خطبة:المدرسة الرمضانية

عمر الدهيشي
1432/09/11 - 2011/08/11 14:43PM
خطبة:المدرسة الرمضانية 12/9/1432هـ
عباد الله..حين خلق الله تعالى الخلق لم يتركهم هملاً لا يلوون على شيء ، أو يدعهم يعيشون ويموتون سبهللاً إن هم إلا كالأنعام، بل ورد النكير على من اعتقد أن الحياة والموت مجرد أقدار خالية من الفرائض والواجبات ، أو ظن أن الأوامر والمنهيات لا تشتمل على منافع تكتسب أو مضار تتقى يفوز بها المهتدي ويخسرها الضال قال تعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق) فقد تعاظم سبحانه وارتفع عن هذا الظن الباطل الذي يرجع إلى القدح في حكمته من خلق الخلق وتقديرهم، ولما سأل القوم منكرين تحريم الخمر والميسر وقد اشتملت على منافع للناس ظاهرة جاء الجواب من عالم الخفيات والمطلع على حقائق الأمور (فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) ، ولما فرض الله تعالى الصيام على الأمة بين سبحانه الحكمة بكلمة جامعة مانعة حوت معاني تتعلق بالظاهر وأخرى بالباطن قال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فالتقوى تعني صيانة النفس من نوازعها وشهواتها وهي جماع الأمر كله.
عباد الله.. إذا تقرر أن الفرائض والواجبات مشتملة على حكم عظيمة ، ومنافع للناس تصلح بها حياة المتبعين وتستقيم أحوالهم ، فهي كذلك تنعكس على أمورهم الدنيوية وحاجاتهم الشخصية، فتتطبع بها نفوسهم وتتخلقها طباعهم وعاداتهم،وما هو الظن بأخلاق وطباع رباها القرآن وسيستها شعائر الإسلام إلا حصول الكمال البشري،والسعادة الدنيوية وشيوع النظام وطيب الحياة، وإن من الدروس التي تتمخض عن هذه العبادة الجليلة وتتجلى في هذا الركن العظيم ، أنه يمد المسلم بالطاقة التي تجعله قادراً على إحداث التغيير في نفسه،فهو يتدرب عن طريق الصيام يومياً فيمتنع عن كل محبوب ومرغوب ويقول لسلطان الهوى والشهوة: لا ، ومتى استطاع المسلم أن يقولها فقد حقق السيادة والاستعلاء على شهواته ومطامعه ونفسه الأمارة بالسوء..
أيضاً.. الصوم أسلوب قهري يفرض على الصائم منهجاً خاصاً في حياته قوامه التقشف والحرمان والصبر على مرارة الجوع وحرارة الظمأ ومكابدة المتاعب في زجر النفس والتحكم في شهواتها..ففيه قسر النفس على الامتثال والطاعة لله تعالى دون تردد أو تحايل أو متابعة أحد من البشر فمراقبة الله تعالى ترهب قلبه واطلاع الله عليه يوقظ ضميره..فتتربى نفسه على مراقبة الله تعالى واطلاعه عليه فتكف نفسه عن كل ما يسوء ويشين قال تعالى (ألم يعلم بأن الله يرى).
ومن الدروس كذلك..أن الصوم يقوي الإرادة ويشحذ العزيمة وعندما يمتلك الفرد قوة الإرادة يستطيع أن يقول للمنكر هذا منكر ويستطيع أن يواجه كل سلبية من سلبيات المجتمع أو فساد ظاهر، ويكون عضواً فاعلاً فيه يبني ولا يهدم ويعمر ولا يدمر، وعندما تمتلك الشعوب قوة الإرادة فإنها لا تسمح لمغتصب أو محتل أن يدنس أرضها أو يتحكم في مصيرها (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) وهي أيضاً تنتصر بهذه الإرادة في معارك الجهل والتخلف والفساد وصراع الشهوات والأهواء وتحطم بهذه الإرادة كل معوقات البناء والتطوير (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم).
ومن الدروس أيضاً..أن الصوم مدرسة يتربى فيها الصائم على الأخلاق الفاضلة والطباع العالية كالبر والإحسان والبذل والتعاون والشفقة والمحبة والصبر وغير ذلك قال ابن القيم (وللصوم تأثير عظيم في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحمايتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها ، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات فهو من أكبر العون على التقوى).
أيضاً ..الصوم ينشئ السلطة النفسية ويقويها ويمكنها من أداء رسالتها وممارسة دورها في حياة السلام وصيانته داخل كيان الإنسان، فمهمتها توجيه اللوم والتأنيب إلى صاحبها كلما حاول أن يخدع وساوس النفس الأمارة أو يقع تحت تأثيرها وبذلك تختفي الصراعات داخل النفس وتنتصر قوى الخير ويعم السلام والأمن داخل النفس، ثم ينتقل إلى الجوارح فتنعم هي الأخرى بالأمن والاطمئنان فيتحقق الخير كله للمسلم الصائم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده اللهم صلى وسلم عليه صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى .
عباد الله..في ظل تضور الآلاف من لظى الجوع في الصومال،ونزيف الدم الجاري في الشام،واقتتال إخوة ليبيا،وتنازع أهل اليمن،واختلاف الأشقاء في فلسطين ، تهدينا مدرسة الصيام إلى وجوب تحقيق وحدة الشعور ووحدة الضمير ووحدة المصير ، فإذا كانت الأمة جمعاء تقوم في موسم معين من العام وفي قدر معدود من الأيام وعلى نسق واحد بين جميع الأنام فهو حلقة اتصال بين الشعوب قوية ، فلا بد أن يثمر ذلك في القلوب نصرة للمظلوم،وتألم النفوس لمصاب الإخوة الجلل، وأن ترفع الأكف بالدعاء، وتمد الأيدي بالبذل والعطاء،تألماً لما يحصل وشعوراً بالأخوة ،وواجب النصرة، وإعذارا أمام الله تعالى ، وشكراً على نعمه الجزيلة وآلائه الواسعة..(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
هذا وصلوا..
المشاهدات 2311 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا