خصوصية القرآن في رمضان
محمد بن إبراهيم النعيم
1438/09/13 - 2017/06/08 20:10PM
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخوة في الله
القرآن الكريم، كلام الله المنزل على هذه الأمة، جعله الله نبراسا ودستورا ينير طريق الأمة إلى الهداية الربانية، وشاءت حكمة الله تعالى أن يجعل كتبه كلها تنزل في شهر رمضان.
فجميع الكتب السماوية السابقة قد نزلت في أول رمضان ووسطه، حيث روى واثلة بن الأسقع –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (أُنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأُنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأُنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان) رواه الطبراني وحسنه الألباني، فالقرآن نزل يوم أربع وعشرين أي ليلة خمس وعشرين، فنزول الإنجيل والزبور كانا في وسط هذا الشهر الكريم، كما كان نزول صحف إبراهيم عليه السلام والتوراة في أول الشهر، أما نزول القرآن العظيم فكان في العشر الأخير من رمضان في ليلة القدر.
لقد سمى الله تعالى في كتابه الشهر الذي نزل فيه القرآن وهو رمضان في قوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وحدد وقت نزوله أنه كان في الليل، في قوله إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة، وحدد اسم تلك الليلة المباركة بأنها ليلة القدر في قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كل ذلك يدل على خصوصية القرآن في رمضان، وارتباط القرآن برمضان.
قال ابن عاشور: "فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي ابْتُدِئَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ على مُحَمَّد –صلى الله عليه وسلم- فِي الْغَارِ مِنْ جَبَلِ حِرَاءٍ فِي رَمَضَانَ".
فهذه الآيات الثلاث، في السور الثلاث، تحدّد العلاقة الخاصة بين القرآن ورمضان، ويوضح بعضها بعضاً، فقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن)، يشير إلى أن نزول القرآن كان في رمضان؛ ولكن لم يبين هنا هل أنزل في الليل أم بالنهار؟
فجاء قوله تعالى: (إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ)، فبين أنه أنزل في الليل، وفي ليلة مباركة، ثم جاء قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر)؛ ليحدد مسمى هذه الليلة الرمضانية، ومعالمها، فبين أن القرآن أنزل في ليلة القدر من رمضان.
هذه الخصوصية للقرآن العظيم في شهر رمضان المبارك التي أرادها الله سبحانه وسجلها القرآن العظيم؛ ظهرت واقعا عمليا في السنة النبوية، حيث أظهر الرسول –صلى الله عليه وسلم- لأمته أن شهر رمضان فعلا هو شهر القرآن، وأن له خصوصية ليست لغيره من الشهور، وذلك من خلال المدارسة القرآنية المباركة والشريفة التي كان يعقدها مع جبريل عليه السلام في ليالي رمضان.
فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَد مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".
ففي هذا الحديث -كما يقول ابن رجب- "دليلٌ على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، وفيه أيضا أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً مما يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً؛ فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر".
ولقد ترجم النبي –صلى الله عليه وسلم- خصوصية هذا القرآن العظيم في شهر رمضان الفضيل بهذه المدارسة والمذاكرة للقرآن العظيم في ليالي رمضان، وعلى مدار الشهر كاملا.
ومن صور اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم صلاة التراويح، فهذه الصلاة أكثر ما فيها قراءة القرآن، وكأنها شرعت ليسمع الناس كتاب الله مجوداً مرتلاً، قال –صلى الله عليه وسلم- (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، ولذلك لا نستغرب حين جمع النبي –صلى الله عليه وسلم- بين القرآن ورمضان في حديث واحد، وبين أنهما يشفعان للعبد، مشيرا إلى تلازم الصيام مع تلاوة القرآن في رمضان، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ فَيُشَفَّعَانِ) رواه أحمد.
لقد فقه السلف علاقة القرآن برمضان، ووَعُوا عن الله تعالى مراده في رمضان، وعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حَالَه في رمضان، فطبقوا ذلك في واقعهم في رمضان، فجعلوا من أيام رمضان أيام تلاوة للقرآن، وجعلوا من ليالي رمضان ساعات قيام بالقرآن.
وتنقل لنا كتب السِير وكتب التراجم أحوال السلف العجيبة مع القرآن في رمضان، فقد كان الزهري إذا دخل رمضان قال: "رمضان هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام".
وكان مالك بن أنس إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان لا يتشاغل إلا بالقرآن، ويعتزل التدريس والفتيا والجلوس للناس، ويقول: "هذا شهر القرآن".
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العباد، وترك بعض العبادات، وأقبل على قراءة القرآن.
ونماذج السلف كثيرة، تلك التي أثبتوا فيها للأمة أن للقرآن خصوصية في شهر رمضان، وأنه بالفعل هو شهر القرآن، وأنه لا بد أن يفوز بالحظ الأوفر من عبادات المسلم في شهر رمضان.
فلا بد لك يا عبد الله من أن تجعل رمضانك رمضانَ تلاوة للقرآن، لا بد أن تكون متميزا في رمضان بإقبالك على القرآن، لا بد أن تجعل نهارك مباركا بآيات القرآن، وأن يكون ليلك منيرا بكلمات القرآن.
