خطبة أدومُه وإنْ قَلَّ

الخطبة الأولى: أدومُه وإنْ قَلَّ

الحمدُ للهِ ذي الجلالِ والإكرامِ، والطَّوْلِ والإنعامِ، عمّ بخيرِه الأنامَ، ووسعت مغفرتُه الآثامَ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللـهُ الملِكُ السلامُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللـهُ وسلمَ عليه وعلى آله وصحبِه الكرامِ.

أما بعد: فأوصيكم ...

عن عبدِ اللـهِ بنِ عمروٍ y قال:" أنْكَحَنِي أبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ، فَيَسْأَلُـهَا عن بَعْلِهَا، فَتَقُولُ:

نِعْمَ الرَّجُلُ مِن رَجُلٍ؛ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، ولَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذلكَ عليه ذَكَرَ للنَّبيِّ r، فَقالَ: الْقَنِي به، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقالَ: كيفَ تَصُومُ؟ قالَ: كُلَّ يَومٍ، قالَ: وكيفَ تَخْتِمُ؟ قالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قالَ: صُمْ في كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً، واقْرَأِ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْرٍ، قالَ: قُلتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِن ذلكَ، قالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ في الجُمُعَةِ، قُلتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِن ذلكَ، قالَ: أفْطِرْ يَومَيْنِ وصُمْ يَوْمًا، قالَ: قُلتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِن ذلكَ،

 

قالَ: صُمْ أفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ: صِيَامَ يَومٍ، وإفْطَارَ يَومٍ، واقْرَأْ في كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً. فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسولِ اللَّـهِ r؛ وذَاكَ أنِّي كَبِرْتُ وضَعُفْتُ، فَكانَ يَقْرَأُ علَى بَعْضِ أهْلِهِ السُّبْعَ مِنَ القُرْآنِ بالنَّهَارِ، والذي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ؛ لِيَكونَ أخَفَّ عليه باللَّيْلِ، وإذَا أرَادَ أنْ يَتَقَوَّى أفْطَرَ أيَّامًا وأَحْصَى، وصَامَ مِثْلَهُنَّ كَرَاهيةَ أنْ يَتْرُكَ شيئًا فَارَقَ النَّبيَّ r ) خ. م.

 

 

عباد الله: كُنَّا في شَهرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَّا عَلَى مُستَوًى عَالٍ مِنَ الإِيمَانِ، وَكَانَتِ النُّفُوسُ قَرِيبَةً مِمَّا يُرضِي الرَّحمنَ، بَعِيدَةً عَمَّا يُسخِطُ رَبَّهَا وَخَالِقَهَا، تَطلُبُ الخَيرَ جُهدَهَا، وَتَبحَثُ عَن أَسبَابِهِ مَا أَمكَنَهَا، وَتَهَشُّ إِلَيهِ وَتَرتَادُ أَمَاكِنَهُ، وَتَتَبَاعَدُ عَنِ الشَّرِّ وَتَتَّقِي بَوَاعِثَهُ، وتَتَحَاشَاهُ وَتُجَانِبُ أَهلَهُ، وَكُنَّا نَرَى الحِرصَ عَلَى فِعلِ كُلِّ مَا يُدني إِلى الجَنَّةِ وَيُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ، مِن طَاعَةٍ للـهِ وَحِفظِ أَلسِنَةٍ وَجَوَارِحَ، وَفِعلٍ لِلحَسَنَاتِ وَحَذَرٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَحُسنِ خُلُقٍ مَعَ النَّاسِ وَطِيبِ تَعَامُلٍ مَعَ الآخَرِينَ،

