خطبة آخر جمعة من رمضان
د. منصور الصقعوب
أما بعد فاتقوا الله عباد الله وحاسبوا أنفسكم ماذا عملتم في شهركم الكريم، فإنه ضيف قارب الزوال وأوشك على الرحيل عنكم والانتقال، وسيكون شاهدا لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فابتدروا ما بقي منه بالتوبة والاستغفار والاستكثار من صالح الأقوال والأفعال والابتهال إلى ذي العظمة والجلال لعل ذلك يجبر ما حصل من التفريط والإهمال.
معشر الكرام:
إن الضيف الحبيب حين يحلّ, ثم يوشك على الارتحال والطعن, فإن النفوس تأسى لفراقه, وتحزن لوداعه, هكذا مضت أيها الكرام الليالي مسرعة، بالأمس كنا نستقبل رمضان، وهاهو الشهر قد شمر عن ساق، وأذِن بوداع وانطلاق، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قُوِّضت خيامه، وتصرمت أيامه، وأزف رحيله، ولم يبق إلا قليله, ونحن في آخر جمعة فيه،
ولا ندري ونحن نودعه هل نستقبله عاماً آخر أم أن الموت أسبق إلينا منه، نسأل الله أن يعيده عليها وعليكم أعواماً عديدة وأزمنة مديدة.
مضى جلّه فلا المطيع يذكر تعب طاعته, ولا العاصي يحس بلذة معصيته, وعند الله يعلم كل امريء حقيقة عمله, مرّ جل الشهر ونصف العشر, وكم هي رائعة صور المتنافسين على الطاعة فيها, كم تسر يوم ترى امرءاً أسهر ليله لربه مصلياً, وامرءاً تفرغ منشواغله وترك بيته وشد مئزره معتكفاً, وامرءاً لأبواب البذل والإحسان مسابقاً, وتلك روعة رمضان
وفي ذات الوقت يحزّ في النفس ما ترى من صور تعكر صفو رمضان, ما يحدث في الأسواق من تساهل بعض النساء في اللباس والحجاب, وغياب قوامة بعض الرجال, وفي أشرف ليالي العام, وفي أبغض البلاد إلى الله وهي الأسواق – ولا غنى لنا عنها-إلا أننا نتسائل أين أثر رمضان على هؤلاء النساء بل على القوامين عليهن من الرجال
يحزّ في النفس ما ترى من تفريط البعض في رقابته على أولاده, أوقات تعبد الناس لربهم في ليلهم, فتأذى بهم المصلون, وربما اصطادهم في غفلة من الرقيب المفسدون.
وحري بنا ونحن على مقربة من وداع الشهر, أن نستذكر أموراً يتأكد التعريج عليها, وينبغي في آخر جمعة من الشهر التذكير بها,
أول هذه الأمور نداء إلى من وفق للصيام والقيام إلى من عمل الطاعات وكان من تجار الحسنات إحمد الله أن وفقك, فما عملت إلا بتوفيق ربك, فلولا الله ما اهتديت ولا صمت ولا صليت (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً), فما هو إلا توفيق الله لك, والمنة في كل ما قدمت لله لا لك ( بل الله يمن عليكم ان هداكم للإيمان) من نحن لولا فضل الله فلا تغتر بما عملت, وإياك أن يرى الله منك إدلالاً بما عملت أو إساءة بعد حسن ما عملت
ومع هذا فالعبرة في الأعمال ليست بكثرتها ولا بصورها بل بقبول الله لها, فلا تفتأ أن تسأل ربك أن يقبل صالح عملك وأن لا يكلك إلى نفسك, والموفقون هم الذين يتعبدون وهم بعد ذلك خائفون مشفقون أن ترد أعمالهم, ولا يلتفت لقرباتهم, قال الله عنهم (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) ويقول علي بن أبي طالب : (كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
وأهل الجنة من صفتهم الخوف والإشفاق (قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ* فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) وفي ذلك يقول إبراهيم التيمي: ينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنّة لأنّهم قالوا: إنّا كنّا قبل في أهلنا مشفقين.
وثاني الأمور أيها المبارك: أن ينعقد في قلبك أيها المطيع العزم على الدوام بعد رمضان, فإنك إن نويت الخير أُعنت عليه, وكتب لك الأجر ولو حيل بينك وبين العمل, وإن نويت الانقطاع عن الخير, وان يكون آخر العهد به ختام الشهر فذاك تفريط وحرمان, وقد كانوا يقولون" من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها"
أما من فاتت عليه الأيام باللهو والتفريط والآثام فلقد بقي في الشهر نفَس وبقية, وهي أفضل الأيام, والأعمال بالختام, بقيت ليالي حريةٌ بأن تكون منها ليلة القدر, بل هي أحرى ما تكون فيها, فاجتهد عساك ترحم ومع زمرة المعتقين من النار تنضم, وإياك أن تفوتك الفرصة فالمحروم من حرم ليلة القدر، والمأسوف عليه من أدرك شهر رمضان فلم يُغفَر له
وثالث الأمور معشر الكرام: أن يكثر المرء من الاستغفار في ختام شهره, فبذلك تختم الطاعات, قال ابن القيم: وأرباب العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون استغفاراً عقب الطاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده"
ورابع الأمور:أن الله شرع في ختام الشهر عباداتٍ يتقرب بها من أنعم عليه ربه ببلوغ الختام والتوفيق للطاعة, وتلك نعمة تستوجب من العبد شكر مولاه عليها, فشرع الله زكاة الفطر, وقال ابن عباس{ : ((فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات)).