فأقْبِلْ أيها الصائم على القرآن، أقبل عليه قراءةً وتلاوةً وختماً، جاعلا من رمضان شهر الختمات العديدة، نَظِّم وقتك، ورتِّبْ لنفسك برنامجاً واضحاً، وخطةً عمليةً، لقراءة كتاب ربك سبحانه؛ لتجعل من شهر رمضان شاهداً لك على صلتك القوية بالقرآن العظيم، ومحطةً لك تُحصّل فيها الأجر، وتُكْثِر فيها من جمع الحسنات، فكل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها.
فأقبِلْ أيها الصائم على قراءة القرآن؛ استجابةً لله تعالى ولرسوله –صلى الله عليه وسلم-، ورغبة بما عنده سبحانه من الفضل العظيم، فهو القائل سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).
اسأل الله تعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وحجة لنا لا علينا.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ صلى الله عليه، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: ليكن يا عبد الله خير ما تستغل به شهر الصوم كثرة قراءة القرآن، وليكن من ليلك نصيب وافر لتلاوة للقرآن، فقد نزل القرآن في الليل كما علمت، ولذلك رغب النبي –صلى الله عليه وسلم- بكثرة تلاوة القرآن في الليل، حيث روى تَمِيمُ الداريّ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَرَأَ بِمِئَةِ آيَةٍ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ) رواه الإمام أحمد. أي كتب له ثواب قيام ليلة كاملة.
ألا تعلموا بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- حثنا على قراءة عشر آيات على الأقل بالليل كي لا نكتب من الغافلين؟ فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : (من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كُتب من القانتين، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين) رواه أبو داود.
فلو قمت بالجزئين الأخيرين من القرآن تبارك وعم لبلغ ألف آية تقريبا.
فالمهم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- يؤكد علينا أن نكثر من تلاوة القرآن خصوصا بالليل، لا سيما في رمضان متذكرين مدارسته –صلى الله عليه وسلم- للقرآن مع جبريل طوال شهر رمضان.
فهل نسعى إلى ذلك؟ اسأل نفسك كم ختمة ختمتها حتى الآن وقد انتصف عليك شهر رمضان. فسابق غيرك إلى الخير، ولا تمضِ ليلك فيما لا يعود عليك بالنفع، فرمضان يُجدّد للمؤمنين عهدهم بالقرآن، ويذكرهم بنعمة الله عليهم في إنزال القرآن عليهم، وبإحسانه عليهم أنْ خصهم بالقرآن من بين سائر الأنام، وأن عليهم أن يجعلوه منهج حياتهم.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا، اللهم اجعله شافعا لنا
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخوة في الله
القرآن الكريم، كلام الله المنزل على هذه الأمة، جعله الله نبراسا ودستورا ينير طريق الأمة إلى الهداية الربانية، وشاءت حكمة الله تعالى أن يجعل كتبه كلها تنزل في شهر رمضان.
فجميع الكتب السماوية السابقة قد نزلت في أول رمضان ووسطه، حيث روى واثلة بن الأسقع –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (أُنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأُنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأُنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان) رواه الطبراني وحسنه الألباني، فالقرآن نزل يوم أربع وعشرين أي ليلة خمس وعشرين، فنزول الإنجيل والزبور كانا في وسط هذا الشهر الكريم، كما كان نزول صحف إبراهيم عليه السلام والتوراة في أول الشهر، أما نزول القرآن العظيم فكان في العشر الأخير من رمضان في ليلة القدر.
لقد سمى الله تعالى في كتابه الشهر الذي نزل فيه القرآن وهو رمضان في قوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وحدد وقت نزوله أنه كان في الليل، في قوله إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة، وحدد اسم تلك الليلة المباركة بأنها ليلة القدر في قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كل ذلك يدل على خصوصية القرآن في رمضان، وارتباط القرآن برمضان.
قال ابن عاشور: "فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي ابْتُدِئَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ على مُحَمَّد –صلى الله عليه وسلم- فِي الْغَارِ مِنْ جَبَلِ حِرَاءٍ فِي رَمَضَانَ".
فهذه الآيات الثلاث، في السور الثلاث، تحدّد العلاقة الخاصة بين القرآن ورمضان، ويوضح بعضها بعضاً، فقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن)، يشير إلى أن نزول القرآن كان في رمضان؛ ولكن لم يبين هنا هل أنزل في الليل أم بالنهار؟
فجاء قوله تعالى: (إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ)، فبين أنه أنزل في الليل، وفي ليلة مباركة، ثم جاء قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر)؛ ليحدد مسمى هذه الليلة الرمضانية، ومعالمها، فبين أن القرآن أنزل في ليلة القدر من رمضان.
هذه الخصوصية للقرآن العظيم في شهر رمضان المبارك التي أرادها الله سبحانه وسجلها القرآن العظيم؛ ظهرت واقعا عمليا في السنة النبوية، حيث أظهر الرسول –صلى الله عليه وسلم- لأمته أن شهر رمضان فعلا هو شهر القرآن، وأن له خصوصية ليست لغيره من الشهور، وذلك من خلال المدارسة القرآنية المباركة والشريفة التي كان يعقدها مع جبريل عليه السلام في ليالي رمضان.
فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَد مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".
ففي هذا الحديث -كما يقول ابن رجب- "دليلٌ على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، وفيه أيضا أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً مما يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً؛ فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر".
ولقد ترجم النبي –صلى الله عليه وسلم- خصوصية هذا القرآن العظيم في شهر رمضان الفضيل بهذه المدارسة والمذاكرة للقرآن العظيم في ليالي رمضان، وعلى مدار الشهر كاملا.
ومن صور اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم صلاة التراويح، فهذه الصلاة أكثر ما فيها قراءة القرآن، وكأنها شرعت ليسمع الناس كتاب الله مجوداً مرتلاً، قال –صلى الله عليه وسلم- (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، ولذلك لا نستغرب حين جمع النبي –صلى الله عليه وسلم- بين القرآن ورمضان في حديث واحد، وبين أنهما يشفعان للعبد، مشيرا إلى تلازم الصيام مع تلاوة القرآن في رمضان، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ فَيُشَفَّعَانِ) رواه أحمد.
لقد فقه السلف علاقة القرآن برمضان، ووَعُوا عن الله تعالى مراده في رمضان، وعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حَالَه في رمضان، فطبقوا ذلك في واقعهم في رمضان، فجعلوا من أيام رمضان أيام تلاوة للقرآن، وجعلوا من ليالي رمضان ساعات قيام بالقرآن.
وتنقل لنا كتب السِير وكتب التراجم أحوال السلف العجيبة مع القرآن في رمضان، فقد كان الزهري إذا دخل رمضان قال: "رمضان هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام".
وكان مالك بن أنس إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان لا يتشاغل إلا بالقرآن، ويعتزل التدريس والفتيا والجلوس للناس، ويقول: "هذا شهر القرآن".
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العباد، وترك بعض العبادات، وأقبل على قراءة القرآن.
ونماذج السلف كثيرة، تلك التي أثبتوا فيها للأمة أن للقرآن خصوصية في شهر رمضان، وأنه بالفعل هو شهر القرآن، وأنه لا بد أن يفوز بالحظ الأوفر من عبادات المسلم في شهر رمضان.
فلا بد لك يا عبد الله من أن تجعل رمضانك رمضانَ تلاوة للقرآن، لا بد أن تكون متميزا في رمضان بإقبالك على القرآن، لا بد أن تجعل نهارك مباركا بآيات القرآن، وأن يكون ليلك منيرا بكلمات القرآن.
فأقْبِلْ أيها الصائم على القرآن، أقبل عليه قراءةً وتلاوةً وختماً، جاعلا من رمضان شهر الختمات العديدة، نَظِّم وقتك، ورتِّبْ لنفسك برنامجاً واضحاً، وخطةً عمليةً، لقراءة كتاب ربك سبحانه؛ لتجعل من شهر رمضان شاهداً لك على صلتك القوية بالقرآن العظيم، ومحطةً لك تُحصّل فيها الأجر، وتُكْثِر فيها من جمع الحسنات، فكل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها.
فأقبِلْ أيها الصائم على قراءة القرآن؛ استجابةً لله تعالى ولرسوله –صلى الله عليه وسلم-، ورغبة بما عنده سبحانه من الفضل العظيم، فهو القائل سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).
اسأل الله تعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وحجة لنا لا علينا.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ صلى الله عليه، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: ليكن يا عبد الله خير ما تستغل به شهر الصوم كثرة قراءة القرآن، وليكن من ليلك نصيب وافر لتلاوة للقرآن، فقد نزل القرآن في الليل كما علمت، ولذلك رغب النبي –صلى الله عليه وسلم- بكثرة تلاوة القرآن في الليل، حيث روى تَمِيمُ الداريّ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَرَأَ بِمِئَةِ آيَةٍ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ) رواه الإمام أحمد. أي كتب له ثواب قيام ليلة كاملة.
ألا تعلموا بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- حثنا على قراءة عشر آيات على الأقل بالليل كي لا نكتب من الغافلين؟ فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : (من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كُتب من القانتين، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين) رواه أبو داود.
فلو قمت بالجزئين الأخيرين من القرآن تبارك وعم لبلغ ألف آية تقريبا.
فالمهم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- يؤكد علينا أن نكثر من تلاوة القرآن خصوصا بالليل، لا سيما في رمضان متذكرين مدارسته –صلى الله عليه وسلم- للقرآن مع جبريل طوال شهر رمضان.
فهل نسعى إلى ذلك؟ اسأل نفسك كم ختمة ختمتها حتى الآن وقد انتصف عليك شهر رمضان. فسابق غيرك إلى الخير، ولا تمضِ ليلك فيما لا يعود عليك بالنفع، فرمضان يُجدّد للمؤمنين عهدهم بالقرآن، ويذكرهم بنعمة الله عليهم في إنزال القرآن عليهم، وبإحسانه عليهم أنْ خصهم بالقرآن من بين سائر الأنام، وأن عليهم أن يجعلوه منهج حياتهم.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا، اللهم اجعله شافعا لنا