خُطبَة..كفى تَغيِيِّبَا - نايف الحربي

عزام عزام
1434/05/21 - 2013/04/02 03:30AM
خُطبَة..كفى تَغيِيِّبَا... جامع العَزيّزية 10/5/1434هـ
نايف بن حمد الحربي

الخطبة الأولى :

الحمدُ للهِ برحمتهِ الهدى على عبادهِ أسفر , والحمدُ لله بمنَّتِهِ المُوفَقُ في حالكِ الظلماتِ النورَ أبصر , والحمدُ للهِ من لُطفهِ انكشافُ مَن على جِرَاحِ الأمَّةِ تَسَوَّر , فأيُّ أَلطافِ اللهِ أحَقُّ أن تُشكر , أمِنَتُهُ علينا بالهدى ؟ أم فَضحُ مَن للهدى بعدَ الكور حوَّر , وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن محمداً عبده و رسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد :فعليكم بتقوى الله عباد الله تُورثُكم صلاحَ النية فتستقيمُ لكم الطويَّة , وتأنسون بالله عند اضطراب البَريَّة .

معاشر المسلمين : طُولُ الألم , وتَجدُدِ الجِراح , وإيِّغَالِ العدو , وتَخَاذُلِ القريب في ابتذالٍ للكرامة وإسفافٍ بالمشاعر , يُتَوِجه أَمنُ الباغي مِن صَدِّ عدوانه , كُلُ هذه الأحداث غدت أبجدياتٌ , في يومياتِ أمتي , قد وعاها البليد , وسمعها الأصم , وأبصرها الأعمى , فَغَدَونا حقلَ تجارب , و أُضحِيَاتٍ لكُلِ راغب , بل الأَعراضُ مشَرَّعَاتٌ لكل غاصب , ففي كُلِ بقعٍ نارٌ تُسَجَّر , و أُوَارُهَا يُسَعَر , لكنما جُلُّ الوجوه من حَرِّ لظاها لم تتمعر , مما يَستَوقِفُ القدم , وعلى كَشفِ الحقائقِ يَبعَثُ النَهَم , فوجب على المرء أن يُعمِلَ فِكرَه , ويستقرأ أحداث دهره , ليستشرف مستقبله , ويتأمل في واقع عصره , فما شأننا ؟ وما الذي أصابنا ؟ أفَذِلةٌ ضُرِبَت علينا فلا ترفع عنا ولو حاولنا لها دفعا !! كلا , أم أن في خَلقِنَا نقصٌ فحقنا أن نُسَام هواناً وخسفا ؟ كلا , أم أنّا خُلِقنَا عبيدٌ وقَدَرُ العبدِ ألا يسعى لمجدٍ , بل ولا يتمناه حدسا ؟ كلا , فما الخطب إذن ؟ وما الذي دهانا ؟ لا تستنكفون عن الحقيقة إذا ما أخبرتكم , أنَّ الأمة إنما أُوتِيَّت من قِبَلِ انعدام الوعي , فكل هذه الأحداث , حقائق واقعة , تتجدد بتجدد خفقات قلبك , وإذا تجاهلتها فستحل بساحك يوماً ما , فخيرٌ لكَ أن تُشَخِصَ الزلل لتعرف مَكمَنَ الخلل , فتسعى لتلافيه على عجل .

وتأمل معي وسَتُدرِك صِدقَ مقالتي , أنَّ ما أصاب الأمة ولم يزل , إنما هو لانعدام وعيها , و إلا فأمةٌ كانت تحكم من الصين شرقاً إلى الأسبان غرباً ومن بحر العرب جنوباً إلى فرنسا شمالاً , ودينها يقرر (( أن المسلمين تتكافئ دمائهم , يسعى بذمتهم أدناهم , ويرد عليهم أقصاهم , وهم يدٌ على من سواهم )) ويلقناها (( بأن من أتاكم و أمركم جميعٌ على رجلٍ واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم , فاقتلوه )) !!

فأمةٌ هذا شأنُها كيف هانت ؟ ولِعِدَاها قَنَاتُها كيف لانت ؟ قد تعددون أسباباً , وإزاء كل سببٍ أقول لكم : صدقتم , ولكن ؟ لكن ماذا ؟ لكن يبقى أن السبب الرئيسي للهوان هو انعدام الوعي , فإذا عُدِمَ الوعيُّ بالواقع لم تُحسِن أن تتصرف مع ما يحل بك , فضلاً عن أن تخطط للمستقبل , فالأمةُ لما غاب وعيُها خُدِعًت بالمظاهر , وانطلت عليها الحِيَّل , فمُزِقَت كُلَ مُمَزَق , وسِيِّمَت الهوانَ والذُلَ على أيديّ مَن مَنَحَتهُم الثقة , وقَدَمَتهُم أمامَ الجموع , فلم يَنهَضُوا لبناء مجدها , وإنما سَعَوا لبناء مَجدِ أنفسهم , في الوقت الذي كان يُخطَبُ لهم على المنابر , وفي كَيِّل مدحهم يتباهى كل شاعر .

فالله أكبر كم في الفتح من عجبٍ ... يا خالد التركِ جدد خالدَ العربِ
صلحٌ عزيزٌ على حربٍ مُـظَـفَـرةٍ ... فالسيف في غِمدِهِ والحقُ في النُصُبِ
أبياتٌ قيلت في مدح أتاتورك..

لك في الأرض والسماء مآتمْ ... قامَ فيها أبو الملائِكِ هاشمْ
قَعَدَ الآلُ للعزاءِ وقامتْ ... باكياتٌ على الحسين الفواطمْ
أبياتٌ قيلت في رثاء الشريف الحسين..

فمن هو أتاتورك ؟ ومن هو الشريف الحسين ؟ فأرعني سمعك لتعرف حقيقة ما نحن فيه , إذا ما أمسكتَ بأول خيط المؤامرة , فهذان الرجلان هُما أولُ من غدر بالأمة , فأسقطا الخلافة العثمانية , بالتعاون مع الحلفاء النصارى , ومزقا الجسد الواحد إلى أعضاء متفرقة , باعها في سوق النَخَاسَة , ولم يكن لهما ذاك لولا جهل الأمة بواقعها , حيثُ كانت أداةً طَيِّعَةً في تنفيذ أجنِدَتِهِمَا , فإِبَانَ نُشُوب الحرب العالمية الأولى و اشتغال المسلمين بقتال الحلفاء شرقاً وشمالاً وغرباً اتَصَلَ الإنجليزُ بالشريف الحسين عبرَ ضابط المخابرات البريطاني لورانس العرب فأغروه بالثورة على الخلافة العثمانية , ووعدوه إزاء هذا بحُكم العرب , فابتلع الطُعمَ والأمةُ معه, فَطَعَنَ دولةَ الإسلام من الظهر , والأمةُ المُغَيَّبَةُ أداةُ الطعن , فلما هُزِمَت الدولةُ العثمانية وُقِعَتْ اتفاقية (سايكس بيكو) و قُسِمَتْ دولةُ الإسلام إلى دويلات , رَسَمَ حدودها كلٌ من فرنسا وبريطانيا , وحكموها مباشرةً أو بالنيَّابة , أما الشريفُ الحسين فلمّا سألهم ما وعدوه قبضوا عليه ونفوه إلى قبرص , وعينوا ابنيه , فيصل حاكماً على العراق و عبدالله حاكماً على الأردن , نعم نفوا الأب ونصبوا الأبناء , و لم يُبَالي الأبناءُ بنفي أبيهم ما داموا قد حصلوا على الحُكم , فكيف لهم أن يُبَالوا بمصير الأمة , وقديماً قيل :
بأبيه اقتدى عديٌ في الكرم ... ومَن شابه أباه فما ظلم

وأما أتاتورك فضابطٌ في صفوفِ جيوش الدولة العثمانية عَمِلَ لصالح الإنجليز لإتمام الحلقة المتبقية بعد الشريف الحسين , فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى اُفتُعَلَت معركةٌ بين الدولة العثمانية واليونان , دخلها الإنجليزُ كالمناصرين لليونان , فخرجت جيوش ُأهلِ الإسلام لقتالهم وعلى رأسها أتاتورك , وقبل بدء المعركة انسحبَ الإنجليزُ واليونانُ من أمام أتاتورك ليَحتَلَ في نفوس المسلمين منزلةً سامية, أمكنَتهُ من الوصول إلى كرسي الحكم , فماذا فعل ؟ طَرَدَ الخليفة , وألغى الخلافة ولم تك ألغيت منذ عهد النبوة , وأعلن استقلال تركيا عن العالم الإسلامي , ومنع مظاهر الإسلام , وفرض شعائر الكفر بقوة الحديد والنار , وكان أولُ مَن اعترفَ به هم الإنجليز , أمَّا مَن ساعده على هذا ؟ فالأمةُ التي لا تُجِيِّدُ إلا التطبيل , وأما الواقع فهي مُغَيَّبَةٌ عن حقائقه , ولم تزل المسرحيةُ قائمة وإن تَبَدلَ أبطَالُهَا .