فهي واجبة على كل مسلمٍ صغر أو كبر ذكراً أو أنثى، وأما الحمل في البطن فلا يجب الإخراج عنه وله الإخراج عنه استحباباً وتطوعاً فإن ولد قبل ليلة العيد وجب الإخراج عنه.
وله أن يخرجها عمن ينفق عليهم ممن يستخدمهم في بيته من خدم وخادمات, والواجب على الراجح أن يخرجوها هم عن أنفسهم, ولو أخرجها صاحب البيت فله الأجر عند الله لكن يخبرهم بذلك
ومقدار المخرج: صاعٌ عن كل شخص من طعام الناس من البر أو الرز أو التمر أو غيرها من طعام الآدميين، فليخرجها المسلم طَيّبة بها نفسه، ولا يبخل على نفسه, وليختر الأطيب والأنفع، فإنها صاع واحد في الحول مرة، والله يقول(وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ)
ولم يشرعها الله من الأرز وحده, بل من خمسة أصناف, وتتابع الناس على إخراجها من الأرز ربما جعل الفقير يستغني عنه ويبيعه بثمن زهيد, والشرع نوّع المخرج: التمر والزبيب والبرّ, وكلها مما يتقوت به.
وعند جماهير العلماء أنها تخرج مما فرضه رسول الله من الطعام ولا تخرج قيمتها من المال، فمن أخرجها من ذلك لم تقبل منه، لأنه خلاف ما فرضه رسول الله .
ويكون دفعها إلى الفقراء خاصة، وليست لبقية أهل الزكاة, والأقارب المحتاجون أولى من غيرهم، ولا بأس أن يعطى الفقير الواحد فطرتين أو أكثر، ولا بأس أن توزع الفطرة الواحدة على فقيرين أو أكثر، ولا بأس أن يجمع أهل البيت فطرتهم في إناء واحدة بعد كيلها ويوزعوا منها بعد ذلك بدون كيل .
ووقت إخراجها المستحب يوم العيد قبل الصلاة إن تيسر، ولا بأس أن تخرج قبل العيد بيوم أو بيومين، ولا يجوز تقديمها على ذلك، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد إلا من عذر مثل أن يأتي خبر ثبوت العيد فجأة ولا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة.
والأفضل إخراج الفطرة في المكان الذي تغرب على المرء شمسه وهو فيه, سواء كان بلده أو غيره من بلاد المسلمين ، ولا بأس أن يوكل المسلم من يخرجها عنه في بلده إذا سافر إلى غيره.
وبعد ذلك, فالتكبير عبادة يختم بها المسلم شهره ويستقبل عيده, (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وينبغي أن يجهر بها الرجال في أسواقهم وطرقاتهم وبيوتهم تعظيما لله وإظهارا للشعائر، وأما النساء فيكبرن سراً,
ووقته من غروب الشمس ليلة العيد إلى الشروع في صلاة العيد
وأما صلاة العيد فقد أمر بها رسول الله الرجال والنساء حتى العواتق وذوات الخدور اللاتي ليس لهن عادة بالخروج وحتى الحيض يشهدن دعاء الخير ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، فلا يجلسن فيه, وتأمل كيف أكد رسول الله على الخروج لها, فأمر بإخراج من ليس من عادتهم الخروج من النساء, وحين قالت له أم عطية" يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال: لتلبسها أختها من جلبابها)) ولذا استحب جماهير أهل العلم الخروج لها, بل أوجبه غير واحد من العلماء منهم ابن تيمية وغيره, وإن كان الأكثر على الاستحباب
فحري بنا أن نخرج إلى صلاة العيد رجالا ونساء صغارا وكبارا تعبدا لله عز وجل وامتثالا لأمر رسول الله وابتغاءً للخير ودعوة المسلمين، فكم في ذلك المصلى من خيرات تنزل وجوائزَ من الرب الكريم تحصُل ودعواتٍ طيبات تقبل.
