ختام شهر رمضان
عبدالرحمن السحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد،
فاتّقوا اللهَ عبادَ الله، واعْلَمُوا أنَّكُم غدًا أمامَ اللهِ مَوْقُوفون، ويومَ العَرْضِ عليه مُحَاسَبون، وبأعمَالِكُم مجزِيُّون، واعلَموا أنَّ للقُبورِ وَحْشَةٌ أُنْسُها الأعمَالُ الصالحة، وبها ظُلْمَةٌ يُبدِّدُها تَدارُكُ الموَاسِمِ السَّانِحة، فلا تغُرَّنَّكمُ الحياةُ الدُّنيا، ولا تُلهيَنَّكُمْ عن الآخِرة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
عباد الله: هذه عشركم، وهذا شهركم، وهذا وقتكم في عبادة ربكم، هذه فرصتكم وهذه غنيمتكم، وقد تفضل الله عليكم بإحيائكم بدخول وقتكم هذا، فدخلتم في أفضل عشر ليالي في السنة، وهي هذه الليالي، فمن عرف قدر النعمة عَمِلَ لها، الذي يعرف قدر بلوغ هذه العشر سيهتم بها، والذي لا يعرف ستمر عليه كبقية الليالي والأيام.
لمّا علم ربنا –سبحانه- قِصَر أعمارنا بالنسبة إلى من قبلنا جعل لنا هذه الليلة -التي عبادتها أفضل من عبادة ثلاث وثمانين سنة خيرًا من ألف شهر، فأي نعمة أعظم من نعمة المضاعفة! وبلوغ وقتها، ونفحاتها.
عباد الله: إن عبادة الله تعالى والتقرب إليه هي وظيفتنا، والتي لأجلها خُلق الخلق، ولذا فإن القيام بهذه الوظيفة في هذا الوقت مكسب عظيم، عندما تُقبل -يا عبد الله- على ربك، عندما تناجيه وتناديه، وترفع يديك وتدعوه، وتلجأ إليه، وتُظهر الافتقار، وتُظهر الحاجة، فإن ربك يحب مَن يُقبل عليه، ويتضرع إليه، ويناشده ويلح عليه، ويسأله بأسمائه وصفاته وقلبه منكسر يقول: "أبوء لك بنعمتك عليَّ -يعني يعترف- وأبوء بذنبي فاغفر لي"، ويسأل ويثني: "إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
هذا ما يريده الرب، الدعاء هو العبادة: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) يعني عن دعائي؛ لأن ترك الدعاء كِبْر، والإقبال على الله تواضع، والناس يتبرمون من الإلحاح، والله يحب الملحين.
يا عبد الله: اعرف شرف زمانك، واعرف قدره، هذا أوان الصلاة والوقوف بين يدي الله -سبحانه وتعالى-، هذا هو السوق الرابح فماذا عملنا؟!
يا مسلم: تفكّر في نفسك أين التنافس في الخيرات؟! أين المسارعة؟! (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أين المسابقة؟! (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) عندما يتنوع الذكر على اللسان، فتارة تسبيحًا، وتارة تهليلاً، وتارة تكبيرًا، وتارة تحميدًا، عندما يتنوع الذكر على اللسان يرضى الرحمن، وعندما تتعدد الحاجات بالسؤال، فإن الله -سبحانه وتعالى- يرضى بذلك، عندما تقبل عليه فتقرأ كلامه، عندما تخاطبه بكلامه، عندما تقبل عليه وأنت تذكر هذه الكلمات، وأنت تتلو.
وإن واجبك نحو نفسك لا يقل عن واجبك نحو أهلك: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) ونبينا -صلى الله عليه وسلم- ما كان يترك أحدًا من أهله إلا أقامه في هذه العشر، فإذا جاءت اعتكف، ولذلك شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله.
يا عبد الله: هذا هو معدن اللذة، هذا هو أوان السعادة؛ لأن قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) ليس في الجنة فقط، بل تشمل الدنيا أيضًا؛ لأن هناك نعيمًا في الدنيا من لم يذقه لم يذق نعيم الجنة.
إنه نعيم الأنس بالله، إنه نعيم الإقبال على الله، إنه نعيم ذكر الله، إنه نعيم تلاوة كلام الله، إنه نعيم التوبة إلى الله، إنه نعيم الاعتكاف في بيوت الله، إنه نعيم عظيم وأنت تذكر ربك وتتوب إليه.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قيل للحسن البصري: "ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهًا؟!"، قال: "لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره".هذه مكافأة معجلة وما عند الله خير وأبقى.
عبادالله:يدخل بعض الناس في القيام، فإن أطال الإمام جاء الملل والكسل، بينما لو جلس ساعتين متواصلة على فيلم لا يكاد يشعر بمرور الوقت!!
من الأسرار في ذلك أنه ما وجد اللذة في الصلاة بسبب عدم تذوق معاني الأذكار والآيات، وعدم استشعاره أنه بين يدي الله وأنه يناجيه.
عباد الله: نحتاج أن نعيش مع الله ومع كلامه، نحتاج إلى تطهير القلب قبل تطهير البدن، نحتاج أن نشعر بقيمة هذه الليالي التي لم يبق منها إلا القليل.
عباد الله ومن العبادات الجليلة:الاعتكاف الذي هو لزوم المسجد لطاعة الله، قال بعض السلف هو قطع العلائق عن الخلائق هذا هو الاعتكاف، قال ابن القيم: (مقصود الاعتكاف وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه والخلوة به، والانقطاع عن الانشغال بالخلق والاشتغال به وحده) فاقتدِ بنبيك ﷺ واحرص على هذه السنة ومن لم يتيسر له الاعتكاف العشر كلها، فليعتكف بعضها، مثل ليالي الأوتار منها، ومن لم يتيسر فليُطل مكثه في المسجد، وجمهور العلماء على أنه لا أقل حد للاعتكاف.
هذه فُرَص متى ستعود؟! بعد سنة، وما يدرينا أننا من الأحياء!!
الناس يموتون يا عباد الله كل يوم نصلي على جنائز، وما يدرينا أننا هنا أو لسنا هنا في العام القادم؟! ولذلك عندما نوطّن أنفسنا على لزوم المسجد لطاعة الله، تلاوةً لكلامه، وتفرغًا لدعائه، ولمحاسبة نفسك، والتوبة، والتفكر في آلائه وآياته وكتابه، والتدبر فيه.
أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنب فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ العَليِّ الأعلى، خَلَقَ فَسَوَّى، وقَدَّرَ فهَدَى، أحمدُ ربِّي وأشكرُه على نِعَمِهِ التي لا تُحْصَى، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شَرِيكَ له، وأشهَدُ أنَّ نبيِّنا محمدًا عَبْدُه ورَسُولُه، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.. أما بعد: فَاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله حَقَّ التَّقوَى وراقبوه في السر والعلانية، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
عباد الله:ليلة شريفة عظيمة(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ..)، (مَا أَدْرَاكَ) تعجبية،استفهام للتعجب:(وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) في شرفها، فالملائكة هابطة فيها وصاعدة، ما أدراك ما ليلة القدر في ثوابها! ما أدراك ما ليلة القدر في فضلها! ما أدراك ما ليلة القدر في هؤلاء العابدين فيها وما استودعوه فيها من أعمالهم وصلاتهم وإقبالهم!!
(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)مَنْ حُرم خيرها فقد حرم،ولايحرم خيرها إلا محروم، ولذلك قالت عائشة:أرأيت إن أدركت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟! قال:"قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"إذًا سؤال الله العفو.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "تحروا ليلة القدر"، والتحري الترقب، والتحري التشوق والانتظار، التحري يحتاج إلى تفرغ، أنت تتحرى الشيء فتترقبه وتنظره، وتنتظر ما فيه. كيف تتحرى؟! بأن تتفرغ لعبادة لعلك تصيبها، لعلك تصيب بركتها، خيرها، أجرها، ما فيها من هذه الفضائل العظيمة، تحروها في الأوتار، تحروها في العشر كلها.
(سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) سلام من العذاب، سلام هي لأصحابها وأهلها، سلام ما فيها مكدرات ولا منغصات ولا آلام ولا عذاب لأهلها؛ لأنهم سيذوقون نعيمًا عظيمًا لم يخطر لهم ببال.
مواسم تعطيك في كل سنة من عمرك عُمُرَ رجلٍ معمّر، تخيل أن عندك في كل سنة ثلاثًا وثمانين أُدخلت بهذه السنة، لو عشت خمسين سنة تترقب ليلة القدر وتعمل لها، فأنت قد أُعطيت عُمُرَ رجل معمر عمره ثلاث وثمانون سنة في كل رمضان. ويكون مجموعها أكثر من أربعة آلاف سنة ويمكن أن تدرك ستين أو سبعين سنة أو أكثر، كل سنة من هذه السنوات السبعين أُعطيت ثلاثًا وثمانين مدخلاً رصيدًا إضافيًّا فيه، (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ليست مساوية للألف، بل (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) فمن عرف الفضل بذل وعمل، من عرف الفضل صبر، من عرف الفضل تحمل، من عرف الفضل جاهد، وهكذا ليصيبها.
يتحراها لإصابتها، فإذا أصابها بدعاء، بتلاوة، بصلاة، باعتكاف، بتوبة، بمناشدة لربه، أصابها، فيا حظَّ من أصابها!! أَلا فَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم وَحَبِيبِكُم، وَأَقبِلُوا عَلَى رَبِّكُم وَخَالِقِكُم، وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَبِّكُم، واختموا شهركم بخير، فإن الأعمال بالخواتيم،
وإن اليَوْمَ عَمَلٌ ولا حِسَاب، وغدًا حِسَابٌ ولا عَمَل، (وتَزَوَّدُا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى). واعلموا أنَّ اللهَ أمرَكُم بأَمرٍ بدأ فيه بنفسِه، فقال تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين.. اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى أزواجه وذريَّته، اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، وعن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا،
اللهم تقبَّل منا صيامنا وقيامنا، اللهم تقبَّل منا الصيامَ والقيامَ، اللهمّ كما بلّغتنا أولَ هذا الشهر فبلّغنا آخِرَه، واجعلنا فيه من عتقائك من النار، يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
.
المرفقات
1681430772_العشر.doc
1681430774_العشر.pdf