خطباؤنا والمجتمع: شراكة متينة الشيخ أحمد بن عبد المحسن العسَّاف
الفريق العلمي
سمعت قبل أيّام قصّة ذات دلالة نقلًا عن عالم خطيب أمضى بضعة عقود على منبره، فلأسباب تتعلّق بالعمر، والسّفر، وخلو يده من أيّ وسيلة لقياس أثر الخطب على المستمعين، أدركه الملل، وقرّر الاعتزال وترك المنبر لغيره، وزاد من عزمه أنّه يجهد نفسه في الإعداد، فضلًا عمّا قد يطرأ مستقبلًا من مضايقات وإلزامات.
وذات جمعة خطب عن الصّبر، وأضمر في داخله أنّها ستكون من أواخر خطبه، وبعد الفراغ من الصّلاة وانصراف النّاس، أقبل عليه شاب لا يعرفه، فسلّم على الخطيب، وشكره، وقال له: يا شيخ جاءت خطبتك على نفسي كالماء البارد الزّلال! وأردف: نشبت هذا الصّباح معركة لفظيّة بيني وبين زوجتي، نويت على إثرها تطليقها، وخرجت من البيت مغضبًا، وظللت أجوب الرّياض كالهائم على وجهه، إلى أن أدركتني الصّلاة في جامعك الذي يقع في طرف قصي بعيد عن بيتي، وبعد انصاتي لكلامك، عاهدت الله على الصّبر، وإصلاح نفسي، وزوجي، وبيتي.
يقول الرّاوي: كان هذا الموقف المؤثّر علامة فارقة جعلت الخطيب يعدل عن رأيه، وعلم أنّ للخطبة مفعولًا قد يخفى عليه، فآثر الاستمرار في الخطابة، والاجتهاد في التّحضير والإلقاء، والاحتساب فيما يلقى من مشقّة، والصّبر على ما قد يحدث من تكدير، مادام أنّ الخطبة تصلح البيوت، وتعالج النّفوس، ويلتئم من أثرها جرح، أو أكثر، ويسعد بها المجتمع الصّغير أو الكبير.
إنّ خطبة الجمعة عبادة لله ذات أحكام، وهي من المجتمع وإليه، ولذلك فما أنفع أن يتفاعل الخطيب مع مجتمعه الأقرب فالأقرب، وما أعظم أن يشعر النّاس بالمسؤوليّة عن خطبة الجمعة؛ فيتفاعلوا معها قبل إعدادها، وخلال إلقائها، وبعد الفراغ منها، وكلٌّ بحسب ما يستطيع، ويا لها من سعادة حين يصبح المرء ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أو من المشاركين بخفاء في إشاعة فضل، ونشر علم، وبثّ مفهوم.
ومن تجارب بعض الخطباء تقسيم الخطب السّنويّة على مجالات تستوعب جميع ما يجب عليه بيانه، وأكثر ما يحتاجه المستمعون في دينهم ودنياهم، كي يضمن توازنه في الموضوعات المطروقة، ولا يغفل جانبًا، ويسرف في آخر. ويتخذ بعض الخطباء لجامعه وسيلة تواصل، وقناة ارتباط مع المستمعين، مثل موقع على الانترنت، أو حساب في شبكات التّواصل الاجتماعي، أو من خلال تطبيق الواتساب، فضلًا عن الباب المفتوح لمن رغب اللقاء داخل الجامع أو في محيطه، وصندوق المقترحات، ومجلس الحي.
ويرسل بعضهم على رأس كلّ ربع سنة قائمة بالمجالات المستهدفة خلال الشّهور الثّلاثة القادمة، ويطلب من جمهرة الحاضرين معه والمستمعين له في البيوت المجاورة أن يقترحوا عليه عناوين للخطب الواقعة في نطاق هذه المجالات، وإذا همّ بخطبة معينة، أرسل عنوانها لقوائم الاتصال الخاصة بجامعه يوم الثّلاثاء، وطلب منهم المحاور والأفكار والقصص، وكم من مرّة ومرّة قال من فوق منبره: جاءنا عبر جوال الجامع! وقد تكون المشاركة من رجل أو امرأة أو طفل، ويا لبهجة من يسمع كلامه يتلى على منبر الجامع.
ولأنّ منبر الجمعة علم وعمل، يجتهد بعض الخطباء في إجراء عملي بعد الخطبة مباشرة، كأن ينسق مع إدارات حكوميّة، أو مؤسسات أهليّة، لإقامة معرض مجاور للمسجد عن السّلامة المروريّة، أو المخدرات، أو الأمراض المعدية، أو غيرها مما سيخطب عنه، فيقبل المصلون عليه عقيب الخطبة لتوثيق مفاهيم لاتزال في أسماعهم. ومن العمل بعد العلم، أن خطب إمام عن إصلاح ذات البين، وطلب من كلّ واحد أن يصلح بعد الصّلاة مباشرة ما بينه وبين الآخرين، فينهي القطيعة، ويقضي على الخصومة، ويزيل الجفوة، فجاءته رسالة من أحد مستمعيه يخبره فيها أنّه في بيت رجل صرم حبال الصّلة معه زمنًا طويلًا، وقد رأبا صدعهما السّاعة!
