِ وَتَعدِيًا لِحُدُودِ اللهِ ، وَنِفَاقًا خَالِصًا ، قَالَ - سُبحَانَهُ - : " أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلالاً بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا إِلى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلى الرَّسُولِ رَأَيتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا "
وَقَالَ - تَعَالى - : " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا "
إِنَّ المُسلِمَ الصَّادِقَ في إِسلامِهِ ، لا يَخرُجُ عَنِ التَّسلِيمِ لأَمرِ رَبِّهِ طَرفَةَ عَينٍ وَلا يُجَاوِزُهُ خُطوَةَ قَدَمٍ ، وَلا يُخَالِجُهُ شَكٌّ في كَونِهِ حَقًّا لا مِريَةَ فِيهِ ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً "
وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ شَأنَ المُؤمِنِينَ المُطِيعِينَ للهِ وَلِرَسُولِهِ ، فَعَلَى أَيِّ عُقُولٍ يُرَادُ أَن تُعرَضَ الأَحكَامُ الشَّرعِيَّةِ لِتُقِرَّ بهَا أَو تَرفُضَهَا ؟! أَعَلَى عُقُولِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمُلحِدِينَ ، أَم عَلَى عُقُولِ الرَّافِضَةِ وَالبَاطِنِيَّينَ وَالمُنَافِقِينَ ، أَم عَلَى عُقُولِ الجَهَلَةِ وَأهل الفساد والغَافِلِينَ ؟!
إِنَّ عُقُولَ البَشَرِ مُختَلِفَةٌ كُلَّ الاختِلافِ ، تَختَلِفُ عُقُولُ اليَهُودِ عَن عُقُولِ النَّصَارَى ، وَعُقُولُ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى عَن عُقُولِ المُسلِمِينَ ، وَفي المُسلِمِينَ الصَّالِحُونَ وَمَن هُم دُونَ ذَلِكَ ، وَلَيس كُلُّ صَالِحِي المُسلِمِينَ عُلَمَاءَ وَلا فُقَهَاءَ ، بَل حَتَّى عُقُولُ العُلَمَاءِ وَالفُقَهَاءِ تَختَلِفُ ، فَأَيُّ عَقلٍ يَنبَغِي أَن يُؤخَذَ بِفَهمِهِ وَيُحَكَّمَ في أَحكَامِ رَبِّ العَالَمِينَ ؟!
إِنَّ العُقُولَ لَتَختَلِفُ في البَيتِ الوَاحِدِ وَأَهلُهَا مِن أُسرَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلا دَلِيلَ عَلَى إِصَابَةِ عَقلٍ دُونَ عَقلٍ ، وَلا مَجَالَ لِتَرجِيحِ عَقلٍ عَلَى عَقلٍ أَو تَقدِيمِ رَأيٍ عَلَى آخَرَ ، وَمِن ثَمَّ كَانَ الحَقُّ فِيمَا جَاءَ مِن عِندِ اللهِ ، وَكَانَ الوَاجِبُ هُوَ الرُّجُوعَ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ ، قَال – تعالى - : " وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلافًا كَثِيرًا " وَقَال - عَزَّ وَجَلَّ - : " فَإِنْ تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ "
أَلا فلْنَتِّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلا نَغتَرَّنَّ بِأَنَّ بَعضَ هَذِهِ العُقُولِ قَد نَالَت تَقَدُّمًا في دُنيَاهَا وَتَوَصَّلَت لِمُختَرَعَاتٍ وَمَصنُوعَاتٍ ، فَنُحَكِّمَهَا فَي مَا لَيسَ مِن شَأنِهَا ، فَقَد قَالَ العَلِيمُ الخَبِيرُ عَن أَصحَابِهَا : " وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ . يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غَافِلُونَ "
وَقَالَ – تَعَالى – عَنهُم : " لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا "
وَإِنَّهُ لَو كَانَ الكُفَّارُ عُقَلاءَ حَقًّا ، لَقَادَتهُم عُقُولُهُم إِلى أَعظَمِ مَطلُوبٍ وَأَغلَى مَرغُوبٍ ، وَلِذَا فَإِنَّهُم سَيَعتَرِفُونَ يَومَ القِيَامَةِ بِأَنَّهُم لم يَكُونُوا عُقَلاءَ كَمَا أَخبَرَ اللهُ عَنهُم بِقَولِهِ : " وَقَالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ مَا كُنَّا في أَصحَابِ السَّعِيرِ "
اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنتَ خَيرُ مَن زَكَّاهَا ، أَنتَ وَلِيُّهَا وَمَولاهَا ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ ، وَمِن قَلبٍ لا يَخشَعُ ، وَمَن نَفسٍ لا تَشبَعُ ، وَمِن دَعوَةٍ لا يُستَجَابُ لَهَا ...
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَأَسلِمُوا لَهُ وَسَلِّمُوا لأَمرِهِ وَلا تُخَالِفُوا ، فَإِنَّمَا أُمِرنَا بِاتِّبَاعِ مَا أُنزِلَ عَلَى رَسُولِنَا ، قَالَ رَبُّنَا - تَبَارَكَ وَتَعَالى - : " اِتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ "
وَلَمَّا كَانَ غَيرُ العَالِمِ لا يَتَمَكَّنُ مِن مَعرِفَةِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلاَّ بِالرُّجُوعِ إِلى أَهلِ العِلمِ كَانَتِ الفَضِيلَةُ لَهُم بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعقِلُونَ ، قَالَ – تَعَالى - : " وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ " وَمِن ثَمَّ فَإِنَّنَا مَأمُورُونَ بِالرُّجُوعِ إِلى أَهلِ العِلمِ عِندَمَا نَجهَلُ حُكمَ الشَّرعِ في حَادِثَةٍ مِنَ الحَوَادِثِ أَو أَمرٍ مِنَ الأُمُورِ ، لا إِلى استِفتَاءِ النَّاسِ وَتَلَقِّي الآرَاءِ مِن هُنَا أَو مِن هُنَاكَ ، قَالَ – تَعَالى - : " فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ "
وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمرِ مِنكُم "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً "
اللَّهُمَّ رَبَّ جِبرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ ، عَالِمَ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ . اِهدِنَا لِمَا اختُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذنِكَ إِنَّكَ تَهدِي مَن تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ .
المرفقات

