خطبة : أمور أقسم الله عليها بنفسه

عبد الرحيم المثيلي
1438/04/21 - 2017/01/19 19:31PM
الخطبة الأولى
الحمد لله ..
أما بعد : فاتقوا الله - عباد الله – يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا
عباد الله : ومن أصدق من الله قيلا , ومن أصدق من الله حديثاً
لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره، ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه.
فربنا جل في علاه هو أصدق القائلين ......
أيها المؤمنون : إن المتأمل في كلام الله لا يخطئ بصره وسمعه أموراً عظيمة أقسم الله جل وعلا على وقوعها وإيجادها بنفسه , وفي عرف أهل اللغة أن المقسِم لا يقسم إلا على شيء مهم يحتاج تأكيده للسامعين إلى القسم ... فكيف إذا كان المقسم هو العظيم سبحانه ؟!
لا شك أنه لا بد أن تكون هذه الأمور المقسم عليها لها أهمية عظيمة تحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر ..
وأول هذه الأمور التي أقسم الله عليها بنفسه نجدها في سورة النساء في قوله تعالى : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]
ففي هذه الآية : أقسم الله بنفسه الكريمة أنهم لا يصح إيمانهم حتى يحكموا رسوله فيما اختلفوا فيه ، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق من صدورهم ، ثم لا يكفي ذلك أيضاً حتى يسلموا لحكمه تسليما بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن.
فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]
ومنها : قوله تعالى في سورة الحجر : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92، 93].
ففي هذه الآية يقسم الله جل وعلا بنفسه المقدسة أنه سيسأل الخلق جميعاً ومن يكذب بالقرآن خاصة سيسألهم عن كل عمل عملوه وكل ذنب اقترفوه ... فيا لله كم في هذا القسم من التخويف والترهيب والزجر للعباد عن الإقامة على الذنوب والمعاصي لو كانوا يفقهون ... لا يسألهم الله سؤال استخبار واستعلام وإنما سؤال توبيخ وتقرير ..
قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول: ابن آدم، ماذا غرك مني بي؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ ابن آدم، ماذا أجبت المرسلين ؟!
القسم الثالث : يطالعنا في أواخر سورة مريم وهو قوله تعالى : {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) } [مريم: 66 - 71]
أقسم الله تعالى وهو أصدق القائلين بنفسه الكريمة ليحشرن هؤلاء المنكرين للبعث، هم وشياطينهم فيجمعهم لميقات يوم معلوم، ثم ليحضرنهم حول جهنم جثيا..جاثين على ركبهم من شدة الأهوال، وكثرة الزلزال، وفظاعة الأحوال، منتظرين لحكم الكبير المتعال، ولهذا ذكر حكمه فيهم فقال: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} أي: ثم لننزعن من كل طائفة وفرقة من الظالمين المشتركين في الظلم والكفر والعتو أشدهم عتوا، وأعظمهم ظلما، وأكبرهم كفرا، فيقدمهم إلى العذاب
وكل هذا تابع لعدله وحكمته وعلمه .. ولهذا قال : {ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا} أي علمنا محيط بمن هو أولى صليا بالنار قد علمناهم وعلمنا أعمالهم واستحقاقها وقسطها من العذاب .. {عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}
الأمر الرابع الذي أقسم الله عليه بنفسه : نجده في قوله تعالى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) }
يقول الله تعالى مقسماً لخلقه بنفسه: فوربّ السماء والأرض، إن الذي قلت لكم أيها الناس: إن في السماء رزقكم وما توعدون لحقّ، فكما لا تشكون في نطقكم، فكذلك لا ينبغي الشك في رزقكم أنه في السماء عند ربكم .. هذا قول إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله .
وفي هذه الآية لفتة عجيبة فمع أن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض، حيث يكد فيها الإنسان ويجهد، وينتظر من ورائها الرزقَ والنصيب. فإن القرآن يرد بصر الإنسان ونفسه إلى السماء. إلى الغيب. إلى الله. ليتطلع هناك إلى الرزق المقسوم والحظ المرسوم.
أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة، فهي آيات للموقنين. آيات ترد القلب إلى الله ليتطلع إلى الرزق من فضله ويتخلص من أثقال الأرض وأوهاق الحرص، والأسباب الظاهرة للرزق، فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب.
والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة على حقيقتها ويفهمها على وضعها ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها. فهو مكلف بالخلافة فيها وإعمارها. إنما المقصود هو ألا يعلق نفسه بها، وألا يغفل عن الله في عمارتها. ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلى السماء. وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه، فرزقه مقدر في السماء، ووعد الله لا بد أن يكون.
القسم الخامس : في حديث أنس الطويل في الشفاعة وقصة سجوده تحت العرش: "فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع.: فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله » [ البخاري ومسلم ]
الأمر السادس الذي أقسم الله عليه بنفسه: نجده في قول النبي : دعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين »[ أحمد والترمذي وابن حبان والطبراني ] وصححه الألباني.
فاحذر دعوة المظلوم يا من غرتك قدرتك ومالك وقوتك وجاهك ومنصبك فإن دعوة الظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ..
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً .. فالظلم مرتعه يفضي إلى الندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه .. يدعو عليك وعين الله لم تنم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} [إبراهيم ]
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ...
الخطبة الثانية
الحمد لله ... أما بعد :
الأمر السابع الذي أقسم الله عليه بنفسه: في حديث شداد بن أوس عن النبي قال : « يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ».[ابن حبان وغيره] وحسنه الألباني.
يقسم الرب جل في علاه بعزته وجلاله أنه لن يجمع لعبد بين خوف الدنيا وخوف الآخرة ولا يجمع له بين الأمن في الدنيا والأمن في الآخرة فمن خاف الله في الدنيا أمنه يوم الفزع الأكبر قال تعالى : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } [النمل: 89] {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ: 37]
وقال الله عن أهل الجنة : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)} [الطور: 25، 26] أي : كنا في الدنيا خائفين .
أما الذي أمن في الدنيا ولم يخف من عذاب الآخرة فقد قال الله عنهم : {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 10 - 14]وقال : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 45 - 47] ..
الأمر الثامن : عن أبي سعيد عن النبي قال : « إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني » .[ أحمد ] وحسنه الألباني .
إنه العدو القديم الذي أخرج أبويكم من الجنة وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم ..ولا يزال يسعى لإغواءنا هو وبنيه {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) } وقال له الله : {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 41 - 44]
ألا فاستغفروا الله عباد الله وتوبوا إليه ...ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ..
المرفقات

أمور أقسم الله عليها بنفسه.doc

أمور أقسم الله عليها بنفسه.doc

المشاهدات 7336 | التعليقات 0