ختام الشهر الكريم 24-9-1444هـ
محمد آل مداوي
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ..
أمَّا بعدُ عِبادَ الله: فَأُوصِيكُمْ ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالى، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ الله، فوصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلِينَ والآخِرِينَ تَقْوَاه، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).. التَّقْوَى ثَمَرَةُ الصَّومِ العُظْمَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).. فمَا أَعْظَمَ سَعَادَةَ مَنِ اكْتَسَبَ بِصِيَامِهِ تَقْوَى اللهِ عزَّ وجَل! ومَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ حُرِمَ تَقْوَى الصِّيَام، وكانَ حَظُّهُ مِنْ رَمَضَانَ الجُوعَ والعَطَش!: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
أيُّها المُسْلِمُون: هَا هِيَ أيَّامُ الشَّهْرِ الفَضِيلِ تُسَارِعُ بالرَّحِيل، هِيَ كمَا وَصَفَهَا اللهُ (أَيَّامًا مَعدُودَاتٍ)، تَمْضِي سَرِيعًا وكَأنَّها سُوَيْعَات! فلِلَّهِ الحَمْدُ عَلَى ما بَلَّغَنَا مِنْهَا، ولَهُ الشُّكْرُ عَلَى ما وَفَّقَنا إليهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِيهَا، ونَسْأَلُهُ تَعَالى المَغْفِرَة، وقَبُولَ مَا فَاتَ وانْقَضَى، والتَّوْفِيقَ للازْدِيَادِ مِنَ الصَّالِحَاتِ فِيمَا بَقِي.
عِبادَ الله: وإنَّ مِنْ لُطْفِ اللهِ عَزَّ وجَل: أَنْ خَصَّ خَوَاتِيمَ الشَّهْرِ بِأَعْمَالٍ جَلِيلَة، وأُجُورٍ جَزِيلَة، مِنْ أهَمِّها وأَظْهَرِها: مَا خَصَّها بهِ مِنْ عِظَمِ الرَّجَاءِ في لَيْلَةِ القَدْر، فتَحَرِّيها مِنْ أَجَلِّ الأعْمَالِ في هَذهِ الليالي؛ لِمَا عُلِمَ مِنْ فَضْلِهَا وشَرَفِهَا، وعَظِيمِ قَدْرِها ومَنزِلَتِها، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).
ولهذا كانَ نبيُّنا محمدٌ r ثُمَّ الصَّالِحونَ مِنْ بَعْدِه، يَخُصُّونَ هَذهِ الليَالي بِمَزِيدٍ مِنَ الاجْتِهَاد؛ يَرجُونَ أجْرَها، ويَتَحَرَّوْنَ فَضْلَها، قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه).
عِبادَ الله: بَقِيَتْ لَيَالٍ هِيَ أَرْجَى مَا تَكُونُ لِلَيْلَةِ القَدْر؛ فَجِدُّوا وشَمِّروا، ولا تَتَوَاكَلوا؛ فكُلُّ لَيَالي العَشْرِ حَرِيَّةٌ بها، وأَرْجَاها لَيَالي الوِتْر، وأَرْجَاهُنَّ لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِين، وفي كُلِّ لَيْلَةٍ للهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّار، عَنْ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها أنَّ رَسُولَ اللهِ r قال: (تَحَرَّوا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَان) متفق عليه.
أيُّها المُسلِمون: اسْتَعِيذُوا باللهِ أنْ تَمُرَّ بِكُمْ مَوَاسِمُ الخَيْرَاتِ وسَاعَاتُ النَّفَحَاتِ؛ ثُمَّ لا تَزْدَادُوا هُدَى.. وحَذَارِ أنْ يكونَ أَحَدُنا مِمَّنْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ وسَمْعِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة! فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله؟!
بَقِيَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ أيَّامٌ مُبَارَكَاتٌ، ولَيَالٍ فَاضِلَاتٌ، وسَاعَاتٌ غَالِيَاتٌ، بَقِيَتْ مِنَحٌ وهِبَات، وأُجُورٌ وأُعْطِيَات، ونَحْنُ نَتَعَامَلُ مَعَ رَبٍّ رَحِيمٍ، وإلَهٍ كَرِيمٍ.. ولَوْ لم يَبْقَ في هَذَا الشَّهْرِ المُبَارَكِ إلاَّ دَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ فما الَّذي يَصْرِفُنَا عَنِ اغْتِنَامِهَا؟! وهَلْ تَعُودُ عَلَيْنَا أيَّامُ الشَّهْرِ أو لا تَعُود؟! ومَنْ هُوَ المَقْبُولُ مِنَّا ومَنْ هُوَ المَرْدُود؟!.
