خِتَامُ الشَّهْرِ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ المُتَفَضِّلِ بِالنِّعَمِ وَالآلاءِ، وَالمُتَفَرِّدِ وَحْدَهُ بِالدَّوَامِ وَالْبُقَاءِ بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَبِفَضْلِهِ تُنَالُ الْغَايَاتُ، وَبِرَحْمَتِهِ تَتَنَزَّلُ الرَّحَمَاتُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يومِ الدِّينِ، أمَّــا بَعْـدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) البقرة: [48].
أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللهِ في الأَكْوَانِ، لَيْسَ بَعْدَ الْكَمَالِ سِوَى النُّقْصَانِ، هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، قَد اضْمَحَلَّ هِلالُهُ، وانْفَرَطَ عِقْدُ زَمَانِهِ، أَفَلَتْ لَيَالِيهِ المُقْمِرَةُ، وخَفَتَتْ أيَّامُهُ المُشْرِقَةُ، لَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلا وَفِي قَلْبِهِ غُصَّةٌ لانْقِضَاءِ رَمَضَانَ، فَمَنْ جَدَّ وَدّ لَو اسْتَزَادَ، وَمَنْ قَصَّرَ تَمَنَّى لَوْ أُمْهِلَ أَوْ عَادَ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَبْقَى وَلَا يَفْنَى، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى.
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ تُطْوَى صَحَائِفُهُ، وتُجْمَعُ دَفَاتِرُهُ، فمنْ أَوْدَعَهُ عَمَلًا صَالِحًا، فَلْيُبْشِرْ بِالْجَزَاءِ الكامِلِ، ولْيَعْلَمْ أنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِل، ومَنْ فَرَّطَ وقَصَّرَ فَلْيَعْلَمْ أنَّ بَابَ التَّوْبَةِ أَعَمُّ وأَوْسَعُ، وَيَكْفِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ مَا مَضَى، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَضَِيِّعَ عُمُرَهُ سُدًى، قَالَ تَعَالَى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) طه: [82].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَلا زَالَتْ بَقِيَّةٌ ثَمِينَةٌ مِنَ الشَّهْرِ، وَلَيْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ، هِيَ لَيْلَتكم تِلْكَ، لَيْلَةُ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَهِيَ لَيْلَةٌ وِتْرِيَّةٌ، فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيرًا.
عِبَادَ اللهِ: وَإِنْ انْقَضَى شَهْرُ رَمَضَانَ، فَإِنَّ عَمَلَ الْمُؤْمِنِ لا يَنْقَضِي، قَالَ تَعَالَى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الحجر: [99] وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلّا مِن ثَلاثَةٍ...) أخرجه مسلم (1631) فَعَمَلُ الْعَبْدِ لا يَنْقَطِعُ بِرَمَضَانَ ولا بِغَيْرِهِ، إِنَّمَا يَنْقَطِعُ بِالمَوْتِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: (إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ المؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ المَوْت) الزهد لابن المبارك (ص18).
عِبَادَ اللهِ: وَمَعَ انْقِضَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ، نَسْتَخْلِصُ الدُّرُوسَ وَالْعِبَرَ، وَنَسْتَوْقِدُ مَشَاعِلَ الْفِكَرِ لِتَكُونَ عَوْنًا عَلَى اغْتِنَامِ قَادِمِ الأَيَّامِ، وَاسْتِثْمَارِ سَائِرِ أَوْقَاتِ الْعَامِ، وَمِنْ تِلْكَ الدُّرُوسِ:
أَوَّلًا: أَنَّ الصَّلاةَ أَهَمُّ المهمَّاتِ، وَرَأْسُ الْعِبَادَاتِ، التَّبْكِيرُ إِلَيْهَا عِبَادَةٌ، وَانْتِظَارُهَا بِالمَسْجِدِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، الْحِفَاظُ عَلَيْهَا أَمَارَةُ الإِيمَانِ، والتَّخَلُّفُ عَنْهَا دَلِيلُ الْغَبنِ وَالْخُسْرَانِ، أَمَا وَقَدْ عَمَّرْتُم المَسَاجِدَ في رَمَضَانَ، فَاحْذَرُوا مِنْ هَجْرِهَا، وَاحْرِصُوا عَلَى لُزُومِهَا، قَالَ تَعَالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) التوبة: [18].
ثَانِيًا: إِنَّ الْوَقْتَ رَأْسُ مَالِ المُسْلِمِ، وَزَادُهُ إِلَى اللهِ عزَّ وجلَّ، وَهُوَ كَنْزٌ ثَمِينٌ، فَضَنُّوا بِهِ عَن اللَّغْوِ وَالْعَبَثِ، واجْعَلُوا أَوْقَاتَكُمْ مَطِيَّةً لِلْوُصُولِ إِلَى رَبِّكُمْ، قَالَ تَعَالَى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْر وَأَبْقَى) الأعلى: [16-17].
ثَالِثًا: إِنَّ مِنْ مَكَاسِبِ الْعَبْدِ فِي رَمَضَان، أَنْ هَذَّبَ نَفْسَهُ بِالصِّيَامِ، وَأَلْجَمَ جَوَارِحَهُ عَن الْحَرَامِ، وَغَدَا لِسَانُهُ بِالذِّكْرِ رَطْبًا طَرِيًا، وَقَلْبُهُ بِالْقُرْآَنِ عَامِرًا حَيًّا، فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ يَجِفَّ لِسَانُكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ طَرِيًّا، أَوْ يَفْسَد قَلْبُكَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى نَقِيًّا ، وَاسْأَلُوا اللهَ الثَّبَاتَ، فَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: (يَا مُقلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) أخرجه الترمذي (3522) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3522).
سَادِسًا: اعْلَمْ -رَعَاكَ اللهُ- أَنَّ مِنْ عَلامَاتِ قبُولِ الطَّاعَةِ في رمضَانَ استمرارَ العبدِ عليهَا بَعْدَ رَمَضَان، فَأَتْبِعُوا الْحَسَنَةَ بِمِثْلِهَا تكونُ علامةً على قبولِهَا، وأَتْبِعُوا السَّيّةَ الْحَسَنَةَ تكونُ كَفَّارَةً لهَا، (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) هود: [114].
أيُّهَا الصَّائِمُونَ: اعْلَمُوا أَنَّ مِمَّا يُشْرَعُ لَكُمْ في خِتَامِ شَهْرِكُمْ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكَبِيرِ والصَّغِيرِ، والذَّكَرِ والأُنْثَى، والحُرِّ والْعَبْدِ، ويُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهَا عن الحملِ في بَطْنِ أُمِّهِ إذَا نُفختْ فيه الروحُ؛ لِحَدِيثِ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (فرَض رسولُ الله ﷺ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمرٍ أوْ صَاعًا مِنْ شَعيرٍ على الْعبدِ والحُرِّ، والذَّكرِ والأنثى، والصَّغيرِ والكبيرِ مِنَ المسلمينَ، وأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤدَّى قَبْلَ خُروجِ النَّاسِ إلى الصَّلاةِ) رواه البخاري (1503) ومسلم (984- 986) فطيبوا بها نفسًا، واطلبوا بها أجرًا.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرِّجِيمِ: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) الأعلى: [14-15].
أقولُ قَوْلِي هَذا، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، ولِسَائِرِ المُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وتوبوا إليه، إنَّ رَبِّي كَانَ غَفَّارًا.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة: الحمدُ للهِ رب العالمين، وأشهدُ ألّا إلهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ: واعْلَمُوا أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ بِغُرُوبِ شَمْسِ آَخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَان، والسُّنَّةُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ صَّلاةِ العيد، فَفِي الْحَدِيثِ: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغوِ والرَّفَثِ وطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ) أخرجه أبو داود (1609)وحسنه الألباني. ويجُوزُ تَوْكِيلُ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ والمِنَصَّاتِ الرَّسْمِيَّةِ في إِخْرَاجِ زكاةِ الْفِطْرِ، وتَبْرَأُ الذِّمَّةُ بذَلِكَ عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا يُشْرَعُ لَكُمْ في خِتَامِ شَهْرِكُمْ، تَكْبِيرُ اللهِ عزَّ وجلَّ وَشُكْرُهُ، قَالَ تَعَالى: (وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) البقرة:[185] وَيَبْدَأُ التَّكْبِيرُ بِغُرُوبِ شَمْسِ لَيْلَةِ الْعِيدِ حَتَّى يَخْرُجَ الإِمَامُ لِلصَّلاةِ. رزقنَا الله وإيَّاكُم الإخلاصَ والقبول إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلامَ والمسْلِمِينَ وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ ووَلِيَّ عَهْدِهِ وإِخْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، واحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الجمعة 28 /9 /1446هـ