خطبة أصحاب السبت
عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1437/07/18 - 2016/04/25 14:37PM
خطبة الجمعة
بعنوان(وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)
عبدالوهاب المعبأ
الحمد لله عالم الغيب والشهادة، أحل الحلال وحرم الحرام، أحمده سبحانه، قسم العباد بعدله إلى شقي اجتاز حدود ربه وانتهك الحرمات، وسعيدٍ جرى على النهج السديد واتقى الشبهات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غافر الذنب ومقيل العثرات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حث على طلب الرزق الحلال، وحذر من الكسب الحرام؛ نصحًا للأمة وشفقة عليهم ومما يضرهم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين
أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون
يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وقال تعالى: فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
ولنا أيها المؤمنون : وقفة مع أسلوب حكيم من أساليب القرآن العظيم وطريقة من طرقه المؤثرة في توجيه الناس وتربيتهم على دين الله.
إنه أسلوب القصة والتي لم تُذكر في كتاب الله للتسلية والمتعة. إنما ذُكِرت للعظة والعبرة والانتفاع منها بما يقرب الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى
وصدق الله إذ قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ
عباد الله : تعالوا بنا اليوم لنعيش مع قصة أوردها الله في كتابه في سورة الأعراف ألا وهي قصة أصحاب السبت، ما هو حالهم؟ وكيف كان مصيرهم؟ وما هي الدروس المستفادة من هذه القصة.
قصة أصحاب السبت حيث أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن قصة يعلمونها، فقال تعالى في سورة الأعراف : (( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ )) .
وفي سورة البقرة يخاطب الله تعالى أهل الكتاب مباشرة بشأن هذه القصة فقال تعالى: (( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)) .
عباد الله : هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين، قرية أيلة على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور ، هذه القرية أهلها من اليهود، وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله حيث أنه نهاهم عن الصيد فيه،
وكانوا يسكنون في قرية تقع على ساحل البحر، وكان عملهم الذي يتكسبون منه هو صيد الحيتان، فكانوا يخرجون للصيد كل يوم إلا يوم السبت، لأن شريعتهم في التوراة تُحرم عليهم العمل يوم السبت، فكانوا يلتزمون بشريعتهم تلك كشأن سائر المؤمنين من اليهود، وقد ابتلاهم الله بأن الحيتان تأتيهم يوم السبت حتى يرونها طافية على الماء قريبة من الساحل، وفي غير يوم السبت لا تَأتِيهم، فلم يَصْبِروا على هذا الابتلاء، وإنما خالفوا شريعة الله بحيلٍ خبيثة، فمنهم من خرج يوم السبت واصطاد حوتًا، ولكنه لم يُخرجه من الماء، وإنما حَزمه بحبل مربوط بِوَتَدٍ على الشاطئ، حتى إذا جاء يوم الأحد، سحب الحبل وأخرج الحوت. ومنهم من حفر حفرة على الشاطئ متصلة بقناة إلى البحر، فإذا دخل الحوت إلى هذه الحفرة في يوم السبت لا يستطيع الرجوع إلى البحر مرة أخرى، فإذا جاء يوم الأحد أخرجه من الماء. وكانوا يفعلون ذلك سرًا في بادئ الأمر، حتى كثر صيدهم للحيتان، وباعوها في الأسواق، فانتشر ذلك الأمر بينهم حتى جاهروا بالصيد بعد ذلك بمثل هذه الحيل.
وأصروا على اصطياد الأسماك، فحفروا الحفر ووضعوا الشباك يوم الجمعة، فإذا ذهب السبت أخرجوا الحيتان، يوم الأحد
وهنا انقسمت القرية إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: تابعت ما فعله بعض الناس وأعجبوا بحيلتهم وطبقوها.
المجموعة الثانية: كرهت هذا الفعل واعتبرته تحايلا على ما حرمّ الله.
المجموعة الثالثة: غضبت لهذا الفعل وأنكرته واستمرت في النصح والإرشاد.
وحدث حوار جميل بين المجموعة الثانية والثالثة ذكره الله في كتابه، قال تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164].
فالمجموعة الثانية قالت للمجموعة الأولى: لم تنصحون قوما لا ينتهون، اتركوهم فإن الله سيهلكهم أو يعذبهم.
فقال الواعظون ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ))، أي: إننا نَعِظُهم لتكون موعِظَتنا هذه عذرًا لنا أمام الله في أننا وإن كنا لم نغير هذا المنكر بأيدينا، ونمنعهم بالقوة من الصيد في يوم السبت، فقد نهينا عن هذا المنكر بألستنا، وبهذا نقيم عذرنا عند الله، وأيضا موعظتنا هذه قد تجعلهم يتقون الله فيقلعون عن هذا المنكر.
فقاموا بواجب الوعظ، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وبينوا أن صيد هذه الحيتان يعتبر اعتداءً على شريعة الله في التوراة التي تحرم العمل بالصيد في يوم السبت، ولكن المعتدين في السبت ظلوا يصيدون بمثل هذه الحيل بحجة أنهم لا يخرجون الحيتان من الماء إلا في يوم الأحد, وظل الواعظون يَعِظُونَهم ويُخَوِفُونَهُم عِقَاب الله،
ولكن المعتدين في السبت رغم وعظهم وتذكيرهم بأمر الله نسوا ما ذكروا به، وظلوا على اعتدائهم، فأخذهم الله بعذاب بئيس، لم ينج منه إلا الذين ينهون عن السوء، وهم الواعظون الناهون عن المنكر.
وبرغم حلول العذاب البئيس لم ينته المعتدون ولم يتوبوا إلى الله، بل عتوا واستكبروا عما نهوا عنه، وعندئذ قال الله لهم: ((كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)) .
فَفَصَلَ اللهُ في أمرِ أهلِ هذه القرية، فانْجى عباده المصلحين الغيورين على دينهم، وأنزل العقوبة على القوم الفاسقين المعتدين، عقوبة المسْخِ سمَّاها الله: (عذاباً بَئِيْسَاً)، مسخ الله أشكالهم من إنسان خلقه ربُّه في أحسن تقويم، إلى قرد مشين، هذا العقاب حصل بكلمة واحدة من الواحد القهار (فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين)، فما أصبح هؤلاء المعتدين من ليلتهم إلا ولهم أذناب يَتَعاوونَ كما تتعاوى القردة (فنعوذ بالله من سخط الله وعذابه).
وقد ذكر أهل التفسير: أن الواحد من هؤلاء الممسوخين كان يعرف قريبه من الآدميين ويتمسحون بهم، والآدمي لا يعرف هذا الممسوخ، فيقول لهم الآدميون:
ألم ننهكم عن انتهاك حرمات الله؟ فيشيرون برؤوسهم أن نعم، وهم يبكون.
نعم عباد الله فمسخهم الله قردة ولعنهم، وجعل هذه العقوبة نكالًا أي: ردعًا وزجرًا لمن عاصرها في وقت وقوعها، فرآها بعينه أو سمع بها، وأيضًا لمن أتى بعدها وعلم بها، وجعل الله هذه العقوبة أيضًا موعظةً للمتقين، ليعلم الناس جميعا سوء عاقبة الاعتداء على شريعته وانتهاك أوامره ونواهيه. ومكث هؤلاء الممسوخون ثلاثة أيام، ثم هلكوا بعدها فلم يكن لهم عقب ولا نسل، وفي حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل لمسخ نسلًا ولا عقبًا»
أيها المسلمون: لنا أمام هذه القصة، عدد من القضايا والفوائد سنقف عندها.
الفائدة الأولى: هي تلك السنة الربانية في حق العصاة والمجرمين في كل زمان ومكان، الذين يتجاوزن حدود الله تعالى وينهارون أمام إحدى الشهوات أو مجموعة منها، سواء شهوة البطن أم الفرج أم المال أم المنصب أم الجاه أم نحو ذلك، إن العقاب على المعصية إذا لم يتب منها هو سنة ربانية لا تتغير، وهي قريبة من العاصي وإن شعر أنه في مأمن أو في منعة،
وعليه فلنحذر -إخوة الإيمان- من الوقوع في المعاصي مهما كانت، خصوصًا الكبائر منها، وإذا وقعنا لسبب ما فإننا لابد أن نتوب إلى الله تعالى فورًا، ولا نرجع إليها مرة أخرى، مخافة أن يقع علينا العذاب ونحن لا نشعر كما حصل لمن كان قبلنا، كما قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
كما علينا -إخوة الإيمان- ألا نغتر بكثرة المنكرات واشتهارها، وكثرةِ العاملين لها وقوتِهم، فهذا ليس دليلاً على صحة ما يقومون به، ولننظر إلى الناجي كيف نجا، ولا ننظر إلى الهالك كيف هلك!!