أيستفتى البشر في حكم رب البشر.doc

أيستفتى البشر في حكم رب البشر.doc

أيستفتى البشر في حكم رب البشر.pdf

أيستفتى البشر في حكم رب البشر.pdf

المشاهدات 2701 | التعليقات 6

فتح الله عليك شيخ عبدالله وزادك من فضله ونفع بك ..

خطبة رائعة وموفقة .. دمت مسددا موفقا ..


جزاك الله خيرا


الشيخ عبدالله نفع الله بك وجزاك الله خيرا على هذه الخطبة والتي نحتاجها في هذا الوقت لكثرة الاستفتاءات التي تظهر لنا

واسمح لي يا شيخ أن أطرح تساؤل لاستفيد من رأيك ورأي الفضلاء المشاركين في هذا الموقع المبارك

ذكرت في خطبتك :

إِنَّ الكَثرَةَ لا تَكَادُ تُجمِعُ إِلاَّ عَلَى الضَّلالِ وَالخِيَانَةِ وَالفَسَادِ وَالإِفسَادِ

والعبارة الأخرى

وَأَمَّا تَعرِيضُ الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ لِلاستِفتَاءَاتِ أَيًّا كَانَ نَوعُهَا ، فَغَالِبًا مَا يَكُونُ رَأيُ الأَكثَرِيَّةِ فِيهِ هُوَ الخَطَأَ وَالضَّلالَ


في حين أننا نرى ولله الحمد والفضل والمنة أن أغلب استفتاءاتهم تكون نتائجها عكسية عليهم

كما حصل في السينما رفضها كثير من المشاركين
وكذلك اسقاط الولاية وقيادة المرأة للسيارة وأيضا فيما يتعلق بالهيئة

كلها كانت نتائجها ولله الحمد تؤكد صلاح المجتمع وتدينه

فقد يظن أننا نهاجم المجتمع ونصفه بالجهل والضلال مع أن أكثرهم وخاصة أهل الجمع والجماعات حريصون على الفاعلية وإنكار المنكر

مجرد رأي ويهمني معرفة رأيكم وفقكم الله ونفع بكم لأهمية الموضوع وجزاكم الله خيرا جميعا


الأخ الكريم : عبدالله وفقه الله وجميع الأحبة ..
في نظري الأمر واضح ، الآيات الكريمة في الخطبة وغيرها تفيد عموم أهل الأرض .. قال تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك ...
وقال تعالى : والعصر * إن الإنسان لفي خسر .. وهذه أيضا تفيد عموم جنس الإنسان ..
وكل هذه الآيات وما في معناها نزلت على أطهر المجتمعات وخير القرون ..
فلا شك إذن أن المقصود هو عموم أهل الآرض .. ولا شك أن أكثرهم كما بينت الآيات يميلون للباطل والشهوات و ...
فمعارضة الآيات بنتائج محتمع يغلب عليه المحافظة والميل للصلاح ليس صحيحاً ، لأن (عينة البحث ) لا تمثل حقيقة الواقع كاملا ..
وحيث أن الوصول إلى حكم قطعي صحيح على رأي غالبية الناس (أهل الأرض) لا يمكن الوصول إليه إلا تخرصا .. لتقاطع المصالح ..
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام : 116]
أخيراً .. فهذا الخبر وما في معناه .. أخبار إلاهية ليس للمؤمن حيالها إلا التسليم المطلق والإنقياد ..
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد : 19]
والله أعلم وأحكم ..


استغفر الله واتوب إليه إن كان فهم من كلامي معارضة كتاب الله

وجزاك الله خيرا يا شيخ عبدالله الطوالة على التنبيه والتوضيح

والمقصد نحن نخاطب شريحة معينه فيها الخير وأكثرها تعارض ما يتم الاستفتاء عليه فيجب أن نخاطبهم ما يناسبهم لا بما يناسب عموم الناس

وإن كان من المناسب أن نذكر أن المجتمع ولله الحمد ومع هذه الاستفتاءات الفاسدة فهو يعبر عن الخير حتى لا يقول قائل إن نتائج الاستفتاء التي ترفض الشر والفساد والإفساد لكثرتها ممن ينطبق عليهم الآيات الكريمة المذكورة

وجزاكم الله خيرا


جزاكم الله خيرًا إخوتي الكرام : الشيخ عبدالله الطوالة ، الشيخ عبدالله الحبيشي ، الشيخ شبيب القحطاني ، وفيكم وفي إخواننا الخطباء البركة ، تكملون ما نقص ، وتصححون ما قد يكون أخوكم أخطأ فيه ، وتضيفون ما ترونه ضروريًّا لتوضيح المقصود ، فالخطبة منكم وإليكم ...