 وَبَذلٍ لِلمَالِ وَعَطَاءٍ وَإِنفَاقٍ وَتَصَدُّقٍ، وَتِلكَ حَالٌ لِلمُؤمِنِينَ مُبَارَكَةٌ، وَبُستَانٌ وَارِفُ الظِّلِّ وَافِرُ الثَّمَرَاتِ، يَتَمَنَّى كُلُّ عَارِفٍ بِرَبِّهِ لَو دَامَ لِلمُؤمِنِينَ طُوَالَ عَامِهِم، لِيَقطِفُوا مِن ثَمَرَاتِهِ وَيَتَفَيَّؤُوا ظِلَّهُ، غَيرَ أَنَّ ممَّا يُلحَظُ في كُلِّ سَنَةٍ وَيَعرِفُهُ كَثِيرُونَ مِنَّا عَن أَنفُسِهِم، وَلا يَخفَى عَلَى مَن نَصَحَ لِذَاتِهِ مِنهُم، أَنَّهُ مَا يَخرُجُ رَمَضَانُ في كُلِّ عَامٍ، حَتَّى تَعُودَ تِلكَ القُوَّةُ في الحَقِّ خَوَرًا وَضَعفًا-ألا من رحمَ اللـهُ-، وَحَتَّى يَغدُوَ ذَلِكَ الحِرصُ عَلَى الخَيرِ عَجزًا وَتَرَاجُعًا، بَل قَد يَصِيرُ التَّجوِيدُ وَالإِتقَانُ إِلى تَقصِيرٍ وَرَوَغَانٍ، فَتَرَى الَّذِي حَافَظَ عَلَى الصَّلَواتِ يَعُودُ لِخَرمَ ذَلِكَ العَهدِ العَظِيمِ، وَيَنقُضُ غَزلَهُ بَعدَ قُوَّةٍ، وَتَرَى صَاحِبَ الخُلُقِ الحَسَنِ مَعَ النَّاسِ قَد رَجَعَ إِلى سَابِقِ عَهدِهِ بِسُوءِ التَّعَامُلِ، وَعَادَ إِلى مَا كَانَ عَلَيهِ مِن فَاحِشِ القَولِ وَحِدَّةِ الغَضَبِ، وَتَجِدُ مَن بَسَطَ يَدَهُ في إِنفَاقٍ وَعَطَاءٍ قَد تَرَاجَعَ وَعَزَمَ عَلَى أَن يَقبِضَهَا طُوَالَ سَنَتِهِ.

عباد الله: لقَد أَمَرَ سُبحَانَهُ مَن أَمَرَ مِن أَنبِيَائِهِ وَأَوصَى مِنهُم مَن أَوصَى بِاستِدَامَةِ العِبَادَةِ وَالـمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ حَتَّى يَأتِيَهُ المَوتُ

فقَالَ  سُبحَانَهُ (وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ) وَقَالَ عَن عِيسَى عَلَيهِ السَّلامُ : (وَأَوصَاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا )

 واعلموا أنَّ اللـهَ جل وعلا يُحِبُّ مِن عَبدِهِ المُدَاوَمَةَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً، قَالَ r "أَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ" وفي لفظ: "أَحَبُّ العَمَلِ إِلى اللـهِ مَا دَاوَمَ عَلَيهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ" .خ.م

وَقَدِ امتَثَلَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَمرَ رَبِّهِ لَهُ بِاستِدَامَةِ العِبَادَةِ، وَأَتَى بما يَرضَاهُ تَعَالى وَيُحِبُّهُ مِنَ المُدَاوَمَةِ عَلَى صَالِحِ العَمَلِ،

فَكَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثبَتَهُ، وَحِينَ سُئِلَت عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا عَن عَمَلِهِ قَالَت: كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً. وتقول: وَكانَ نَبِيُّ اللـهِ r إذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكانَ إذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ، أَوْ وَجَعٌ عن قِيَامِ اللَّيْلِ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ..خ.م

وَأَمَرَ بِذَلِكَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بَعضَ صَحَابَتِهِ الكِرَامِ لِيَكُونَ لَـهُم وَلِمَن بَعدَهُم مَنهَجًا يَسِيرُونَ عَلَيهِ كما هو الشأنُ في حديثِ عبدِ اللـهِ المتقدم.

 

 

وكما في قصةِ أمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها: فعن أنسِ بنِ مالكٍ t قال: دخَل النبيُّ r فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقالَ: ما هذا الحَبْلُ؟ قالوا: هذا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقالَ النبيُّ r: لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ .خ.م .

فأرشدَ r إلى ما يصلحُ النفسَ وما يمكنُ الدوامُ عليه بلا مشقةٍ، لأنَّ النفسَ تكونُ فيه أنشطَ، والقلبُ منشرحٌ، فتستمرُ العبادةُ، ويحصلُ مقصودُ الأعمالِ، وهو الخضوعُ فيها واستلذاذُها، والدوامُ عليها،

 بخلافِ مَن تعاطى مِن الأعمالِ ما لا يمكنُه الدوامُ، وما يشقُّ عليه، فإنه مُعَرَّض لِأَنْ يتركَه كلَّه أو بعضَه، أو يفعلَه بكُلْفةٍ أو بغيرِ انشراحِ القلبِ فيفوتَه الخيرُ العظيمُ. فعن ابنِ عمرَ y قال : قالَ لي رَسولُ اللَّـهِ r: يا عَبْدَ اللَّـهِ، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ! خ.

 قال طاووسٌ: " أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَخَفُّهَا "، قَالَ ابنُ عبدِالبرِّ: " يُرِيدُ: أَخَفَّهَا عَلَى الْقُلُوبِ، وَأَحَبَّهَا إِلَى النُّفُوسِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ عَادَةً وَخُلُقًا ".

ألا فاتقوا اللـهَ عبادَ اللـهِ وأديموا العملَ الصالحَ في سائر أيامِكم (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ) .  بارك الله لي ولكم ..

 

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله ...أما بعد:

فيا عباد الله: "أَحَبُّ العَمَلِ إِلى اللـهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ"  إِنَّ هَذِهِ القَاعِدَةَ يَجِبُ أَن تَكُونَ لَنَا نِبرَاسًا وَمَنهَجَ حَيَاةٍ، سَوَاءٌ في أَدَاءِ الوَاجِبَاتِ وَهُوَ مَا لا يَحتَمِلُ مِنَّا التَّركَ وَلا التَّأجِيلَ وَلَو مَرَّةً وَاحِدَةً، أَو في التَّزَوُّدِ مِنَ السُّنَنِ وَالمَندُوبَاتِ، فليست العبادةُ في فتْرةٍ من الفتَراتِ لعاطفةٍ عابِرةٍ، أو تأثُّرٍ مؤقَّتٍ، أو حدثٍ مؤْلمٍ، تفيقُ النَّفسُ بسببِه من غفلتِها وتقصيرِها في حقِّ ربِّها ،

بل هي منهجُ حياةٍ للمسلمِ فديمومةُ العملِ الصالحِ مَقصَدٌ شرعيٌّ (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) .

إنَّ الديمومةَ على العملِ الصالحِ وإنْ قلَّ ذو أثرٍ حَسَنِ قويِّ المفعولِ وطِيبِ العاقبةِ على النفسِ والمجتمعِ؛ فالواردُ الدائمُ القليلُ يُؤثِّرُ في الصخْرِ على صلابتِه؛ فكيف بالقلوبِ وهي مُضَغٌ من اللحمِ. قال الْفَضْلُ بْنُ سَعِيدِ: "كَانَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَعَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ، فَمَرَّ بِمَاءٍ يَنْحَدِرُ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ عَلَى صَخْرَةٍ قَدْ أَثَّرَ الْـمَاءُ فِيهَا، فَقَالَ: الْـمَاءُ عَلَى لَطَافَتِهِ قَدْ أَثَّرَ فِي صَخْرَةٍ عَلَى كَثَافَتِهَا! وَاللَّـهِ لَأَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ؛ فَطَلَبَ فَأَدْرَكَ ".

إنَّ المواظبةَ على قليلِ العملِ الصالحِ أَمنةٌ ربانيةٌ للعبدِ، وسلامةٌ عاصمةٌ له بأمرِ اللـهِ مِن الزيغِ والضلالِ؛ وتلكَ المواظبةُ تقتضي رعايةَ الفرائضِ والواجباتِ، وتركَ المحرماتِ، وتعاهدَ التوبةِ حالَ الإخلالِ بالواجبِ أو انتهاكِ المحرمِ، كما تقتضي تلكَ المواظبةُ الإبقاءَ على النوافلِ التي يَسْتَمِرُّ عليها العبدُ دونَ مللٍ؛ كقراءةٍ يوميةٍ للقرآنِ مدةَ ثلثِ ساعةٍ أو أكثر ، أو قيامِ ركعاتٍ بعد العشاءِ مع الوترِ، أو صدقةٍ ببضعٍ من المالِ،

أو صيامِ ثلاثةِ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ وغيرِها كثيرٍ ، المهمُ أن نداومَ على هذه الأعمالِ "فسَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشَيءٌ مِنَ الدُّلْـجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا".

قال عمرُ t:"إنَّ لهذه القلوبِ إقبالًا وإدبارًا؛ فإذا أَقبلتْ فخذوها بالنوافلِ، وإذا أَدبرتْ فألزموها الفرائضَ" .

وقال ابنُ عثيمينَ: " والذي ينبغي للإنسانِ ألا يَخرُجَ من العبادةِ إلا وهو أرغبُ بها مِن دخولِه فيها؛ حتى يؤديَها على يسرٍ وسهولةٍ ونشاطٍ".

عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ t أنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ أتَتِ النبيَّ r تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَقالَ: ألَا أُخْبِرُكِ ما هو خَيْرٌ لَكِ منه؟ تُسَبِّحِينَ اللَّـهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلَاثًا وثَلَاثِينَ، وتَحْمَدِينَ اللَّـهَ ثَلَاثًا وثَلَاثِينَ، وتُكَبِّرِينَ اللَّـهَ أرْبَعًا وثَلَاثِينَ ، قال عليٌ : فَما تَرَكْتُهَا بَعْدُ، قيلَ: ولَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قالَ: ولَا لَيْلَةَ صِفِّينَ. خ.

اللهم أعنا على ذكرك ...

ثم صلوا وسلموا

 

المرفقات

1715205757_أدومه وإن قل.docx

1715205757_أدومه وإن قل.pdf

المشاهدات 705 | التعليقات 0