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم


الخطبة الثانية :

الحمد لله بعث بشرعَةٍ لطلاب الحق كافية , ومن أهل الزيغ شافية , لما كانت لأهل الكفر مُجافية , من استمسك بها فقد استرشد , ومن نبذها ولأهل الكفر والى فموالتُه لوصف الإيمان عنه نافية , وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ما مضت أمةٌ وتَبِعَتهَا قافية..
أمــا بعـــد :أهل الإسلام في ظل هذا الواقع الذي يُقَدَّمُ فيه الإسلامُ وأهلُهُ القائمون به قرابينَ فداء , لتحقيقِ مصالحَ شخصية , كان لا بد من بيان هذه الحقائق لفَهمِ مواقفِ مُعظَمِ السَاسة , من المجاهدين في كل بلدٍ من بلاد الإسلام , لماذا يَكِيِّدُونَ لهم في سوريا , ويَتَجَاهَلُونَهُم في العراق , ويُغَيِّبُونَهُم في الشيشان , ويُعِيِّنُونَ عليهم في مالي وبلاد الأفغان , هذا من جانب , أما الجانب الآخر فوعيُّ أهل الإسلام هو أولُ خطوةٍ في طريق استعادة مجدهم , يُشْعِرُ بالمسؤولية فيشعل الهم , ويبعث على العمل , فإذا ما عَلِمَ أهل الإسلام أن الحدود التي تفصلهم عن إخوانهم في أي بلد كان, إنما هي من وضع عدوهم ليُحكِمَ سيطرته عليهم , حينها ستسقط من أنفسهم , وإذا سقطت من أنفسهم يُوشِكُ أن تزول من واقعهم , وإذا ما عَلِمَ أهل الإسلام أن تَوافُدَ المجاهدين على الأرض المستباحة ليست تَدَخُلاً فيما لا يعنيهم وإنما هو مقتضى الإيمان , يُعطِي القضيَّةَ بُعداً إسلامياً , كيف ستكون نظرتهم حينها لمن هبَّ للذود عن حياض المسلمين .
فإذا ما وعت شعوب أهل الإسلام هذا فقد وضعت القدم الأولى على الطريق الصحيح , ولكي تَستَلحِقَ القدم الأخرى فلا بد من أن تُوقِن بأن كيد الكافرين وأوليائهم مهما بلغ فهو في ميزان الله ضعيف , ولذا قال الله (( فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )) وقال (( فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ )) كيف ؟ لأنه يعلم وأنتم لا تعلمون (( ِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً )) (( وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ )) (( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ )) (( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) وتأمل (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ )) الأنفال 36 . فلا دنيا ولا آخرة , ومن دار في فلكهم كانت عاقبته كعاقبتهم , وماذا عسى أن ينالوا من عاملٍ الإسلام مُخلِص , يَقِيِّسُ بمقاييس الآخرة بينما هو لا يفقهون إلا مقاييس الدنيا .
ولكي تُحَرِكَ قدميك مُؤذِناً ببدء المسير فلا بُدَّ مع ما مضى من استحضار مَعِيًّةِ الله , وماذا عساك أن تصنع إذا سُلِبت مَعِيَّةَ الله , الله الذي يقول (( وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ )) النحل( 127 ـ 128 ). الله الذي يقول (( وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )) النساء 141 . وقد رأينا للكافرين علينا ألف سبيل وسبيل , ولا يُخلِفُ اللهُ وعده , فأين الخلل إذاً ؟ الخلَلُ في أنفسنا , فوعد الله لأهل الإيمان وكثيرٌ مِنَّا قد ضَعُفَ إيمانُهُ بوعدِ ربه , فتَعَلَقَ بالأسبابِ الأرضية وقدَّمَ التنازلاتِ الذريعة , واستطال طريق النبي وحَرَقَ المراحل واستعجل قطف الثمار , وركن إلى الذين ظلموا فكان ما هو قائمٌ مِن تَرَدٍ وفشل ((وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )) الروم 6 ـ 7 . ولو أنَنَا عَمِلنَا لنَيِّل مَعِيَّةِ الله لكفانا ما أهمنا (( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً )) ولم يقل ( وتكيدون ) , ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ )) ولم يقل ( وتمكرون )..
فهذه أهلَ الإسلام.. إشاراتٌ على طريق الوعي, تَــتَرَدَدُ مع النَفَسْ.. قبلَ أن يُسَطِرَهَا البنان, أو أن يُفصِحَ عنها البيان..
جعلنا اللهُ لدينه خَدَمَا , ولحُرُمَاتِهِ حَرَمَا , وعلى سبيلِ الهُدَى عَلَمَا..
المشاهدات 2318 | التعليقات 0