خطبة : ( أنفقوا فقد جاء شهر الخير )
عبدالله البصري
أنفقوا فقد جاء شهر الخير 25/ 8/ 14444
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " إِنَّ المُتَّقِينَ في ظِلالٍ وَعُيُونٍ . وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشتَهُونَ . كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ . إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، المَالُ مِن زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنيَا ، بِهِ تَقُومُ مَصَالِحُ النَّاسِ وَتَسِيرُ حَيَاتُهُم وَتُقضَى حَاجَاتُهُم ، وَلِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ مَفطُورَةً عَلَى حُبِّهِ ، مَجبُولَةً عَلَى الحِرصِ عَلَيهِ ، مُستَكثِرَةً مِنهُ مُقبِلَةً عَلَى طَلبِهِ ، غَيرَ أَنَّ اللهَ بِحِكمَتِهِ قَد قَسَمَ حَظَّ النَّاسِ مِنهُ فَجَعَلَ مِنهُمُ الغَنيَّ وَالفَقِيرَ ، وَالبَالِغَ حَدَّ الكَفَافِ وَالمُحتَاجَ حَاجَةً شَدِيدَةً ، لِيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضًا سُخرِيًّا ، وَلِيُبلَى بَعضُهُم بِبَعضٍ ، فَيَعُودَ مَن لَهُ فَضلُ مَالٍ عَلَى مَن لا مَالَ لَهُ ، وَلِيُعِينَ القَادِرُ عَلَى الكَسبِ مَن عَجَزَ عَنِ التَّحصِيلِ ، وَمِن ثَمَّ كَانَتِ الصَّدَقَةُ مِن أَفضَلِ القُرُبَاتِ ، وَجُعِلَ حَظُّ الإِنسَانِ مِن مَالِهِ بِقَدرِ مَا تَصَدَّقَ مِنهُ في حَيَاتِهِ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِن خَيرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيرًا وَأَعظَمَ أَجرًا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " يَقُولُ ابنُ آدَمَ : مَالي مَالي ، وَهَل لَكَ يَا ابنَ آدَمَ مِن مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلتَ فَأَفنَيتَ ، أَو لَبِستَ فَأَبلَيتَ ، أَو تَصَدَّقتَ فَأَمضَيتَ ؟! " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَالصَّدَقَةُ عَدَا كَونِهَا أَجرًا في الآخِرَةِ ، فَإِنَّهَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ المَالِ وَنَمَائِهِ في الدُّنيَا ، وَكَيفَ لا تَكُونُ كَذَلِكَ وَاللهُ هُوَ الَّذِي قَد وَعَدَ المُنفِقَ بِأَن يُخلِفَ عَلَيهِ ، وَوَكَلَّ مَلائِكَةً تَدعُو في صَبَاحِ كُلِّ يَومٍ لِلمُنفِقِينَ بِالخَلَفِ وَلِلمُمسِكِينَ بِالتَّلَفِ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ " وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا ابنَ آدَمَ ، أَنفِقْ أُنفِقْ عَلَيكَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَا مِن يَومٍ يُصبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعطِ مُنفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعطِ مُمسِكًا تَلَفًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَإِذَا كَانَ النَّاسُ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ مَعَ تَوَفُّرِ المَالِ وَكَثرَتِهِ قَد أَصبَحُوا يَشتَكُونَ مِن ضِيقِ الصُّدُورِ وَقِلَّةِ السَّعَادَةِ ، فَإِنَّ مِن أَعظَمِ أَسبَابِ ذَلِكَ زُهدَهُم في بَذلِ المَالِ لِوَجهِ اللهِ ، وَصُدُودَهُم عَن ضُعَفَائِهِم ، وَعَدَمَ التِفَاتِهِم لِمَساكِينِهِم ، وَغَفلَتَهُم عَن مُحتَاجِيهِم ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِن أَعظَمِ أَسبَابِ شَرحِ الصُّدُورِ وَتَيسِيرِ الأُمُورِ ، وَتَحصِيلِ السَّعَادَةِ وَالسُّرُورِ ، وَبِهَا تُحفَظُ البِلادُ وَالعِبَادُ ، وَتَنزِلُ البَرَكَاتُ وَالرَّحَمَاتُ ، وَهِيَ فَلاحٌ وَصَلاحٌ ، وَسَبَبٌ لِتَفرِيجِ الكُرُوبِ وَالتَّطَهُّرِ مِنَ الذُّنُوبِ ، وَإِطفَاءِ غَضَبِ الرَّبِّ وَدَفعِ البَلاءِ ، وَالوِقَايَةِ مِن مِيتَةِ السُّوءِ وَالمَرَضِ وَالأَدوَاءِ ، قَالَ تَعَالى : " وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ " وَفي مُسنَدِ الإِمَامِ أَحمَدَ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الَّلهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَسوَةَ قَلبِهِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنْ أَرَدتَ أَن يَلِينَ قَلبُكَ ، فَأَطعِمِ المِسكِينَ وَامسَحْ رَأسَ اليَتِيمِ " وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " اُبغُوني ضُعَفَاءَكُم ؛ فَإِنَّمَا تُرزَقُونَ وَتُنصَرُونَ بِضُعَفَائِكُم " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَينِ عَلَيهِمَا جُنَّتَانِ مِن حَدِيدٍ قَدِ اضطَرَّت أَيدِيَهُمَا إِلى ثُدُيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا ، فَجَعَلَ المُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدقَةٍ انبَسَطَت عَنهُ ، وَجَعَلَ البَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَت وَأَخَذَت كُلُّ حَلَقَةٍ بِمَكَانِهَا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " صَنَائِعُ المَعرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ في العُمُرِ " رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَقَالَ الأَلبَانيُّ : حَسَنٌ لِغَيرِهِ .
وَإِذَا كَانَ كُلُّ مُؤمِنٍ يَدعُو رَبَّهُ قَائِمًا وَقَاعِدًا أَن يُنجِيَهُ مِنَ النَّارِ ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِن أَعظَمِ أَسبَابِ الوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ ، وَدُخُولِ صَاحِبِهَا في ظِلِّ اللهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَا مِنكُم أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيسَ بَينَهُ وَبَينَهُ تُرجُمَانٌ وَلا حِجَابٌ يَحجُبُهُ ، فَيَنظُرُ أَيمَنَ مِنهُ فَلا يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِن عَمَلِهِ ، وَيَنظُرُ أَشأَمَ مِنهُ فَلا يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنظُرُ بَينَ يَدَيهِ فَلا يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلقَاءَ وَجهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرَة " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " سَبعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ " وَمِنهُم : " وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخفَاهَا ، حَتَّى لا تَعلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنفِقُ يَمِينُهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ . وَأَنفِقُوا مِن مَا رَزَقنَاكُم مِن قَبلِ أَن يَأتيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصَّالِحِينَ . وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَأَنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ تَجِدُوهُ ، وَاعلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّنَا مُقبِلُونَ عَلَى مَوسِمٍ كَرِيمٍ وَشَهرٍ عَظِيمٍ ، شَهرِ الجُودِ وَالإحسَانِ ، وَمَوسِمِ النُّفُوسِ السَّخِيَّةِ وَالأَكُفِّ النَّدِيَّةِ ، إِنَّهُ المِضمَارُ الَّذي يَتَنَافَسُ الصَّالِحُونَ قَبلَهُ وَفي أَثنَائِهِ ، وَيَتَسَابَقُ المُحسِنُونَ قَبلَ دُخُولِهِ وَقَبلَ انتِهَائِهِ ، وَقَد كَانَ القُدوَةُ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أَجوَدَ النَّاسِ في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ ، وَكَانَ أَجوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ ، فَهُوَ فِيهِ أَجوَدُ بِالخَيرِ مِنَ الرِّيحِ المُرسَلَةِ ، فَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم ، وَاستَنزِلُوا رَحمَةَ رَبِّكُم ، أَدُّوا الزَّكَاةَ وَتَصَدَّقُوا ، وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ وَأَحسِنُوا إِلى الأَيتَامِ ، وَفَطِّرُوا الصَّائِمِينَ وَسَاهِمُوا في مَشرُوعَاتِ التَّفطِيرِ في مُؤَسَّسَاتِ الخَيرِ ، وَتَحَرَّوُا المُستَحِقِّينَ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالمَكرُوبِينَ وَالمَسَاكِينِ وَالمَسَاجِينِ ، وَتَفَقَّدُوا مَن حَولَكُم مِن أَقَارِبِكُم وَذَوِي أَرحَامِكُم ، وَأَسعِدُوا المُحتَاجِينَ مِن إِخوَانِكُم وَجِيرَانِكُم ، وَتَوَاصَلُوا مَعَ الجِهَاتِ المَوثُوقِ فِيهَا وَالمُصَرَّحِ لَهَا ، وَسَاهِمُوا بِمَا تَستَطِيعُونَ وَلَو قَلَّ ، وَلا تَحتَقِرُوا شَيئًا وَلَو صَغُرَ ، فَفِي الصَّحِيحَينِ : " مَن تَصَدَّقَ بِعَدلِ تَمرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلا يَقبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُم فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثلَ الجَبَل "
وَبَعدُ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، فَإِنَّ رَمَضَانَ مَوسِمٌ مِن مَوَاسِمِ التَّجَارَةِ الرَّابِحَةِ ، وَبَابٌ مِن أَوسَعِ أَبوَابِ المُجَاهَدَةِ الصَّادِقَةِ ، الصِّيَامُ فِيهِ لَيسَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَحَسبُ ، بَل هُوَ تَدَرُّبٌ عَلَى صِيَامِ الجَوَارِحِ كُلِّهَا عَنِ المُحَرَّمَاتِ ، بِغَضِّ البَصَرِ وَكَفِّ اليَدِ وَحِفظِ اللِّسَانِ ، وَإِغلاقِ الأُذُنِ وَتَقصِيرِ الخُطَا عَمَّا حَرَّمَ اللهُ ، مَا أَجمَلَ السَّهرَ في رَمَضَانَ إِذَا كَانَ في المَسَاجِدِ مَعَ المُصَلِّينَ ، وَمَا أَحسَنَ رَفعَ الصَّوتِ بِالقُرآنِ مَعَ التَّالِينَ ، وَمَن غَلَبَهُ نَومٌ عَنِ الصَّلاةِ وَتَكَاسَلَ عَنِ الجَمَاعَةِ ، فَلْيَتَذَكَّرْ أَنَّ وَرَاءَهُ نَومًا في قَبرٍ مُظلِمٍ وَحِيدًا فَرِيدًا ، وَمَنِ استَثقَلَ القِيَامَ مَعَ الإِمَامِ في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ ، فَلْيَعلَمْ أَنَّ وَرَاءَهُ يَومًا ثَقِيلاً مِقدَارُهُ خَمسُونَ أَلفِ سَنَةٍ ، وَمَن حَدَّثَتهُ نَفسُهُ بِالتَّهَاوُنِ وَالتَّكَاسُلِ أَوِ الإِمسَاكِ وَالشُّحِّ ، فَلْيَتَذَكَّرْ قَولَ اللهِ جَلَّ وَعَلا : " إِنْ أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم وَإِن أَسَأتُم فَلَهَا " وَقَولَهُ سُبحَانَهُ : " فَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ . وَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " فَاللهَ اللهَ وَالصَّبرَ الصَّبرَ ؛ فَإِنَّ رَمَضَانَ شَهرُ الصَّبرِ ، وَجَاهِدُوا أَنفُسَكُم تُهدَوا وَتُوَفَّقُوا ؛ فَقَد قَالَ رَبُّكُم سُبحَانَهُ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ "
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق