خطبة أشراط الساعة الصغرى 1
محمد ابراهيم السبر
خطبة أشراط الساعة الصغرى 1
جامع الأميرة موضي السديري بالرياض
الخطبة الأولى :
يقول الله تبارك وتعالى:{ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم}.
وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله rقال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصُرْم، وولت حذاء ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء، يتصابُّها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم " رواه مسلم.
عباد الله : لقد أزفت الدنيا بالرحيل ولم يبق منها إلا القليل لأنها لم تخلق للبقاء ولا لتكون دار إقامة إنما هي دار ممر لا دار مستقر وقد آذنت بالانصرام وولّت.
ومن حكمة الله جل وعلا أن أخفى وقت الساعة وأوان الزوال وجعل ذلك من علمه الذي لا يطلع عليه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل :{إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ}.
فعلم الساعة من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، لاكما يدعيه بعض السذج من أنهم تمكنوا بحسابات معينة من معرفة موعد يوم القيامة، وهذا دجل ومحض افتراء ومنازعة لله تعالى في علمه الذي لا يطلع عليه أحد سواه: }يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْـئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، ولكن للساعة علامات وأشراط جعلها الله مقدمة ومؤذنة بقرب القيامة, وهي علامات صغرى وعلامات كبرى، أما الصغرى فقد بدأت منذ بعثة النبي r ولا زالت تتتابع وربما ظهر بعضها مع الأشراط الكبرى، ومنها علامات وقعت وانتهت كبعثة النبي r وفتح بيت المقدس, وهناك علامات وقعت ولا زالت مستمرة كتقارب الزمان وكثرة الأسواق وتشبه النساء بالرجال وانتشار الزنا والزلال والفتن وغيرها.
أما العلامات الكبرى فهي الآيات العظام التي يؤذن ظهورها بانقضاء الدنيا وزوالها وهي الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها.
وإن مما ينبغي أن يُعلم أنه ليست كُلُ أشراط الساعة مذمومةً، فهناك علامات مباحة لا شيء فيها كالتطاول في البنيان، بل قد يكون منها ما هو مأمور به كتعلم القرآن وكثرة القرّاء، وفشوّ العلم والقلم ، فليس ذكر هذه العلامات وغيرها في أشراط الساعة ذم لها إنما المقصود أنها علامات على دنو يوم القيامة.
ان في ذكر اشراط الساعة وأماراتها دلالة على صدق نبوته r الذي أخبر قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة بأمور تحقق الكثير منها في عصرنا الحاضر وسيقع الكثير منها مستقبلاً.
وهذا فيه فائدة تحقق زيادة الإيمان والتصديق بما أخبر به النبي r والاجتهاد بالعمل الصالح والدعوة إلى الله والتقرب إليه سبحانه بما يحب ويرضى والبعد عما يسخطه عز وجل.
كما أنه لا يشترط أن تشمل العلامات كلها الأرضَ كلها بل قد تظهر علامة أو علامات في مكان ما دون مكان خلا العلامات الكبرى التي تعم الأرض جميعاً.
وأول علامات الساعة وأشراطها بعثة النبي r فبعثته دليل على قرب قيام الساعة وأنه نبي الساعة, فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : (بعثت أنا والساعة كهاتين، قال: وضم السبابة والوسطى) . وفي الحديث: (بعثت في نسم الساعة) . والنسم هو أول هبوب الريح . فهو النبي الأخير فلا يليه نبي آخر, وإنما تليه القيامة كما يلي السبابة الوسطى, وليس بينهما أصبع آخر، قال القرطبي: ( أولها النبي r لأنه نبي آخر الزمان, وقد بعث وليس بينه وبين القيامة نبي ). قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الأحزاب:40).
ومن العلامات انشقاق القمر وقد اتفق العلماء على أن القمر قد انشق في عهد رسول الله r وأن انشقاقه إحدى المعجزات الباهرة، وقد صرح القرآن بهذا في قوله تعالى: ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) [القمر:1-2] وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أهل مكة سألوا رسول الله rأن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين . رواه مسلم .
ومن أشراط الساعة موت النبي r قال عوف بن مالك رضي الله عنه أتيت النبي r في غزوة تبوك وهو في قبة أدم فقال: " اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي... "رواه البخاري، وكان موته r أولَ أمر دهم الإسلام حيث انقطعت النبوة، وكان أولَ ظهور الشر بارتداد العرب وأولَ انقطاع الخير وأولَ نقصانه وأظلمت الدنيا في عيون الصحابة رضي الله عنهم عندما مات عليه الصلاة والسلام، قال أنس بن مالك رضي الله عنه :" لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله r المدينة أضاء فيها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله r الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا".
قال ابن حجر رحمه الله: (يريد أنهم وجدوها تغيّرت عمّا عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرقة، لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأديب) الفتح 8/149.
لقد مات عليه الصلاة والسلام كما يموت الناس لأن الله تعالى لم يكتب الخلود في هذه الحياة الدنيا لأحد من الخلق, بل هي دار ممر لا دار مقر كما قال تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) [ الأنبياء: 34 - 35]. والموت حق, وكل نفس ذائقة الموت، حتى ولو كان سيد الخلق وإمام المتقين محمد بن عبد الله r.
ومن العلامات فتح بيت المقدس قال r:" اعدد ستاً بين يدي الساعة ". وذكر منها " فتح بيت المقدس ". رواه البخاري وقد تحققت هذه العلامة على يدي الفاروق رضي الله عنه فتم فتح بيت المقدس سنة ست عشرة من الهجرة كما ذهب إلى ذلك أئمة السير، فقد ذهب عمر رضي الله عنه بنفسه, وصالح أهلها, وفتحها, وطهرها من رجس اليهود والنصارى, وبنى بها مسجداً في قبلة بيت المقدس.
ومن العلامات التي وقعت طاعون عمواس وهي بلدة في فلسطين،قال النبي r :" اعدد ستاً بين يدي الساعة" وذكر منها : " ثم مُوْتانٌ يأخذ فيكم كقُعاص الغنم ". رواه البخاري
وقوله "موتان " : هو الموت الكثير الوقوع, وقوله " قُعاص ": داء يأخذ الدواب فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجأة. قال ابن حجر : "يقال إن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس في خلافة عمر رضي الله عنه وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس" أهـ .
وبلغ عدد من مات فيه خمسةً وعشرين ألفاً من المسلمين مات فيه من المشهورين أبو عبيدة عامر بن الجراح أمين هذه الأمة رضي الله عنه .
ومن العلامات استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة قال r: " لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يَهُمَّ ربَ المال من يقبله منه صدقه، ويُدعى إليه الرجل فيقول: لا أرَبَ لي فيه". رواه البخاري ومسلم .
وقد تحقق كثير من هذا في عهد الصحابة رضي الله عنهم بسبب ما وقع من الفتوح، ثم فاض المال في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فكان الرجل يعرض المال للصدقة فلا يجد من يقبله، وسيكثر المال في آخر الزمان في زمن المهدي وعيسى عليهما السلام قال r: " ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحداً يأخذها منه...". رواه مسلم.
وأخبر النبي r أن الله تعالى سيعطي هذه الأمة ويفتح عليها من كنوز كسرى وقيصر ويبلغ ملكها مشارق الأرض ومغاربها. فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله r:" إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض..".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية :
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى ..
ومن علامات الساعة قبض العلم وظهور الجهل فعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله r: " من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويَثْبُتَ الجهل ". رواه البخاري ومسلم .
ولايزال العلم ينقص والجهل يكثر، وكلما بَعُدنا من عهد النبوة قل العلم حتى يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه فرائض الإسلام، وقبض العلم إنما يكون بقبض العلماء، قال النووي رحمه الله :" أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه ولكن معناه أن يموت حملته ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بحهالتهم فيضِلون ويُضلون " ، قال r :" إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من صدور العلماء، إنما يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق علماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا "رواه البخاري.
وكلما بعُد الزمان من عهد النبوة قل العلم وكثر الجهل ولا يزال يُقبض العلم بقبض أهله وحملته حتى لايعرف من الإسلام إلا اسمه كما قال النبي r: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " رواه مسلم.
ومعنى هذا أنه لا يُنكر منكر ولا يُنهى عن فاحشة ولا يُزجر عن معصية، وذلك عند فساد الزمان، وكثرة الكفر والفسوق والعصيان.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، اللهم اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة وولاة الأمر وانصر جنودنا المرابطين على الحدود و الثغور ياعزيز ياغفور.