الفائدة الثانية: هي أن نُكَون من أنفسنا دروعًا تقي المجتمع من عقوبة الله تعالى، نتزود بالعلم، وننخرط في صفوف الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الحريصين على مصلحة أمتهم، نمارس هذه المهمة النبيلة تلقائيًا في البيوت والأسواق والأعمال كما قام بها أفضل خلق الله من الرسل والأنبياء والشهداء والصالحين، ليكن هدفنا النصيحة، لا الفضيحة، وليكن هدفنا حب الآخرين، لا الانتقام منهم، وليكن شعارنا هو ما قاله نوح -عليه السلام- لقومه حين قال: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
نفعل ذلك ابتغاء الأجر من الله تعالى، لا نريد مدحًا ولا مكانة ولا مالاً، وليكن شعارنا ما قاله الأنبياء لأقوامهم: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، وبذلك نحمي أنفسنا أولاً ثم نحمي مجتمعنا من غضب الله -عز وجل-.
الفائدة الثالثة: أن نحذر من أن نكون من الفئة الثالثة، وهم الناس الذين كرهوا المنكر، ولكنهم لم يتحركوا لإزالته، هذا الصنف من الناس موجود في عالمنا هذا اليوم، أناس صالحون، ولكنهم لضعفهم وخوفهم من الباطل وأهله وحبهم للدنيا قعدوا عن الإنكار، ووقفوا موقفًا سلبيًا تجاه المنكرات وأهلها، فهم -وإن كانوا يصلون ويصومون ويفعلون الخيرات- إلا أنهم لا تأثير لهم في الواقع مع قدرتهم على ذلك، وهم الذين يصفهم الكفار المنافقون في وقتنا الحاضر بـ"المعتدلين"
وهؤلاء -على ما هم عليه من الصلاح- إلا أنهم يعكسون صورة سيئة للمسلم الحق، فقد يقتدي بهم الجاهل والضعيف، ويتوقع أن موقفَهم هو الموقفُ الصحيح، كما أنهم قد يكونون عنصرَ تثبيط للدعاة والمصلحين، سواء عندما ينتقدون الآمرين بالمعروف والناهين بالمنكر ويصفونهم بالمتشددين، أم عندما يوجهون النصح السلبي المباشر إلى المصلحين بعدم القيام بدورهم في المجتمع كما قال أسلافهم.
أيها المسلمون: إن هذا الصنف على خطر عظيم إذا لم ينتبهوا لأنفسهم، فربما يهلك مع الهالكين، ويندم حين يندم النادمون في يوم عظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ).
الخطبة الثانية
أما بعد
أيها المسلمون: الفائدة الرابعة: هي أن نؤمن بقدرة الله تعالى على تغيير نواميس الكون، فالكون -وإن كان يمشي وفق أسس ثابتة وحسابات دقيقة، ولا مجال لفوضى في تدبيره- إلا أن الله تعالى الذي خلقه قادر على تغيير تلك الثوابت بكلمة كن، فهو سبحانه لا يعجزه شيء، والقصة التي معنا يبرز فيها أمران خارقان للعادة، فالأول توجهُ الحيتان في يوم السبت بالذات إلى الشاطئ، واختفاؤها بقيةَ الأسبوع. والثاني: تحول العصاة إلى قردة يتعاوون، ويثب بعضهم على بعض.
أيها الإخوة: إن هذا الأمر ليس بصعب على المولى -تبارك وتعالى-، والتاريخ والواقع يشهد بأكبر من هذا، ولا مجال للشك
وعليه فالمؤمن لا يخاف من أهل الباطل مهما كانوا مادام على الحق ولو كان وحده، فربما قُضي عليهم في لحظة، كما حصل لقوم نوح وقوم لوط وقوم صالح وقوم فرعون وغيرهم من الظلمة والطغاة.
الفائدة الخامسة: هي أن القوانين والأنظمة لا تحرسها النصوص المكتوبة على الورق، إنما تحرسها القلوب الحية التي تستقر فيها التقوى والخشيةُ من الله تعالى، ولن تستطيع أي دولة مهما أوتيت من قوة أن تضع على رأس كل فرد حارسًا يلاحظه في تنفيذ القانون وصيانته، ما لم تكن خشيةُ الله تعالى مستقرة في القلوب، ومن أجل ذلك نلاحظ فشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية، ومن أجل ذلك تفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر بعيدة عن شرع الله.
فالطائفة المخذولة في تلك القرية لم يلتزموا بالنص المنزل عليهم بقوله تعالى: (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ)، بل عملوا الحيلة بعد الأخرى على النص الإلهي، وقاموا بصيد الحيتان في يوم السبت رغم تحريم ذلك عليهم، أما أصحاب القلوب الحية فقد أنكروا ذلك الفعل ولم يشاركوا قومهم.
والمتأمل لأوضاع كثير من المسلمين في زماننا هذا، يجد التحايل على أوامر الله عز وجل، في كثير من المسائل أليس هناك تحايل بشتى الأشكال من كثير من المسلمين في أكل الربا مثلاً، أليس هناك تحايل من كثير من الموظفين بأخذ الرشوة بطرق لا تكاد تخطر على بال أحد، أليس هناك تحايل في مسائل البيع والشراء، بشتى الطرق والوسائل، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الناس يحاول تلمس الحيل حتى في العبادات، يحاول أن يجد مخرجًا من هنا أو عذرًا من هناك.
ولذا فإن علينا جميعًا -أيها المسلمون- سواء كنا آباءً أم معلمين أم مسؤولين أمران: نضع الخطط اللازمة لتربية من حولنا على مراقبة الله تعالى في السر والعلن، بقدر ما نستطيع، نربيهم على الإيمان بالله تعالى إيمانًا حقيقيًا، ولنحذر من صيحات المنافقين هنا وهناك التي تنادي بالحذر من التشدد في الدين والتنطع.
فعلينا أن نتعاون على إنكار المنكرات وفعل الخيرات، والأخذ على يد الظلم، حتى ننجو من عذاب الله.
ثم لننظر من حولنا، ونتساءل: ماذا قدم القادة العلمانيون للأمة؟! ماذا قدمت لنا القومية العربية؟! ؟! ماذا قدمت لنا الأحزاب والشعارات الأخرى؟! وماذا قدم المغنون واللاعبون والفنانون والمخترعون الذين أعرضوا عن دين الله، وتربوا على حب الدنيا وعدم الخوف من الله؟! هل وحدوا الأمة؟! هل هزموا الأعداء؟! هل وفروا للشعوب لقمة العيش الكريمة؟! الواقع أنهم لم يفعلوا شيئًا من ذلك، بل جلبوا على الأمة الذل والهوان على مدار التاريخ، وخدروا الأمة، وغيبوها عن أهم أمور حياتها، حتى تسلط علينا أحفاد القردة والخنازير، فأخذوا خيراتنا، وصرفوا الأمة عن دينها، وقتلوا وحاربوا أفضل رجال الأمة ونسائها، ولذلك علينا أن نهتم بالتربية الإيمانية كما شرع الله، وبذلك نحمي مجتمعنا من الويلات والنكبات الدنيوية، كما نحميه من عذاب الله يوم القيامة.
وحتى نقود أمتنا إلى العز والنصر والتمكين، كما قام به آباؤنا الأولون من الأنبياء والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
عباد الله إذا أُعلن المنكر في مجتمع ولم يجد من يقف في طريقه فإنه سيقوى ويكثر الخبث، وعند ذلك يحلُّ بالأمة العذاب والهلاك، ففي الصحيحين من حديث زينب رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم، إذا كَثُرَ الخَبَث".
ومما أُثر عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قوله: "كان يُقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصَّة، ولكن إذا عُمِل المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلهم"،
إن وجود المصلحين في الأمة هو صمَّام الأمان لها، وسبب نجاتها من الهلاك العام، ولهذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، ولم يقل صالحون.
فانتشار المنكر وفعله جهارًا نهارًا مؤذن بالهلاك لفاعليه والساكتين عن فعله، ولا ينجو من الهلكة إلا الذين ينهون عن السوء ويأخذون على أيدي السفهاء، يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)،
فنجى الله تعالى الذين نهوا عن السوء لحرصهم على نظافة المجتمع وخلوه من المنكر، وسكت عن الساكتين، وأخذ الذين ظلموا بالعذاب جزاء فعلهم الشنيع ومجاهرتهم بالذنب.
أسال الله تعالى أن يمن علينا بالهداية، وأن يفتح على قلوبنا بالحق، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وأن يوفقنا لما فيه الخير، وأن يصلح نياتِنا وذرياتنا واحوالنا ومجتمعاتنا
اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين. اللهم كل من أراد افساد وتخريب بلاد المسلمين فنسألك اللهم أن تصب عليه سوط عذاب، إنك يا ربي لبالمرصاد. اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، اللهم أدم علينا الأمن والصحة والعافية، في ديننا وأهلينا يا رب العالمين.
اللهم احفظ بلادنا من كل سوء، اللهم تولى أمرنا، وأصلح فساد قلوبنا، وزد في حسناتنا وتجاوز عن سيئاتنا،
اخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648
بعنوان(وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)
عبدالوهاب المعبأ
الحمد لله عالم الغيب والشهادة، أحل الحلال وحرم الحرام، أحمده سبحانه، قسم العباد بعدله إلى شقي اجتاز حدود ربه وانتهك الحرمات، وسعيدٍ جرى على النهج السديد واتقى الشبهات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غافر الذنب ومقيل العثرات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حث على طلب الرزق الحلال، وحذر من الكسب الحرام؛ نصحًا للأمة وشفقة عليهم ومما يضرهم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين
أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون
يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وقال تعالى: فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
ولنا أيها المؤمنون : وقفة مع أسلوب حكيم من أساليب القرآن العظيم وطريقة من طرقه المؤثرة في توجيه الناس وتربيتهم على دين الله.
إنه أسلوب القصة والتي لم تُذكر في كتاب الله للتسلية والمتعة. إنما ذُكِرت للعظة والعبرة والانتفاع منها بما يقرب الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى
وصدق الله إذ قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ
عباد الله : تعالوا بنا اليوم لنعيش مع قصة أوردها الله في كتابه في سورة الأعراف ألا وهي قصة أصحاب السبت، ما هو حالهم؟ وكيف كان مصيرهم؟ وما هي الدروس المستفادة من هذه القصة.
قصة أصحاب السبت حيث أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن قصة يعلمونها، فقال تعالى في سورة الأعراف : (( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ )) .
وفي سورة البقرة يخاطب الله تعالى أهل الكتاب مباشرة بشأن هذه القصة فقال تعالى: (( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)) .
عباد الله : هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين، قرية أيلة على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور ، هذه القرية أهلها من اليهود، وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله حيث أنه نهاهم عن الصيد فيه،
وكانوا يسكنون في قرية تقع على ساحل البحر، وكان عملهم الذي يتكسبون منه هو صيد الحيتان، فكانوا يخرجون للصيد كل يوم إلا يوم السبت، لأن شريعتهم في التوراة تُحرم عليهم العمل يوم السبت، فكانوا يلتزمون بشريعتهم تلك كشأن سائر المؤمنين من اليهود، وقد ابتلاهم الله بأن الحيتان تأتيهم يوم السبت حتى يرونها طافية على الماء قريبة من الساحل، وفي غير يوم السبت لا تَأتِيهم، فلم يَصْبِروا على هذا الابتلاء، وإنما خالفوا شريعة الله بحيلٍ خبيثة، فمنهم من خرج يوم السبت واصطاد حوتًا، ولكنه لم يُخرجه من الماء، وإنما حَزمه بحبل مربوط بِوَتَدٍ على الشاطئ، حتى إذا جاء يوم الأحد، سحب الحبل وأخرج الحوت. ومنهم من حفر حفرة على الشاطئ متصلة بقناة إلى البحر، فإذا دخل الحوت إلى هذه الحفرة في يوم السبت لا يستطيع الرجوع إلى البحر مرة أخرى، فإذا جاء يوم الأحد أخرجه من الماء. وكانوا يفعلون ذلك سرًا في بادئ الأمر، حتى كثر صيدهم للحيتان، وباعوها في الأسواق، فانتشر ذلك الأمر بينهم حتى جاهروا بالصيد بعد ذلك بمثل هذه الحيل.
وأصروا على اصطياد الأسماك، فحفروا الحفر ووضعوا الشباك يوم الجمعة، فإذا ذهب السبت أخرجوا الحيتان، يوم الأحد
وهنا انقسمت القرية إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: تابعت ما فعله بعض الناس وأعجبوا بحيلتهم وطبقوها.
المجموعة الثانية: كرهت هذا الفعل واعتبرته تحايلا على ما حرمّ الله.
المجموعة الثالثة: غضبت لهذا الفعل وأنكرته واستمرت في النصح والإرشاد.
وحدث حوار جميل بين المجموعة الثانية والثالثة ذكره الله في كتابه، قال تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164].
فالمجموعة الثانية قالت للمجموعة الأولى: لم تنصحون قوما لا ينتهون، اتركوهم فإن الله سيهلكهم أو يعذبهم.
فقال الواعظون ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ))، أي: إننا نَعِظُهم لتكون موعِظَتنا هذه عذرًا لنا أمام الله في أننا وإن كنا لم نغير هذا المنكر بأيدينا، ونمنعهم بالقوة من الصيد في يوم السبت، فقد نهينا عن هذا المنكر بألستنا، وبهذا نقيم عذرنا عند الله، وأيضا موعظتنا هذه قد تجعلهم يتقون الله فيقلعون عن هذا المنكر.
فقاموا بواجب الوعظ، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وبينوا أن صيد هذه الحيتان يعتبر اعتداءً على شريعة الله في التوراة التي تحرم العمل بالصيد في يوم السبت، ولكن المعتدين في السبت ظلوا يصيدون بمثل هذه الحيل بحجة أنهم لا يخرجون الحيتان من الماء إلا في يوم الأحد, وظل الواعظون يَعِظُونَهم ويُخَوِفُونَهُم عِقَاب الله،
ولكن المعتدين في السبت رغم وعظهم وتذكيرهم بأمر الله نسوا ما ذكروا به، وظلوا على اعتدائهم، فأخذهم الله بعذاب بئيس، لم ينج منه إلا الذين ينهون عن السوء، وهم الواعظون الناهون عن المنكر.
وبرغم حلول العذاب البئيس لم ينته المعتدون ولم يتوبوا إلى الله، بل عتوا واستكبروا عما نهوا عنه، وعندئذ قال الله لهم: ((كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)) .
فَفَصَلَ اللهُ في أمرِ أهلِ هذه القرية، فانْجى عباده المصلحين الغيورين على دينهم، وأنزل العقوبة على القوم الفاسقين المعتدين، عقوبة المسْخِ سمَّاها الله: (عذاباً بَئِيْسَاً)، مسخ الله أشكالهم من إنسان خلقه ربُّه في أحسن تقويم، إلى قرد مشين، هذا العقاب حصل بكلمة واحدة من الواحد القهار (فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين)، فما أصبح هؤلاء المعتدين من ليلتهم إلا ولهم أذناب يَتَعاوونَ كما تتعاوى القردة (فنعوذ بالله من سخط الله وعذابه).
وقد ذكر أهل التفسير: أن الواحد من هؤلاء الممسوخين كان يعرف قريبه من الآدميين ويتمسحون بهم، والآدمي لا يعرف هذا الممسوخ، فيقول لهم الآدميون:
ألم ننهكم عن انتهاك حرمات الله؟ فيشيرون برؤوسهم أن نعم، وهم يبكون.
نعم عباد الله فمسخهم الله قردة ولعنهم، وجعل هذه العقوبة نكالًا أي: ردعًا وزجرًا لمن عاصرها في وقت وقوعها، فرآها بعينه أو سمع بها، وأيضًا لمن أتى بعدها وعلم بها، وجعل الله هذه العقوبة أيضًا موعظةً للمتقين، ليعلم الناس جميعا سوء عاقبة الاعتداء على شريعته وانتهاك أوامره ونواهيه. ومكث هؤلاء الممسوخون ثلاثة أيام، ثم هلكوا بعدها فلم يكن لهم عقب ولا نسل، وفي حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل لمسخ نسلًا ولا عقبًا»
أيها المسلمون: لنا أمام هذه القصة، عدد من القضايا والفوائد سنقف عندها.
الفائدة الأولى: هي تلك السنة الربانية في حق العصاة والمجرمين في كل زمان ومكان، الذين يتجاوزن حدود الله تعالى وينهارون أمام إحدى الشهوات أو مجموعة منها، سواء شهوة البطن أم الفرج أم المال أم المنصب أم الجاه أم نحو ذلك، إن العقاب على المعصية إذا لم يتب منها هو سنة ربانية لا تتغير، وهي قريبة من العاصي وإن شعر أنه في مأمن أو في منعة،
وعليه فلنحذر -إخوة الإيمان- من الوقوع في المعاصي مهما كانت، خصوصًا الكبائر منها، وإذا وقعنا لسبب ما فإننا لابد أن نتوب إلى الله تعالى فورًا، ولا نرجع إليها مرة أخرى، مخافة أن يقع علينا العذاب ونحن لا نشعر كما حصل لمن كان قبلنا، كما قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
كما علينا -إخوة الإيمان- ألا نغتر بكثرة المنكرات واشتهارها، وكثرةِ العاملين لها وقوتِهم، فهذا ليس دليلاً على صحة ما يقومون به، ولننظر إلى الناجي كيف نجا، ولا ننظر إلى الهالك كيف هلك!!
الفائدة الثانية: هي أن نُكَون من أنفسنا دروعًا تقي المجتمع من عقوبة الله تعالى، نتزود بالعلم، وننخرط في صفوف الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الحريصين على مصلحة أمتهم، نمارس هذه المهمة النبيلة تلقائيًا في البيوت والأسواق والأعمال كما قام بها أفضل خلق الله من الرسل والأنبياء والشهداء والصالحين، ليكن هدفنا النصيحة، لا الفضيحة، وليكن هدفنا حب الآخرين، لا الانتقام منهم، وليكن شعارنا هو ما قاله نوح -عليه السلام- لقومه حين قال: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
نفعل ذلك ابتغاء الأجر من الله تعالى، لا نريد مدحًا ولا مكانة ولا مالاً، وليكن شعارنا ما قاله الأنبياء لأقوامهم: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، وبذلك نحمي أنفسنا أولاً ثم نحمي مجتمعنا من غضب الله -عز وجل-.
الفائدة الثالثة: أن نحذر من أن نكون من الفئة الثالثة، وهم الناس الذين كرهوا المنكر، ولكنهم لم يتحركوا لإزالته، هذا الصنف من الناس موجود في عالمنا هذا اليوم، أناس صالحون، ولكنهم لضعفهم وخوفهم من الباطل وأهله وحبهم للدنيا قعدوا عن الإنكار، ووقفوا موقفًا سلبيًا تجاه المنكرات وأهلها، فهم -وإن كانوا يصلون ويصومون ويفعلون الخيرات- إلا أنهم لا تأثير لهم في الواقع مع قدرتهم على ذلك، وهم الذين يصفهم الكفار المنافقون في وقتنا الحاضر بـ"المعتدلين"
وهؤلاء -على ما هم عليه من الصلاح- إلا أنهم يعكسون صورة سيئة للمسلم الحق، فقد يقتدي بهم الجاهل والضعيف، ويتوقع أن موقفَهم هو الموقفُ الصحيح، كما أنهم قد يكونون عنصرَ تثبيط للدعاة والمصلحين، سواء عندما ينتقدون الآمرين بالمعروف والناهين بالمنكر ويصفونهم بالمتشددين، أم عندما يوجهون النصح السلبي المباشر إلى المصلحين بعدم القيام بدورهم في المجتمع كما قال أسلافهم.
أيها المسلمون: إن هذا الصنف على خطر عظيم إذا لم ينتبهوا لأنفسهم، فربما يهلك مع الهالكين، ويندم حين يندم النادمون في يوم عظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ).
الخطبة الثانية
أما بعد
أيها المسلمون: الفائدة الرابعة: هي أن نؤمن بقدرة الله تعالى على تغيير نواميس الكون، فالكون -وإن كان يمشي وفق أسس ثابتة وحسابات دقيقة، ولا مجال لفوضى في تدبيره- إلا أن الله تعالى الذي خلقه قادر على تغيير تلك الثوابت بكلمة كن، فهو سبحانه لا يعجزه شيء، والقصة التي معنا يبرز فيها أمران خارقان للعادة، فالأول توجهُ الحيتان في يوم السبت بالذات إلى الشاطئ، واختفاؤها بقيةَ الأسبوع. والثاني: تحول العصاة إلى قردة يتعاوون، ويثب بعضهم على بعض.
أيها الإخوة: إن هذا الأمر ليس بصعب على المولى -تبارك وتعالى-، والتاريخ والواقع يشهد بأكبر من هذا، ولا مجال للشك
وعليه فالمؤمن لا يخاف من أهل الباطل مهما كانوا مادام على الحق ولو كان وحده، فربما قُضي عليهم في لحظة، كما حصل لقوم نوح وقوم لوط وقوم صالح وقوم فرعون وغيرهم من الظلمة والطغاة.
الفائدة الخامسة: هي أن القوانين والأنظمة لا تحرسها النصوص المكتوبة على الورق، إنما تحرسها القلوب الحية التي تستقر فيها التقوى والخشيةُ من الله تعالى، ولن تستطيع أي دولة مهما أوتيت من قوة أن تضع على رأس كل فرد حارسًا يلاحظه في تنفيذ القانون وصيانته، ما لم تكن خشيةُ الله تعالى مستقرة في القلوب، ومن أجل ذلك نلاحظ فشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية، ومن أجل ذلك تفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر بعيدة عن شرع الله.
فالطائفة المخذولة في تلك القرية لم يلتزموا بالنص المنزل عليهم بقوله تعالى: (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ)، بل عملوا الحيلة بعد الأخرى على النص الإلهي، وقاموا بصيد الحيتان في يوم السبت رغم تحريم ذلك عليهم، أما أصحاب القلوب الحية فقد أنكروا ذلك الفعل ولم يشاركوا قومهم.
والمتأمل لأوضاع كثير من المسلمين في زماننا هذا، يجد التحايل على أوامر الله عز وجل، في كثير من المسائل أليس هناك تحايل بشتى الأشكال من كثير من المسلمين في أكل الربا مثلاً، أليس هناك تحايل من كثير من الموظفين بأخذ الرشوة بطرق لا تكاد تخطر على بال أحد، أليس هناك تحايل في مسائل البيع والشراء، بشتى الطرق والوسائل، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الناس يحاول تلمس الحيل حتى في العبادات، يحاول أن يجد مخرجًا من هنا أو عذرًا من هناك.
ولذا فإن علينا جميعًا -أيها المسلمون- سواء كنا آباءً أم معلمين أم مسؤولين أمران: نضع الخطط اللازمة لتربية من حولنا على مراقبة الله تعالى في السر والعلن، بقدر ما نستطيع، نربيهم على الإيمان بالله تعالى إيمانًا حقيقيًا، ولنحذر من صيحات المنافقين هنا وهناك التي تنادي بالحذر من التشدد في الدين والتنطع.
فعلينا أن نتعاون على إنكار المنكرات وفعل الخيرات، والأخذ على يد الظلم، حتى ننجو من عذاب الله.
ثم لننظر من حولنا، ونتساءل: ماذا قدم القادة العلمانيون للأمة؟! ماذا قدمت لنا القومية العربية؟! ؟! ماذا قدمت لنا الأحزاب والشعارات الأخرى؟! وماذا قدم المغنون واللاعبون والفنانون والمخترعون الذين أعرضوا عن دين الله، وتربوا على حب الدنيا وعدم الخوف من الله؟! هل وحدوا الأمة؟! هل هزموا الأعداء؟! هل وفروا للشعوب لقمة العيش الكريمة؟! الواقع أنهم لم يفعلوا شيئًا من ذلك، بل جلبوا على الأمة الذل والهوان على مدار التاريخ، وخدروا الأمة، وغيبوها عن أهم أمور حياتها، حتى تسلط علينا أحفاد القردة والخنازير، فأخذوا خيراتنا، وصرفوا الأمة عن دينها، وقتلوا وحاربوا أفضل رجال الأمة ونسائها، ولذلك علينا أن نهتم بالتربية الإيمانية كما شرع الله، وبذلك نحمي مجتمعنا من الويلات والنكبات الدنيوية، كما نحميه من عذاب الله يوم القيامة.
وحتى نقود أمتنا إلى العز والنصر والتمكين، كما قام به آباؤنا الأولون من الأنبياء والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
عباد الله إذا أُعلن المنكر في مجتمع ولم يجد من يقف في طريقه فإنه سيقوى ويكثر الخبث، وعند ذلك يحلُّ بالأمة العذاب والهلاك، ففي الصحيحين من حديث زينب رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم، إذا كَثُرَ الخَبَث".
ومما أُثر عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قوله: "كان يُقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصَّة، ولكن إذا عُمِل المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلهم"،
إن وجود المصلحين في الأمة هو صمَّام الأمان لها، وسبب نجاتها من الهلاك العام، ولهذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، ولم يقل صالحون.
فانتشار المنكر وفعله جهارًا نهارًا مؤذن بالهلاك لفاعليه والساكتين عن فعله، ولا ينجو من الهلكة إلا الذين ينهون عن السوء ويأخذون على أيدي السفهاء، يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)،
فنجى الله تعالى الذين نهوا عن السوء لحرصهم على نظافة المجتمع وخلوه من المنكر، وسكت عن الساكتين، وأخذ الذين ظلموا بالعذاب جزاء فعلهم الشنيع ومجاهرتهم بالذنب.
أسال الله تعالى أن يمن علينا بالهداية، وأن يفتح على قلوبنا بالحق، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وأن يوفقنا لما فيه الخير، وأن يصلح نياتِنا وذرياتنا واحوالنا ومجتمعاتنا
اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين. اللهم كل من أراد افساد وتخريب بلاد المسلمين فنسألك اللهم أن تصب عليه سوط عذاب، إنك يا ربي لبالمرصاد. اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، اللهم أدم علينا الأمن والصحة والعافية، في ديننا وأهلينا يا رب العالمين.
اللهم احفظ بلادنا من كل سوء، اللهم تولى أمرنا، وأصلح فساد قلوبنا، وزد في حسناتنا وتجاوز عن سيئاتنا،
اخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648
المشاهدات 3149 | التعليقات 2
وبكم اتشرف ان اكون معكم
ومنكم في هذا الملتقى الطيب
الطيب اهله
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
مرحبا بالشيخ عبدالوهاب المعبأ وحياك الله في هذه الإطلالة المباركة في هذا الملتقى الطيب المثمر بوجودكم وبصماتكم وأمثالكم.
فكم انتظرنا هذه اللحظة المشرفة وهذه الخطوة المباركة منكم ! أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بها ويكتب أجر الجميع !.
تعديل التعليق