فأَحْسِنُوا الخِتَامَ، خَتَمَ اللهُ لَنَا ولَكُمْ بالحُسْنَى، واحَرِصُوا عَلَى سُنَّةِ الاعْتِكَاف، بِلُزُومِ المَسْجِدِ طَاعَةً لله، ولو لِسَاعَاتٍ قَلِيلَة، وخُصُوصًا في الَّليَالي الفَرْدِيَّة.. أَلِحُّوا عَلَى اللهِ بالدُّعَاءِ فإنَّهُ يُحِبُّ المُلِحِّين.. تَضَرَّعُوا لَهُ وارْجُوه، وانْطَرِحُوا بينَ يَدَيْهِ سُبْحَانَهُ واسْتَغْفِرُوه، اطْلُبُوا خَيْرَي الدُّنْيَا والآخِرَةِ لأنفُسِكُمْ ولأَهْلِيكُمْ وقَرَابَتِكُمْ، ولِبِلَادِكُمْ ولِمَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ، ولِلْمُسْلِمِين.
(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ* وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَليُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ).
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقولُ قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا ويَرْضَى، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُه، صَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ وبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ ومَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إلى يَوْمِ الدِّين.. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
واعْلَمُوا أنَّ لَكُمْ في خِتَامِ شَهْرِكُمْ عِبَادَاتٍ جَلِيلَةً، تَعْمَلُونَ بها شُكْرًا لِرَبِّكُم، فتَزْدَادُونَ مِنهُ قُربًا، ويَمنَحُكُمْ وُدًّا وحُبًّا؛ مِنْ ذَلِك: زَكَاةُ الفِطْر، وهِيَ صَاعٌ مِنْ قُوتِكُم، عَلَى الصَّغِيرِ والكَبِيرِ، والذَّكَرِ والأُنثَى، والغَنيِّ والفَقِير، شَرَعَهَا اللهُ تعالى تَكْمِيلاً للصِّيَام، وشُكْرًا لهُ على إكْمَالِ العِدَّة، وطُهْرَةً للصَّائمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفَث، ومُوَاسَاةً للفُقَرَاءِ والمَسَاكِين، وإغْنَاءً لهم عَنْ ذُلِّ الحَاجَةِ والسُّؤَالِ يَوْمَ العِيد.. ووَقْتُ إخْرَاجِهَا مِنْ ثُبُوتِ خَبَرِ العِيدِ إلى صَلاةِ العِيد، ويجوزُ إخرَاجُهَا قبلَ العِيدِ بِيَومٍ أو يومَين، فَأَخرِجُوها مِنْ طَيِّبِ قُوتِكُم، وابْذُلُوهَا طَيِّبَةً بها نُفُوسُكُم.
ومِمَّا شُرِعَ لكم في خِتَامِ شَهرِكُم: صَلاةُ العِيدِ، أَمَرَ بها رَسُولُ اللهِ r الرِّجالَ والنِّساء، حَتَّى العَوَاتِقُ وذَوَاتُ الخُدُورِ والحُيَّضُ، أُمِرنَ بِشُهُودِهَا لِيَشْهَدْنَ الخيرَ ودَعْوَةَ المُسلِمِين.
وإذَا اجْتَمَعَ العِيدُ والجُمُعَةُ في يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَإنَّهُ يُرَخَّصُ لِمَنْ حَضَرَ صَلَاةَ العِيدِ في عَدَمِ حُضُورِ صَلَاةِ الجُمُعَة، ويَجِبُ عَلَيهِ أَنْ يُصَلِّيَها ظُهْرًا في وَقْتِ الظُّهر، وإنْ أَخَذَ بالعَزِيمَةِ فَصَلَّى العِيدَ والجُمُعَةَ فَهُوَ أَفْضَلُ وأَكْمَل.
ألَا فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ الله.. هَنِيئًا لِمَنِ احتَسَبَ صِيَامَهُ وقِيَامَه، وعَمَّرَ بالطَّاعَاتِ لَيَالِيَهُ وأيَّامَه، وتَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا يُكَفِّرُ اللهُ بها ذُنُوبَهُ وآثَامَه، ذاكَ هُوَ الذي يَحِقُّ لهُ الفَرَحُ بالعِيد، والسُّرُورُ بِلِبْسِ الجَدِيد، فاللهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليهِ عِبَادَكَ الصَّالحين، واغفِرْ لنا ولِوَالدِينا ولجميعِ المُسلِمين.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقالَ في محكمِ التّنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، وهيئ لهما البطانة الصالحة، اللهم كن لهم مؤيدا وظهيرا، ومُعينًا ونصيرا، يا رب العالمين.
اللهم يا قوي يا عزيز؛ اُنْصُر جنودنا، اللهم اِرْبِطْ على قلوبـهم، وثبِّت أقدامهم، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وشمائلهم ومن فوقهم، ونعيذهم بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم يا رب العالمين.
اللهم اكتبنا فيمن صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابا، وفيمن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابا، واختم لنا شهر رمضان برضوانك، والعتق من نيرانك، واجعلنا فيه من الفائزين، وأعده علينا أعوامًا عديدة، في صحة وسلامة وعافية، يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
.