ولبعض الخطباء عناية بقياس الأثر، فكاميرات الجامع ترصد مدى يقظة المستمعين وإنصاتهم، ومراجعتها بعد الفراغ من الصّلاة تعطي الخطيب دلالات مهمة عن الإيجابيّات والسّلبيّات. ويقيس خطباء آخرون أثر الخطبة ومدى عناية النّاس بها بالنّظر إلى مستوى التّفاعل في الجلسة العامّة بالمسجد بعد الفراغ من الصّلاة، أو في مجلس الحي الذي ينعقد لمدة نصف ساعة بعد الخروج من المسجد، وبفحص رسائل وسائل التّواصل عددًا ومضمونًا. وتبين الوسائل التّقنيّة شدّة حرص الكريمات الحرائر في البيوت على الاستماع والمشاركة، وأظنّ- وبعض الظّن إثم- أنّ مخاطبة المرأة من فوق المنبر بما يؤرقها ويلفت انتباهها لم يحظ بعناية تقابل كثافة خطاب المرأة لدى دعاة التّغريب.
وإذا كان على الخطيب واجب تجاه مجتمعه وأناسه، يتمثّل في معرفة ما ينفعهم، وتبصيرهم بما يزيدهم إيمانًا وعلمًا وإيجابيّة، فكذلك للخطيب حقٌّ على مجتمعه، ومن حقوقه مشاركته بالأفكار والمحاور، وتشجيعه أو حتى تنبيهه، ومن أعظم الحقوق الاعتراف بفضله وأثره؛ فتلك من عاجل البشرى، ومما يزيد في نشاط الخطيب وحماسته.
ومن هذا الباب أن حدثني خطيب كريم عن رسالة وصلته من امرأة تسكن بجوار المسجد، وملخصها أنّ زوجها مقصّر جدًا في الجانب التّرفيهي لأسرته مع قدرته الماديّة؛ ولم يتوان الخطيب إذ غيّر موضوع خطبته، ووعظ المصلين عن التّوازن في حياة المسلم، وأنّ التّرفيه المنضبط من سفر، ومشاركات، وتسوق، وألعاب، من حاجات الأسرة المعاصرة، واستشهد بالنّصوص الشّرعيّة، مع ضبط خطابه بأطر واضحة كي لا يفهم البعض أنّ الأمر على إطلاقه.
وفي عصر ذلك اليوم المبارك، وردت للخطيب رسالة من نفس المرأة، قالت فيها بأنّ أولادها أخبروها أنّ والدهم ظلّ صامتًا بعد الخطبة لمدة نصف ساعة وكأنّه يحاسب نفسه، ووصفوا الخطبة بأنّها "ضربة في جبهة أبيهم"؛ فنهرتهم والدتهم الحكيمة عن هذا الوصف المزري، وحين دخل الرّجل الأوّاب لبيته، أسعد زوجه وأولاده بطلب الاستعداد لسفرة ماتعة؛ تكون البداية لطريقة جديدة في إدارة الحياة.
ومن طريف ما سمعت نقلًا عن خطيب ألقى قبل ثلاثين عامًا خطبة حثّ فيها على التّبرع لمشروع خيري، وحين فرغ من أداء صلاة الجمعة، وانصرف بوجهه تلقاء المصلين كما هي السّنّة، تفاجأ برجل ثري مسن يقفز بين يدي الخطيب، ويهمس في أذنه: أشارك بخمسين ألف ريال! فقال له الخطيب: لو صبرت حتى نفرغ من أذكار الصّلاة! فأجابه الثّري: لو تعلم خبري لعذرتني، فإني مع حماستك وارتفاع مستوى إيماني هممت أن أتبرع بمليون ريال، وفي منتصف الخطبة قلت لعلّ نصفها أن يكفي! وحين نزلت للصّلاة قالت نفسي كلّ أحد سيتصدق فنصف النّصف فيه خير! وفي الرّكعة الثّانية اقتنعت بأنّ في نصف آخر نصف بركة! وحين سلّمتَ وثبت عليك لأخبرك بآخر رقم استقر في نفسي قبل أن تطير البركة أو تلغى!
والدّرس المستفاد من هذا كلّه، أن يصنع الخطيب شراكة مجتمعيّة وثيقة ومتينة مع مجتمعه القريب، وأن يحرص على ربط العلم بالعمل، ويستثمر انشراح المستمعين بعيد الصّلاة مباشرة لفعل الخير، والكف عن الأذى، وسيبدع إذا ضمن بقاء المفهوم المغروس في الأذهان، وحمله في أيّ مكان. ومن صدق في النّية، وأحسن العمل، فلن يعدم سبيلًا يأمر فيه بالمعروف، وينهى به عن المنكر، ويرشد نفسه والآخرين إلى طرق النّجاة والمكارم والمروءة، ويسعى إلى وضع بذرة صالحة، في بيئة قابلة للنّمو والبقاء.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
ahmalassaf@
الخميس 24 من شهرِ الله المحرّم عام 1440
04 من شهر أكتوبر عام 2018م