وليخرج الرجال متنظفين متطيبين لابسين أحسن ثيابهم, وما أحوج طالبة الرحمة والقبول من الله أن تخرج بلباس خالي من مخالفة لشرع الله, وأن تتحرى الخروج بحشمة وبلا تبرج وطيب وزينة قلت ما سمعتم وأستغفر الله
الخطبة الثانية: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله ترفع الدرجات وتكفر السيئات
أما بعد: فلقد كان رسولنا يتعاهد أموراً في العيد, داوم عليها ونقلها صحابته, وحري بالمسلم أن يأتسبي فيها بنبيه, فمن ذلك:
أن يأكل قبل خروجه لصلاة عيد الفطر تمرات كما فعل النبي r والسنة أن يكنّ أول ما يأكل,وأن يأكلهن وتراً, ثلاثاً أو أكثر من ذلك وتراً, والأفضل أن يأكلهن عند خروجه,
وأن يأتي للمسجد من طريق ويعود من طريق آخر كما كان يفعل رسول الله r.
وأن يبادر المصلي بالخروج إلى المصلى من بعد صلاة الصبح ليحصل له الدنو من الإمام وانتظار الصلاة, وهو في صلاة ما انتظر الصلاة, وقد ورد عن البخاري أن البراء قال : خطبنا النبي يوم النحر فقال : "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ... " قال ابن حجر : هو دال على أنه لا ينبغي الاشتغال في يوم العيد بشيء غيرِ التأهب للصلاة والخروج إليها، ومن لازِمِهِ أن لا يُفعَل قبلها شيءٌ غيرها، فاقتضى ذلك التبكير إليها
وبعد معاشر المسلمين: فها هو الشهر يترحل, ولعل بعضكم لا يدركه بعد هذا العام، أو لربما لا يؤخره المنون إلى التمام، فيا ربح من فاز فيه بالسعادة والفلاح، ويا حسرة من فاتته هذه المغانم والأرباح، نعم لقد دنا رحيل هذا الشهر وحان، وربَّ مؤمِّلٍ لقاء مثله خانه الإمكان، فاغتنم - أيها المفرط - في طاعة المنان, الفرصة قبل فوات الأوان، وتيقظ أيها الغافل من سنة المنام، وانظر ما بين يديك من فواجع الأيام، واحذر أن يشهد عليك الشهر بقبائح الآثام، واجتهد في حسن الخاتمة فالعبرة بحسن الختام, وطوبى لمن قدم يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرٍ محضراً
اجتهد في الشهر ما دمت في آنه, تبوأ لنفسك موضعاً في الجنة قبل غلق أبوابها, إختم الشهر بتوبة واستغفار, وأبشر فما يخيّب الله من لجأ إليه وهو الرحيم الغفار
عبد الله : يا لها من خسارة، أن ترى أهل الإيمان واليقين، وركائب التائبين وقوافل المستغفرين، قد حظوا في ساعات الليل بالقرب والزلفى والرضوان، وأنت مازلت بعيداً, أوترجوا الخلود؟, أما تخاف أن يفجأك الأجل وأنت لم تزل تسوف بالتوبة وحُسن العمل
أسفاً لك إذا دعيت للتوبة وما أجبت, يا حسرة لك إذا انقضى رمضان وما ربحت, كم من امريء سيندم على التفريط إذ حلّ العيد, كم من امريء سيندم على التفريط إذا تجلت الصحف عن الرب للعبيد, فاعمل ليومٍ تفرح إذ يندم المفرطون
عبد الله : استدرك من رمضان ذاهباً، ودع اللهو جانباً الحق ما استطعت بالقافلة، وتقلب في منازل العبودية بين فرضٍ ونافلة، واجعل الحياة بطاعة ربك حافلة،
وانطرح بين يدي مولاك قائلاً:
إلهي لا تعذبني فإني ** مقر بالذي قد كان مني
وما لي حيلةٌ إلا رجائي ** لعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في الخطايا ** وأنتَ عليّ ذو فضلٍ ومنِ
إذا فكرتُ في ندمي عليها ** عضضتُ أناملي وقرعتُ سني
اللهم اختم لنا رمضان برضوانك
اللهم لا تجعل حظنا من صيامنا الجوع..
المشاهدات 20236 | التعليقات 8
للرفع لمناسبة الوقت تقبل الله منا ومنكم أيها الكرام
الله يجزاك الجنة
جزاك الله خيراً على الموضوع الجيد وكتب الله أجرك وجعل ذلك في موازين حسناتكم
جزاك الله خيراً على الموضوع الجيد وكتب الله أجرك وجعل ذلك في موازين حسناتكم
أرجوا من أحبتي الخطباء بيان أحكام اللباس، والأذكار الواردة لمن أستجد لباسا فالحاجة لها قائمة، والتذكير بها قليل، "من دعا الى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه"
جزاك الله خيرًا على هذه الخطبة النافعة الجامعة الماتعة .. لكن لو زيد حجم الخط كان أفضل .. ولكن صغره لم يقلل من قيمتها
عبد الله العصيمي
بارك الله فيك ياغالي
تعديل التعليق